بيني وبينكم 2012

بينى وبينكم 2012 الحلقة السادسة والعشرون سيكولوجية الانسان الملحد ج 2

 

سيكولوجية الانسان الملحد ج2

قلتُ: إذن أخلص من كل ما سبق إلى أن الإلحاد هو نتيجة طبيعية لذلك المجتمع الذي يتربى فيه الإنسان على التربية الحدية، وأن الإلحاد يأخذ بعداً نفسياً، أكثر من كونه بعداً فكرياً…

لستُ مبالغاً إن قلتُ، إن هذا الكلام جديد عليّ!!

فقال: أنا لم أغلبه، ولكنني كمختص نفسي أمام قامة فكرية مثلك أعطي البعد النفسي للقضية،  وفي المقابل ﻻ أستطيع أن أحدد وأقول إن البعد النفسي أكثر من البعد الفكري، لأنني لست مختصاً فكرياً مثلك، فأنت تعرف مساحة الجانب الفكري في الإلحاد، وأنا أعطي المساحة النفسية في الإلحاد، وأما أيهما أكبر مساحة: هذا، أو ذاك؟ فلا يمكنني الجزم به، ولعلك مثلي في ذلك، وتوافقني الرأي، فالمساحة التي عندي أنت ﻻ تراها، وكذا المساحة التي عندك أنا ﻻ أراها، ولكننا نقدم التفسير لهذه الظاهرة، وقد يأتي مختص اجتماعي فيراها من زاويته، ومختص شرعي فيراها من زاوية أخرى، وهكذا…

إذن لماذا نفترض بعداً واحداً؟!! بل هي تعددية الأبعاد، ومن هنا أنا آتي ببعدي، وأقول: انتبهوا من الشخصية الحدية، والجانب السلطوي في التفكير، فإذا أتى مفكر ثقافي، أصبح عنده البعد النفسي الذي قلته أنا، والبعد الاجتماعي الذي قاله الاجتماعي، والبعد الفقهي الذي قاله الفقيه، فتأتي أنت كمفكر وتأخذ هذه الأبعاد، وتجعل تعددية الأبعاد في التعامل مع فكر الإلحاد…

ومن هنا فنحن نقدم تفسيراً ﻻ تبريراً للإلحاد؛ لكي نبدأ بالوقاية والعلاج.

قلتُ: كلام جميل، ولذلك عندما أتكلم عن الإرهاب، ولماذا قام فلان بالعملية الإرهابية؟ وأجيب أن دوافعه كذا وكذا، فأنا في هذه الحال لا أبرر تلك الأعمال لأصحابها، وإنما أريد فهم الظاهرة، لمحاولة علاجها.

سؤالي القادم قد يضعك في مرمى النقد:

في كتابك: التربية الدينية في المجتمع السعودي، تكلمتَ عن أنواع الشخصيات غير السويّة وذكرتَ 14 شخصية تقريباً، كالشخصية الفصامية، وشبه الفصامية، والشكاكة، والحدية، والنرجسية، والهستيرية، والسيكوباتية،…. الخ.

فأنت عندما تقول: أنواع غير سوية، وقد أدخلت الملحد أو المتطرف، أياًّ كان، في الشخصية الحدية، ألا تخشى من غضبة هؤلاء عليك، حيث جعلتهم مرضى؟!!

فقال: نعم أنا ذكرتُ ذلك، وبينتُ أن الحدية في طريقة التفكير هي أحد تفسيرات ظاهرة الإلحاد، ولكنني ذكرتُ عن شوبن هاور الذي وصف المرأة بأنها أفعى لينة الملمس، أنه كان شاذًّا جنسياً، فالذي أقوله: إن الطبيعة النفسية، والطبيعة الشخصية، أضف إليها المرادات، وغيرها، كلها تشكل قراراتي في الحياة.

(الإشكالية حينما يأتي الأنقياء، وينظر إلى المفكرون ينظرون إليهم بنقائهم، يفترض أن ذلك المفكر أتى بنقاء فكري)، قد يكون تفاعلات نفسية، حتى رواد الفكر الإسلامي المحدثين، بل والسابقين بعض أفكارهم نتاج لرؤية شخصية معينة.

