بيني وبينكم 2012

بينى وبينكم 2012 الحلقة الثامنة والعشرون علاقة الانتحار بالالحاد

 

علاقة الانتحار بالإلحاد

قلتُ: دعنا يا دكتور ننظر إلى موضوعنا من بعد آخر حساس للغاية…..

فالإشكالية ليست فقط في بعد الإلحاد، وإنما في التناقضات والاضطرابات التي تجعل الإنسان ينتحر من حيث العموم!!!

فما هو تفسيرك لشاب يتصل بي من مكان ما، من دولة عربية، أو خليجية، ويقول: يا دكتور أنا قلق، أنا مؤمن، ومصلي، وإنسان نظيف في علاقاتي الاجتماعية والحمد لله؛ لكن هناك أسئلة أتعبتني، وسببت لي انهياراً !!

لماذا وجد هذا الوجود؟!

وماذا بعد هذا الوجود؟!

وإذا قلت انتهى الكون، فماذا بعد النهاية؟

وإذا قلت لم ينته الكون، فهل يوجد شيء ليس له نهاية؟

وما الذي يحتاجه منا الإله حتى يخلقنا؟

أسئلة كثيرة، حائرة، تائهة…

وهذا الأمر لم يقتصر على الشباب، أو صغار السن، بل إنه وصل إلى البنات، بل وكبار السن كذلك، فالأمر خطير، ومقلق. فما هو تعليقك على ذلك؟!

فقال: هذا المثال الذي ذكرته ﻻ يعاني مطلقاً من الإلحاد! بل هذا الإنسان له أجر كبير عند الله سبحانه وتعالى، فقد جاء في الحديث أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، سألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: «وقد وجدتموه؟» قالوا: نعم، قال: «ذاك صريح الإيمان».

ولكن السؤال: ما الذي يعانيه هذا الإنسان؟!!

والجواب: سأبدأ بالتشخيص أولاً، قبل الإجابة، فتشخيص هذه الحالة أن هذا الإنسان يعاني من مرض الوسواس القهري! وهذا يختلف جذرياً عن الملحد، والمنحرف فكرياً. لماذا؟!!

لأن هذا الإنسان ظهر من كلامه أنه يخاف على دينه، ويريد الوصول إلى الحقيقة، والتخلص من هذه الوساوس التي جلبت له الهم، والغم، والقلق.

أما الملحد فإنه لا يخاف على دينه، لأنه لا يتدين بدين، بل إنه وصل إلى تصور معين، جعله يجادل من أجل تلك الفكرة.

الشاب السائل خائف من الفكرة، متضايق منها، يقرأ كثيراً، ويحاول حل مشكلته، وهو خائف من الله         سبحانه وتعالى، ويلجأ إلى العلماء.

أما الملحد فلا يلجأ إلى العلماء، وإنما هم الذين يذهبون إليه لدعوته.

هذا هو الفرق بين الاثنين

هذا ﻻ يجادل في فكرته؛ لأن أي جدال في فكرته سيزيدها، على عكس الملحد الذي ربما الجدال يخفف من فكرته.

فهذا يدرب على وسائل قطع التفكير، لا الجدال في الفكرة.

قلتُ: إذن أنت تتعامل مع أمثال هذا الشاب كتعاملك مع أي مريض بالوسواس القهري؟

فقال: تماماً، فإذا كان الوسواس شديداً، أضفت له العقار الطبي، لأن هذا النوع ليس إلحاداً، وإنما مظهر نظنه إلحاداً. وإن كان خفيفاً أعطيناه جلسات العلاج المعرفي السلوكي فقط.

فهذا الشخص ندربه على فنيات صرف الانتباه، وليس الحوار، لأن الحوار حول أفكاره يغذيها، وهذا خطأ كبير، لأننا خلطنا أنواع الإلحاد مع الوسواس، فمهارة قطع التفكير بأن تأتي فكرة فتقطعها، يجعل القلق يرتفع عنده جداً، وكلما ارتفع مستوى قطع التفكير، ارتفع القلق، ثم بعد فترة ينخفض ذلك القلق، فيقتنع أن قطع التفكير مناسب له.

الإشكالية أن من يتكلم مع أمثال هذا الشاب يبدأ يغذيه بأفكار جديدة، عن طريق حواراته التي أراد أن يقنعه بها، فيضخ له فتحات جديدة، فيبدأ يفكر، ويفكر، ويتبعثر.