فمثلاً: الأصفهاني ذكر في كتابه: فصل في فضل وأد البنات، والبعد عنهن!! مع أننا نستشهد في بعض كتاباته، كذلك الماوردي، وغيره، عن البحث والقراءة في تراثهم تجد فكراً غريباً في بعض القضايا.

الإشكالية تكمن في إعطاء القداسة لما هو غير مقدس، إعطاء القداسة لما هو سابق. هذا أمر.

والأمر الآخر: إعطاء القداسة لما هو غير القرآن، وإعطاء القداسة أيضاً لتفسير شيء من القرآن، أو تفسير السنة.

القداسة للقرآن، وللصحيح من السنة، أما التفسير فقد يكون صحيحاً، وقد يكون غير ذلك، فإذا نال الصحة، فإنه لا ينال القداسة، حتى ﻻ نؤثر على المتلقي.

لماذا نعطي القداسة؟

لأن سيكولوجية شيخ القبيلة في المجتمع العربي عموماً تقوم على أن شيخ القبيلة ﻻ يخطئ، ويجب أن يسمع له، ويطاع!! ولذلك يلجأ الإنسان في بنيته النفسية في المجتمع العربي، وغيره، بل حتى الملحد تجده في بعض الأمور يلجأ إلى إله خفي، وهذا الإله الخفي يحتاج إليه الملحد، لكنه ربما أعطاه اسماً آخر!!

ولذلك يجب علينا أن نفطن إلى أن ذلك الرفض ربما كان رفضاً نفسي المنشأ، كي نحقق المعادلة، ونساعد أبناءنا، فنحن نرجو الله سبحانه وتعالى أن يعيننا في دفع عجلتهم للعودة إلى عقلية الصواب في التعامل مع القضية.

ولذلك نحن نركز على مسألة الأدبيات، وعلى فكرة الدين الأصلية، هذه هي الأساسيات، ونناقش الملحد في النقاط المشتركة، ﻻ في نقاط الخلاف، وهذا أمر يجب أن نتنبه إليه، فحينما تريد أن تناقش شاباً ملحداً، ﻻ تبدأ معه بنقاط الخلاف، فهذا خطأ واضح، وإنما ابدأ معه بالمتفق عليه، هذه أدبية حوارية أساسية، لكننا نغفل عنها في أكثر الأحيان.

قلتُ: صدقتَ، فالجدل العقلي ﻻ بد أن يتفق على منطلقاته، وكلامي هنا عن البعد الفلسفي المنطقي.

فقال: بالضبط، فمثلاً من نقاط الشراكة بيننا وبين الملحد: مصلحة المجتمع، مصلحة الوطن، السعي إلى السعادة، وغيرها، فلا نتكلم إلا في هذا المحيط، وننطلق منه.

الإشكالية أننا نبدأ من نقاط الخلاف، أنت فعلتَ، وأنت قلتَ، فأنت بهذه الطريقة تحفز الأجسام المضادة للخلاف عنده.

قلتُ: السيل الذي تفضلتَ به من الشرح في قضية المقدس يقودنا إلى سؤال مهم، وهو:

هذا العربي الذي تمرد على الدين، وألحد إلحاداً مادياً عنيفاً، ما باله يستبدل مقدساً بمقدس آخر؟

فقال: لأن الإنسان في بنيته النفسية ﻻ يستطيع أن يعيش بدون مركبه الثالث، فالإنسان عنده ثلاثة أجزاء من المركب: البعد النفسي، والروحي، والمادي.

ولذلك إذا جئنا لأطروحة الإسلام، وجدناها تحافظ على هذه الثلاثية في تناسقها، فإذا اختل أحد هذه الأركان الثلاثية، فإنه يعوض من بقية الأركان…

فمثلاً: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حينما صعد على نخلة، وإذا بالصحابة ينظرون إلى دقة ساقيه، فضحكوا من دقة ساقيه.

هنا الركن الجسدي فيه ضعف ظاهر، فإما أن ننفخ ساقيه!! وهذا أمر مستحيل، أو أن نعوّض النقص من الأركان الأخرى.

ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟! قال: (إنها أثقل في الميزان من جبل أحد)، فعوض ذلك النقص الجسدي المادي بالبعد النفسي، والروحي.

إذن هي كمركبة فضاء، لو كسرت رِجل، مالت المركبة كي تقف، هذه هي بنية الإنسان عموماً، ولذلك كان لزاماً على الإنسان أن يملأ البعد الروحي، ولو بعبادة حجر، أو غيره.

قلتُ: وهل البعد النفسي والروحي حاجة من حاجات الإنسان، حتى في الغيبيات؟!!

فقال: البعد النفسي غير البعد الروحي تماماً.

قلتُ: هل الغيب حاجة نفسية؟!

فقال: هي ضرورة! والإنسان ﻻ يعيش بدون الغيب.

قلتُ: إن سمحتَ لي بذكر مثال، ومن ثَم تعلق عليه….

الدكتور عبد الوهاب المسيري يقول: عندما تعلم المجتمع الغربي، واحتال على الغيب، عوض الغيب بطريقة جديدة، فمثلاً: آل ريجن عندهم قارئة الفنجال، وهي أسرة رأسمالية ضخمة، وعندهم قراءة الكف، واستشراف المستقبل، وبدأ ينتشر عندهم الإيمان بالأبراج، والإيمان بالأطباق الطائرة، فبدأوا يؤمنون بالغيب، ويتسع هذا الإيمان عندهم…

فهو يعلل ذلك بقوله: لأن الغيب حاجة نفسية، إلا أن الإيمان يستدعي تكاليفاً، من صلاة، وصيام، وامتناع عن محرمات، فاختاروا إيماناً يتكيف مع العلمانية المنفرطة عن الواجبات، أي: إيمان بلا أعباء!! تعليقك؟

فقال: هذا تفسير من التفسيرات الجميلة؛ ولكن هناك تفسير إضافي لمثل هذا الأمر، يمكن إضافته في هذه المسألة، وهو أن المجتمع الغربي مجتمع رأسمالي، والحاجة إلى الغيب ضرورة، فما استطاع أن ينفك عنها، فأراد أن يأخذها مجمركة بالرأسمالية، فأخذ الغيبية بما ﻻ تتعارض مع الرأسمالية.

فالغيبية الدينية في الإسلام أو في المسيحية لو فرضت فإنها ستسيطر على الرأسمالية؛ لأن الدين عبارة عن منهج حياة، ولذلك أخذ الغيبية التي ﻻ تمنهج الحياة، كقراءة الفنجال، وغيرها من الأمور، وجعل علاقة الغيب علاقة شخصية بين الفرد وربه، ﻻ علاقة مجتمعية بين الفرد أو المجتمع وربه؛ فلذلك هم عاشوا بهذه الطريقة بنظرهم.

الأمر الآخر: أن العلمانية في المجتمع الغربي لم تكن فعلاً، إنما كانت ردة فعل، هذا من وجهة نظري، فلم تكن في كل أحوالها تطوراً في التعامل، وإنما في بعضها هي ردة فعل على طريقة الكنيسة، والذي أخافه حقيقة أن ما حدث في المجتمع الغربي كردة فعل على الكنيسة، أن يحدث في المجتمع الإسلامي كردة  فعل على طريقة التدين!!

قلتُ: بما أننا اتفقنا بأن أي ظاهرة بما في ذلك الإلحاد أو التمرد على الدين ﻻ تفسر بسبب واحد، فهي ليست ظاهرة مادية نبحث لها عن دوافع، وأسباب كامنة، بل هي ظاهرة مداورة…

فهل من الممكن أن يرفض الإنسان دينه؛ بسبب مجموعة ممارسات دينية خاطئة، سواء في البيت، أو في العمل، أو في واقع الحياة، مما يؤدي إلى تولد إنسان يثور على مبدئه الذي هو مقتنع فيه يقيناً أنه حق،  هل هذه ازدواجية؟!!

فقال: كلاّ، ليست ازدواجية.

قلتُ: كيف لا تكون ازدواجية، وأنا في الحقيقة قد خالفتُ ما أعتقده حقاً يقيناً، لأن والدي مثلاً، أو تيار معين، أو معاملات المجتمع المتدين كانت خاطئة؟!