أما الملحد فالأفكار الجديدة تعدل من طريقة تفكيره.

إذن هذا الإنسان ليس ملحداً، وإنما مصاب بمرض الوسواس القهري.

قلتُ: ولكنه ﻻ يبدو عليه أنه موسوس، بل إنه يعيش حياته بشكل طبيعي جداً!!

فقال: السبب في ذلك لأن الوسواس أنواع، فهناك وسواس حركات، ووسواس أفكار، ووسواس خواطر، فوسواس الحركات كالذي يعيد الوضوء عشرات المرات، أو الذي يوسوس في الصلاة كم صلى، ففيه جانب حركي.

وأما وسواس الخواطر، فهو أن يحدث نفسه بأمور عظيمة، ويتفكر في قضايا قد تصل إلى الكفر والعياذ بالله، وهذا هو المراد بالحديث الذي ذكرته آنفاً أن بعض الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أحدنا يجد في نفسه شيئاً لأن يخر من السماء خير له من أن ينطق به!) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذلك صريح الإيمان).

قلتُ: كيف تفسر قوله: (ذاك صريح الإيمان)؟

فقال: لأن هذا ابتلاء، ومرض، وما من شوكة يشاكها المسلم، أو يصيبه من هم، أو غم، إلا كفّر به من سيئاته، وهذا نوع من الهم، والغم، والمرض، الذي يصابه الإنسان.

الإشكالية أن مفهوم الوسواس كمرض ﻻ يعرفه الكثيرون، لأن المرض عند الكثيرين منا هو القلب، والزائدة، والمرارة، وغيرها، وهذا خطأ في المفاهيم، فالوسواس مرض، وقد أصاب بعض السلف الصالح.

جاء ذكر ذلك عن سفيان الثوري، وعن محمد بن سيرين، وعن عمر بن عبد الرحيم الشافعي، وعن محمد بن يونس الموصلي، وغيرهم كثير ،        وهذا ﻻ يعيبهم أبداً.

قلتُ: والدليل أنه ﻻ يعيبه؛ أننا نسميه قهرياً، وليس اختيارياً.

كذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: (ذلك صريح الإيمان) أي: أن خوفه من هذا الأمر دليل على الإيمان، فهذا دليل واضح على أنه ليس ملحداً، وإنما هو إنسان جاءته أفكار، وعبارات تصل في بعض الأحيان إلى التفكر في سب الله تعالى، أو سب النبي صلى الله عليه وسلم، أو سب دين الإسلام، فيحاول دفعه، ويبكي لشدة الأمر عليه، ويقول: أنا أشعر باختناق، وضيق شديد، وأنا إنسان ضعيف الإيمان،      كيف توجه كلمة مختصرة لهذا؟

فقال: لمثل هذا نقول إن هذا مرض، وأهديه فتوى الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- وقد ذكرتها في مواطن كثيرة، فقد كنتُ في سفر، وتشرفتُ أن أكون معه بمفردي، فسألته عن مرضى الوسواس القهري: هل عليهم ذنب في ذلك؟

فقال: ﻻ يا طارق، ألا تعرف حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟! قلت: بلى أعرفه، ولكن أريد أن أستمع منك.

قلتُ: إذن حديث: (ما يصيب المسلم من هم ولا غم….)، ينطبق عليهم؟ قال: نعم.

قلتُ: ألهم أجر؟

قال: لهم أجر.

قلتُ: سأنقل عنك، وأكتب.

قال: انقل واكتب، فكتبتُ في كتابي: الوسواس القهري: مرض نفسي، أم أحاديث شيطانية، فتوى الشيخ، والآن أذكرها مرة أخرى.

أيها الشاب الموسوس، لو جاءك وسواس في لسانك أنك تشتم الله تعالى، أو القرآن، أو الدين، ولكنك من الداخل متضايق من هذا تماماً، فاعرف أنك مأجور.

الإشكالية حينما يغلبه الوسواس أحياناً، فيعتقد أنه يريد هذا الشيء، وهذا من الوسواس، ما دام يقاوم، ولو قليلاً، ويسأل العلماء، ويتضايق من فكرته، فهذا مأجور.

قلتُ: الكلام عن الوسواس القهري خدمة عامة لكل الناس، ونحن عندما نتكلم فإننا لا نخص بهذا الكلام أحداً من الناس، بل هو عام لكل أحد، المتدين، وغير المتدين، والمواطن، وغير المواطن، والعربي، وغير العربي، والمسلم، وغير المسلم، فالنفع الناس جميعاً، لأنه في كل كبد رطبة أجر، كما قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، هذا الوسواس القهري في الدين، وفي العقيدة، الذي يبتلى به البعض، قد نظنه أمراً بسيطاً، لكنه في الحقيقة مصيبة عظمى لصاحبه، قد يصل به إلى حد انهاء حياته، طلباً للراحة فيما يظن.

سأذكر لك نموذجاً من هؤلاء الشباب، رأيته بنفسي، وسمعت قصته بأذني، فقبل سنوات جاءني أحد الشباب، وقال: لي صديق كان معي في الثانوية، ثم انتقلنا سوياً إلى الكلية، كان هادئ الطبع، طيباً، حبيباً، وفجأة بدأ يفكر في الذات الإلهية، وفي الأسئلة الإيمانية، وفي العقائد، وهو يريد أن يجلس معك. قلت: لا بأس. وفعلاً جلستُ مع هذا الشاب، وسألني بعض الأسئلة التقليدية التي يسألها كثير من الناس، فأجبته على ذلك، وانتهى اللقاء بود، ومحبة.

بعد سنة أو سنتين جاءني هذا الشاب مرة أخرى، وكان عندي وقتها برنامج في قناة الرأي عنوانه: قذائف. فقال: أريد أن أخرج معك في لقاء على الهواء؛ لأنني لدي كلام يجب أن يقال للآباء، وأن تسمعه الأسرة، لأن هناك أموراً تحدث لأبنائهم قد تصل بهم إلى الهاوية، وهم لا يعلمون عن شيء!! قلتُ: لا بأس، ما دام أن هذه رغبتك.

وخرجنا على الهواء، بعد أن أخفيتُ شخصيته؛ حفظاً لمشاعر الأهل، واعطيته المجال للحديث عن نفسه، فكان مما قال: (في شهر 12، من سنة 2003، أصابني تعب شديد، وقلق مخيف!! كنتُ أريد معرفة نهاية الإنسان بعد موته! أين يذهب؟!! وهذا السؤال كان يراود شباباً كثيرين أعرفهم، لدرجة أنني لم أكن أنام، أو آكل بسببه، فقلت: لا بد لي من الدخول في خلوة وعزلة عن الناس، فدخلت في خلوة ثلاثة أيام، لم أخرج خلالها من غرفتي، وكان أكلي خفيف جدًّا، وهجرتُ الكلام مع الناس جميعاً!!

وفي إحدى الليالي قلت: لا بد أن أين سأذهب بعد الموت، ولذلك سأذهب للموت بنفسي!!

لم أجد في كتب الفلسفة التي كنتُ أقرأها جواباً لسؤالي، ولا عند كبار الفلاسفة الذين يعجبني طرحهم وفكرهم، وكنتُ على يقين أنه يوجد مكان ما، سنذهب إليه بعد الموت! ولكن هل هو الجنة أو النار، أو العدم؟!! لم أستطع الإجابة!

تناولتُ كمية من الحبوب، وجلستُ أنتظر الموت، كانت الساعة 12 ليلاً،  زادت دقات قلبي، وضعف نفسي، لكنني لم أستطع التحمل العذاب والألم، فعند الساعة 6 صباحاً ذهبتُ إلى المستشفى، وعملت غسيل معدة، ثم هربتُ من المستشفى!!!

قال: ومن ذاك اليوم وأنا أعيش حياة كلها وحدة، وعزلة، ومرض، وقلق، وأرق.

كانت تلك قصة هذا الشاب، وهو واحد من مجموعة كبيرة تعاني من الهم نفسه، إلا أن الفارق بينهم أن هذا الشاب كان لديه الجرأة في الظهور، والحديث عن نفسه أمام الآخرين.

وسؤالي بعد سماعك لهذه المأساة: كيف نتعامل مع مثل هذه الحالة؟!!

فقال: أولاً: نبدأ بالتشخيص قبل التعامل، وهناك خطوة مهمة قبل التشخيص أيضاً، وهي جمع المعلومات، من هذه المعلومات معلومة إضافية بسيطة: هل استمر هذا الشاب في صلاته؟ أم تركها؟!!

قلتُ: نعم استمر في صلاته، واستقام، وذهب للعمرة، وصلح حاله فيما بعد.

فقال: ولكن قبل ذلك هل كان يصلي؟

قلتُ: أظنه متقطعاً! لكنه ألحد في فترة من عمره!!