فقال: ﻻ،  ليست ازدواجية! لماذا؟ لأن هذا الذي نسميه ملحداً، يعارض طريقة الأب، أو المجتمع، باستخدام طريقة معارضة أخرى، لكنه بحد ذاته يعلن الإلحاد، إلا أنه قد يكون ممن يقرأ الفنجال، ويؤمن بالأبراج وغيرها!!

إذن هناك إيمان بالغيب عنده، لكن الذي تغير من وجهة نظره هو الإله! فكما أن الأديان صارت يهودية، ومسيحية، وإسلاماً، فكذلك هذه الطريقة…

هنا لفتة مهمة: فلو جئت لملحد الخليج، فهو حينما يعبر عن إلحاده، هل يقدم فكرة، أم أنه يقدم نقداً لطريقة التدين في المجتمع؟!! لا شك أن الجواب هو الثاني، فتعبيره عن إلحاده هو تعبير عن نقد لطريقة التدين في المجتمع، وطريقة تعاطيه مع الدين، وهذا ليس نقداً للدين في الحقيقة، وإنما لطريقة التعاطي.

قلتُ: والدليل على ذلك أن مجموعات الإلحاد في النت وغيره، ﻻ يكتفون بالدعوة إلى الإلحاد، وإنما تظهر عندهم نفسية المنتقم!!

فقال: هذا هو مركب العدوان، فالطرح القرآني يقول:{ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءً}، فبعضهم يريد أن يوسع قاعدته؛ حتى ﻻ يشعر بالشذوذ، هذه واحدة.

والبعض الآخر-وهذا تفسير ربما يكون غريباً بعض الشيء- لديه عدوانية تجاه ذاته، لكنه ﻻ يستطيع أن يوجهها للذات، فيوجهها للآخر!

ومن هو الآخر؟

إنه المجتمع، فأحياناً تكون لديه عدوانية تجاه مصدر السلطة، كالأب مثلاً، المؤسسة السياسية، فلا يستطيع توجيهها لهؤلاء، فيوجهها للإسلاميين أو غيرهم، ولذلك ربما تحرك السياسيون في هذه المنطقة، مستغلين الحيل الدفاعية، دون أن يدري الناس!

قلتُ: دعني أعود إلى قضية الغيب في النفس البشرية…

هناك مقالة جميلة قرأتها في كتاب: دراسات معرفية في الحداثة الغربية، أطلق فيها بروكس مصطلح الإله الخفي على ظاهرة عجيبة، وهي أن المجتمع الغربي المادي مجتمع يؤمن بالحرية الشخصية المنفتحة، مجتمع يؤمن بأن العلاقات الجنسية شيء طبيعي، وفي الوقت ذاته تجد هذا المجتمع يغضب، ويتخذ موقفاً حادًّا من رئيس الجمهورية، أو من ابن الأسرة المالكة في بريطانيا، لأن له علاقات محرمة، ولو كانت قديمة! فلماذا يحدث ذلك، وهو مجتمع علماني؟!

فقال: هذا المجتمع لم يكن جديداً في طريقته!!

فمثلاً: عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان له قبل الإسلام إله من تمر يعبده، فإذا جاع أكله!! إذن هي عبارة عن توازن في كفة ميزان إلهي وشهواتي، فترتفع هذه، وتنزل هذه، وتتغير.

فالإله هو تعريف مطاطي، تتفق المجتمعات على تعريفه أحياناً، وأحياناً يدخل عندنا علم البارا سيكولوجي، فيكون هو الإله لتلك المجتمعات، التي فيها التنجيم، وفيها التوارد عن بعد، وكذا.

مفهوم الإله ﻻ نضيفه على المفهوم العربي أو الإسلامي، الله سبحانه وتعالى في قداسته في مفهوم الإله في البعد النفسي هو القوة الخارقة.

إذن؛ إذا انطلقنا من البعد النفسي في مفهوم الإله، وليس هذا تأييداً لطريقة التعبد، أقول أنا عبادتي الله سبحانه وتعالى، فلذلك المجتمع الغربي ليس مبعثراً بالطريقة التي تذكرها فحسب، بل أكثر من ذلك! فالفنان الذي هو رمز الفسق والفجور، لو له علاقات فإنهم يرفضونه، مع أنه رمز الفسق! فلماذا فعل كذا وكذا؟!! أن تكون له خليلة خاصة، فنعم؛ ولكن أن يرتبط بعلاقة مع أكثر من واحدة، فهذا مرفوض تماماً!!

كذلك لو أتينا إلى القسيس، فإنه يمنع من أي علاقة، وربما حتى من الزواج!!

إذن الإشكالية في الحرية وإعادة تعريفها، ومعنى الصواب، والخطأ في المجتمع…

فأحياناً تكون الأمور عبارة عن أوراق قص ولزق، وهذا تعريف معين، فإذا أردتَ إدخال الأوراق ببعضها تتبعثر الأمور…

فلماذا تنتقد الفنان، وهو محط الفسق؟!

وإذا كنتَ تؤمن بالحرية، فلماذا لا تعممها على الجميع، حتى القسيس؟!!

وإذا أنت أزلتَ الدين عن هذا، لماذا تعاتبه وتفضحه في كل مكان؟!!

ثم إن الأسرة المالكة أليسوا بشراً؟!

هذا كله يعود إلى ماذا؟! إلى أن القداسة وقيمتها باقية في الإنسان.

الأمر الآخر: أنه قد تختلط القداسة بالشهرة في نفسية الإنسان، فالمشهور يأخذ شكلاً من ظلال القداسة، ولذلك قد يحاسب المشهور على شيء، ﻻ يحاسب عليه غيره. لماذا؟

لأن شيئاً في فطرة الإنسان يدعوه للبحث عن الرمزية الروحية، التي فيها شيء من نكهة الإله! ولذلك وجدنا تلك المجتمعات تضيف نكهة الإله لرموزها الملوك، أو غيرهم من المشاهير، أو حتى لاعبي كرة القدم، ولذلك فالناس تنبهر بهم.

فالحاجة إلى الجانب الروحي هو أحد تلك الأسباب، وهذا السبب ربما لم يستطع أن يجده حتى في المجتمع المسلم، الذي يؤمن بالله تعالى؛ لأن تصوير الله جل وعلا في حسّه أخذ صورة الجلاد صاحب السوط، ولذلك فهو يلجأ إلى اللاعب، أو الفنان الرحيم، فيحبه، ويتعلق به، ويفعل ما يأمرنه به، ويترك ما ينهاه عنه. لماذا؟

لأنه بحث من الجانب الروحي عن الإله الرحيم، فلم يجده في الإله الحقيقي الذي صوّر له أنه شخصية ذات سوط، ولذلك عندما جاء العلم الغربي، أو الدعوة العربية الحاضنة الآن للدين المسيحي لم يأتِ بالإله ذي السوط ، كما هو في الكنيسة عندهم قديماً، بل جاء بالإله صاحب الأدبيات من التعاون، والمحبة، والأخوة، وقدموها لهم، لأنها تتناغم مع الطريقة الرأسمالية، ومع رفض المسيحية السابقة بشكلها السابق.

قلتُ: كلامك يتوافق تماماً مع كلام فريدريك نيتشة…

هذا الرجل هو أكبر ثائر ليس على الدين فحسب، بل على كل الثوابت، وعلى التاريخ…

هذا الرجل هو الذي أطلق مقولة موت الإله…

إلا أن الدارس المتفحص يرى أنه كان يثور على دين خاص، وعلى تدين معين، ومع ذلك في آخر أيامه كان يقول لعشيقته: إنه يبحث عن الحقيقة! ويقارن بين مقدس ومقدس آخر!!

هذا الرجل الذي صور نفسه عارياً على شكل تمثال!! كان يتمنى أن يأتي اليوم الذي يمشي فيه عارياً في الشوارع، ويتحدى كل مُثُل المجتمع!!