فقال: صف لي الشاب في تلك الفترة.

قلتُ: بحسب معلوماتي عنه من خلال جلساتي معه أنه كان يقول يحاول تعقيد الشيخ الذي يسأله بكثرة أسئلته واستفساراته، وفي المقابل لا يجد جواباً عليها!! فلما جاءني وجدتُ أن أسئلته بديهية طبيعية، فكنتُ أجيبه عليها، وأحيله على عشرات المراجع في ذلك.

فقال: الذي أعتقده في هذا الشاب من خلال ما سمعت ما يلي:

أن هذا الشاب كان شاباً طبيعياً في طريقة تدينه كأغلب الشباب، يصلي فرضاً، ويترك فرضاً، وهذا وإن كان خطأ في ديننا، لكنه للأسف موجود بشكل عام، فأصيب بالوسواس القهري الفكري، وهو عبارة عن وسواس مرتبط في الذات الإلهية، ثم ذهب ليناقش مشايخه وعلماءه ومفكريه، فصنفوه أنه ملحد، ولأن قامتهم كبيرة عنده تشكل بهذا التصنيف، ولأنه كان يصلي، ويترك، ولم يكن متديناً، جاءه هذا التعب النفسي، فضعفت نفسه أكثر وأكثر، وطبيعي إذا ضعف الإنسان ضعف أداؤه لواجباته الدينية والدنيوية، فقصر في صلاته، ووصفه بالإلحاد جعله يدور في تلك المنطقة، فهؤلاء هم الذين دفعوه لأن يعيش حالة الإلحاد التي لم تكن إلحاداً، وإنما كانت تخيلاً!! واستمر الوسواس القهري عنده، ثم بعد فترة يخف عنده، لأن طبيعة مرض الوسواس القهري أنه يشتد ثم يخف ثانية، ثم يشتد ثم يخف ثانية، فما الذي حدث؟ حينما تدين فيما بعد، بدأ هذا الضغط النفسي الذي مر به يخف ويقل، مع نقص أعراض الوسواس شيئاً ما، وإذا به يهدأ، ويخرج من حالة الإلحاد، التي لم تكن إلحاداً في الأصل، وإنما وسواس قهري، فخرج منه بشكل تدريجي بسيط، ولذلك ستجد عنده الآن بقية من وساوس خفيفة يسيرة.

هذا الشاب ما الذي يجب أن نفعله معه؟!

بلا شك أن هذا الشاب لم يكن ملحداً، والذي حدث معه أنه نتيجة الوسواس الذي كان يعانيه، حدث عند شيء من القلق، والتوتر الكبير، والأعراض الاكتآبية! هذه الأعراض دعت الشاب إلى الانتحار. وانتحاره ذاك كان مشكلاً ومعطراً بالكلام الذي جاء من المفكرين الذين وصفوه بالملحد، فبدأ ينظر إلى الانتحار بطريقة الملحدين، أريد أن أعرف ما بعد الموت؟! والدليل أنه ﻻ يريد الانتحار حقيقة، وليس ملحداً حقيقة، أنه رجع، وخاف، وهرب من المستشفى، حتى ﻻ يسجلوا عليه حالة انتحار.

إذن الشاب كان يعيش حيرة الوسواس القهري الذي لم يشخص له، ولذلك كان لزاماً على مشايخنا أن يكون لديهم الوعي في الوسواس القهري، والأمراض النفسية، كالوعي في فكر الإلحاد.

قلتُ: أظن أن أمره انتهى الآن، فقد عاد إلى رشده، وبدأ يمارس حياته الطبيعية.

فقال: لم ينتهِ أمره، بل بدأ!!

قلتُ: كيف ذلك؟!!

فقال: طبيعة هذا المرض أنه مرض دوري، يدور بهذه الطريقة، فيزداد ويقل، فإذا زاد ثانية، سيعود بشكل يظنه هو أنه الشكل السابق، لأنه تشكل بنمطية التعب السابق، فيعود بطريقة، ويظن أنه ملحد.

ولذلك في فترات سكونه يجب أن يشرح له الكلام الذي قلته أنا، ويهيأ، ويدرب على مهارات التعامل مع الضغوط، حتى إذا جاءه ضغط معين ﻻ يثير التعب النفسي الذي عنده، والذي يظهر على شكل وسواس قهري.