هذا الرجل الذي تتكلم اليوم عن قضية تشخيص ينطبق على هذا الإنسان، هذا الرجل القوي جداً، بعض الدراسات النفسية من الملاحدة أنفسهم كبرنارت راسل أشرس ملحد أثناء الحرب العالمية يرى أن برنارد شو ضعيف وأن فلسفة القوة التي عنده والسوبرمان هذا دليل على ضعفه ويحاول يدلل على ضعفه ﻻحتقاره كل من سبق، ولسلطته وتبنيه لكل طاغوت وﻻحتقاره للمرأة أيضاً، كيف ترى ذلك؟

فقال: بالنسبة لنيتشال، وفكره وطريقته، فإننا ﻻ يمكن أن نحكم عليه تماماً في قياس الناس هؤلاء إلا بمقابلة شخصية، حتى يكون التقييم دقيقاً، فأحياناً الكتب ﻻ تفي بالغرض.

قلتُ: ولكن أليس هنالك شيء يسمى طباعاً عامة، ففلان عصبي، أو طيب، أو متواضع، أو أهوج، وبالتالي هناك سمة عامة عند الإنسان، وإلا لما استطاع الناس أن يصفوا مكارم الناس وسيئاتهم؟!

فقال: في الطب النفسي لدينا أنواع مختلفة من الشخصيات، ولكل شخصية عشرة أو خمسة عشرة سمة، والشخصية الأخرى كذلك، والثالثة، والرابعة…، وربما تتقاطع هذه الشخصيات في بعض السمات.

فمثلاً: قد تجد العصبية في 3 أو 4 شخصيات، فإذا وصفنا نيتشة بأنه عصبي، فمن أي الشخصيات الثلاث أو الأربع هو إذن؟!! حتى نعرف بقية سماته، فتكتمل صورته، هذه واحدة.

عرفنا نيتشة من شخصية اكس مثلاً، فهل الشخصية لوحدها هي التي تقود فكر نيتشة؟ بالطبع لا.

هناك الشخصية الطبيعة المجتمعية، ومستوى ذكاء نيتشة، وحاجاته التي لم تعبأ في طفولته، وطبيعة المجتمع الذي كان يحياه، وكذا أهدافه من الحياة.

إذن ما الذي أريده؟

المطلوب أننا ﻻ نضيق واسعاً، فالطب النفسي، وعلم النفس، هو الذي يفسر كل شيء، وقد ذكرتُ لك أن وظيفتي هي الإضاءة النفسية، أما كم نسبة تلك الإضاءة في تقييم الأمور فلا أدري! قد تكون واحداً، أو 90%، ﻻ أدري؛ لأن المساحات الأخرى ليست مساحاتي.

قلتُ: لماذا نذهب بعيداً في موضوعنا هذا، ولدينا أمثلة من مجتمعاتنا العربية!!

فمثلاً: عبد الله القصيمي، الذي كان يدافع عن العقيدة، ويرد على الشبهات والطعون في الدين من قبل العلمانيين، والملحدين، وغيرهم، ومع ذلك انقلب 180 درجة، وأصبح على طريقة نيتشه في الاستفزاز، والهزء بالدين حتى في عناوين كتبه، بل وبمن يحاوره، وهذا كتاب: ليلة في جاردن سيتي لأبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري في مناقشته معه في شقته هناك في جاردن سيتي في القاهرة خير دليل على ذلك. فهل من كلمة؟!

فقال: قرأتُ بعض كتب عبد الله القصيمي وطريقته، عبد الله القصيمي من ناحية هو ثوري في عطائه، والثورية أعتقد أنها مرتبطة بصراحة عبد الله القصيمي،  فهو حينما كتب كتابه الصراع بين الإسلام والوثنية، ماذا قال عنه الإسلاميون؟

قالوا: لقد دفع القصيمي بكتابه هذا معه الجنة!

هذا الرجل بذاته هو الذين تكلموا عنه فيما بعد، وقالوا عنه ما قالوا، فإشكالية الرجل كانت في الصراحة الشديدة في مجتمع غامض! لم يتعود على الصراحة، فتصادمت صراحته تلك مع ذلك الغموض.

وهذا الكلام هو تفسير من الجانب النفسي، وليس تبريراً وتبرأة للرجل، بل أمره إلى الله تعالى، فالذي كتبه شيء عظيم، لكنني أعطي الزاوية النفسية، كي نستفيد منها دعوياً، بحيث إن أتانا شخص صريح من أبنائنا المتدينين، ﻻ نضره بغموضنا، بل نحتوي صراحته.

قلتُ: هذا كلام رائع، والإشكالية الكبيرة في عبد الله القصيمي، وأمثاله، أنه من منطقة الخليج، أو من أهل السعودية، من بيئة متدينة محافظة، ومع ذلك يلحد، ويصبح عدواً للدين، ويتمرد على كل القيم والأخلاق، مع حدة في الأسلوب، وثورة وسيلان في الكلام،  فيكون هناك نوع من التشفي عند البعض، والتجرؤ على ثوابت الدين.

ومن الكلمات التي نقلها عنه غازي القصيبي، في كتابه: استجواب خلاصة فكر القصيمي: اكرهوا العرب، ومجّدوا الغرب!! ونحن نشكر له قضية واحدة، وهي وقوفه ضد الطغيان السياسي.

فأنا شخصياً أعتبر كتابات عبد الله القصيمي هي كتابات السوق السوداء!

فماذا تقول في مثل هذا الانتقال الحاد من متدين يدافع عن العقيدة، إلى رجل يسخر بالعقيدة، وبمن يتبناها، وبالأمة كلها؟!

فقال: في رأيي أن القصيمي لم يتغير مطلقاً من منظور البعد النفسي، وقبل أن أبدأ، أودّ التأكيد مرة أخرى أنني ﻻ أبرر للقصيمي فعله، وإنما أفسر فعله، ففعله عظيم الخطأ بلا شك، وأمره إلى الله سبحانه وتعالى، ولكننا هنا نفسر الظاهرة، كي نحمي أبناءنا في المستقبل، فنحن مسؤولون عن حمايتهم.

الأمر الآخر: أنه ﻻ يصح الحكم على مجموعة ما، وتقييمهم بفعل واحد منهم، فعبد الله بن سعد بن أبي السرح كان صحابياً ثم ارتد ثم تاب، فالظاهرة ﻻ يحكم عليها من خلال فعل واحد، وإنما من تغير مجتمع بأكمله، أو من تغير عدد كبير من أفراده.

فالقصيمي في بنيته الشخصية فيها كاريزما، شيء من النرجسية، ونحن ﻻ نستطيع أن نقطع بهذا لأننا لم نقابل الرجل، ولكن هي محاولة لاستقراء شيئاً ما، فالنرجسية فيها اعتزاز بالذات، وعدم تقييم للآخر، فصاحبها فيه شيء من الحدية في التفكير، ولذلك لما قال غازي القصيبي رحمه الله أنه يحمد له الوقوف في وجه طغيان السياسيين، لأن الوقوف في وجه هؤلاء لون من ألوان سماته الشخصية التي عاش بها، ولذلك تم طرده من السعودية إلى لبنان!! بل حتى لبنان لم تحتمل فكر القصيمي ونقده، فذهب إلى مصر!

إذن هذه الجرأة الشديدة التي كان يعيشها القصيمي هس سمة من سمات شخصيته.

بل لعلك تتشكك وتتساءل: هل انتصاره القوي للدين كان انتصاراً له حقيقة، أم أنه تعبير نفسي؟!! هذه نقطة مهمة جدًّا.

ولذلك لو جاء إنسان ينتصر للدين انتصاراً عظيماً، ويشتم الغرب، ويفسق ويضرب، ففي رأيي أن هذا الشخص مثل الذي يهاجم الدين تماماً، أعني من ناحية البعد النفسي!! ويجب علينا أن نخاف على ديننا منه؛ لأنه قد ينقلب يوماً من         الأيام، ويصبح في أقصى الزاوية، فهذا الذي كان متطرفاً شديداً، فأصبح بعد فترة يهاجم الدين، ويطعن فيه، هذا في الحقيقة والبعد النفسي لم يتغير مطلقاً، وإنما تغير المحتوى فقط!!

قلتُ: أنت قلت إن هذا نرجسي، فهل العناد جزء من النرجسية        ؟!