في اعتقادي أنه مازال لديه شيء من الوسواس القهري الخفيف، لكنه تحت سيطرته، وربما يكون هذا الوسواس في أفعال، وليس في أفكار، كالوضوء، والصلاة، وغيرها.

الأمر الآخر في مثل هذا الشاب أنه يجب أن يعطي المبادئ، ولذلك لو بدأت الحالة شديدة يجب أن يأخذ الدواء حتى ﻻ تسيطر عليه، ويظن أنه ملحد.

قلتُ: هناك رسائل كثيرة تأتينا تدور حول سؤال مهم جدًّا، وهو: هل صحيح أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم فكر في الانتحار؟!!

فأقول: أبداً غير صحيح. وهذه الرواية يسميها المحدثين رواية مدرجة، وصنفت من قسم الضعيف والشاذ.

أنت كطبيب نفسي كيف تنظر إلى هذا السؤال؟!!

فقال: النبي صلى الله عليه وسلم لم يفكر في الانتحار مطلقاً. لماذا؟

دعونا نفهم ما هو الانتحار، حتى نعلم أنه يستحيل أن يدور في خلد النبي صلى الله عليه وسلم هذا التفكير، بل ولا تمني الموت كذلك! مع أنه قد يشتاق إلى الموت للقاء ربه جل وعلا، ولكن الشوق غير التمني، يشتاق لأنه يسعى إلى حبيب، يريد أن يذهب إليه، ولكن ليس تمني، فالتمني حالة اكتآبية، والشوق حالة روحانية عالية.

ما هو الانتحار؟!

يكون في شيئين: هناك شيء عضوي، وهو توسع في بطينات المخ، واضطراب في عداد المخ الكهربائي.

الأمر الآخر: وهو اضطراب في القدرة على التكيف مع الأزمات.

والنبي صلى الله عليه وسلم أعظم البشرية في القدرة على التكيف مع الأزمات، فقد طرده أهل مكة، وفعل به أهل الطائف الأفاعيل، ومع ذلك يقول: لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله، ولا يشرك به شيئاً، كذلك كان ﻻ يغضب مطلقاً إلا إذا انتهك حد من حدود الله.

فالنبي صلى الله عليه وسلم لديه حاله استقرارية عالية، فإذا جئنا إلى سيكولوجية الانتحار وجدنا فيها ثلاثية: رغبة أن أَقتُل-بفتح الهمزة-، ورغبة أن أُقتَل-بضم الهمزة-، ورغبة أن أموت، وهذه تشكلت من شعور الإنسان بالدونية، فرغبة أن يُقتَل، ورغبة أن يموت، لأنه يشعر أنه لا قيمة له، ورغبة أن أَقتُل: من القلق الداخلي الذي فيه، أتظن نبياً من أنبياء الله فضلاً عن النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم أن يفكر بهذه الثلاثية؟ كلاّ، أبداً.

فهذه حالة إحباط شديدة لا يمكن أن تصل للنبي صلى الله عليه وسلم…

لكنه قد يتعرض لأن يضيق صدره من قومه، كما أشار ربنا جل وعلا عنه بذلك، ولكن الضيق هنا ليس بمعنى الكآبة المرضية، ولا بمعنى الغضب، وإنما بمعنى التفاعل الراقي مع الغير.

إذن هو نموذج للتوازن الإنساني.

قلتُ: بين يدي كتاب بعنوان: موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، لمفتي الديار العثمانية الشيخ مصطفى صبري، وهو كتاب احتوى خلاصة آراء الشيخ في السياسة، والاجتماع، والفلسفة، والفقه، كما احتوى معاركه الفكرية مع عدد من أعلام عصره، كالمراغي، ووجدي، والعقاد، وهيكل وسواهم، ورد فيه على الملاحدة، والتنويريين، وغيرهم.

ومن ضمن الذين رد عليهم الشيخ في كتابه، رجل يدعى: إسماعيل أدهم، درس في ألمانيا، وروسيا، وعاد إلى مصر، ودعا لفتح جمعية الإلحاد، وألف كتاباً مشهوراً سمّاه: (لماذا أنا ملحد؟!!) فناقشه الشيخ مصطفى صبري، ونقض كلامه في أساسات منطقية قوية، وسماه مليحداً، وشبهه ببوخنر الملحد المشهور في اضطراباته، وبيّن أن الملاحدة والعلمانيين والتغريبيين خاصة في فترة الماركسية في الأربعينات في مصر نفخوا هذا الرجل، وأعطوه أكبر