فقال: قد يكون العناد جزءً من النرجسية أحياناً، للحفاظ على الهوية، ولكن كيف لنا أن نحكم على فلان أنه نرجسي، أم لا؟! لا يكون ذلك إلا إذا قابلناه، وعرفنا منه أنه يزدري كل أحد سواه، وليس المجتمع العربي فحسب، كذلك كونه مفكراً، هل يزدري بقية المفكرين؟ هل يدور حول مصالح نفسه؟ كذلك الذين عايشوه، وعاصروه، ماذا كتبوا عنه، وعن تعامله معهم؟ بل إن كتابه: الصراع بين الإسلام والوثنية يحتاج إلى قراءة متأنية، حتى في أطروحته الفقهية!!

قلتُ: ولكن هل ترى أن هناك طرقاً معينة يستخدمها البعض، تكون مفاجأة للآخرين، وتأتي بعلاج؟!

وعلى سبيل المثال: مالك بن نبي، في مذكرات شاهد للقرن استخدم في موضعين ذكر هنا مع أحد الطلبة الذين كانوا معهم في الجزائر الذين تأثروا بالفكر الغربي واقتربوا من اللادينية فقال ماذا؟ هاتوا لي هذا الخالدي، وأعطوه هدية كتاب فريدريك نيتشه شيخ الملاحدة، فعندما قرأ الإلحاد في أصله أي أنه سابقاً كان يقرأ عن الإلحاد وهنا بدأ يقرأ في الإلحاد، فلما قرأ الإلحاد رجع وتحول إلى داعية إسلامي. كيف تفهم هذا الطرح في العلاج؟

فقال: السؤال الذي يطرح نفسه، هل كان ذلك الشاب ملحداً على الحقيقة، أم كان يعبر عن حاجة نفسية عابرة مؤقتة؟ لو كان ملحداً حقيقياً، وافترضنا أن نيتشه ملحداً حقيقياً هذا لنيتشه، فإنه سيعود. هذه واحدة.

الأمر الآخر: هل كان نيتشه ملحداً، أم ملحداً مضطرباً؟!

فهذا الشاب ربما نتقبل أنه ملحد، ولكنه ملحد سوي الشخصية، بخلاف نيتشه، فإنه ملحد مضطرب الشخصية، انتهت حياته في مصحة نفسية، فلربما قرأ هذا الشاب الاضطراب النفسي في نيتشه، ولم يقرأ فكر الإلحاد، فرفض الاضطراب النفسي، وظن أنه جزء من فكر الإلحاد، فقال: هذا ﻻ ينفع لي. لأن نيتشه رمز للإلحاد الكبير، فظن أن هذا هو الإلحاد، فرفضه، أي رفض الاضطراب النفسي، ولم يرفض نيتشه أو إلحاد نيتشه! هذا الطالب يبدو أنه مميز نفسياً، واختلط عليه الأمر، فلما قرأ في نيتشه، ورأى جزئية الإلحاد والاضطراب النفسي عنده، فقال: إذا كان هذا هو الإلحاد، فأنا ﻻ أريده؛ لأنه خطأ.

لكن لو رأى الإلحاد بدون الاضطراب النفسي لنيتشه، وقدم بطريقة منظمة، فلربما  لم يعد هذا الشاب عن إلحاده.

قلتُ: هذا تحليل نفسي جيد.

والذي أريد قوله: إننا نتكلم بهذا الكلام، وتلك التفصيلات، وقلوبنا على أبنائنا وبناتنا، لأن قضية أن يتخذ الإنسان موقفاً مضاداً حدياً ضد عقيدته ودينه، هذه قضية خطيرة، تنبني عليها مسائل كثيرة في الشريعة الإسلامية، في أحكام المواريث، والزواج، والجنائز، والمقابر، وغيرها، بمعنى أن الشريعة الإسلامية هي عقيدة تنبثق منها شريعة عملية، وليست عقيدة منفصلة عن الواقع، كما هي عند الآخرين.

فقال: الإشكالية في الداعية العربي أنه يقدم العلاج على التشخيص، أتدري لماذا؟! ليس لأنه ﻻ يعلم أن التشخيص أهم من العلاج، بل لأنه ﻻ يعرف كيف يشخص أصلاً!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى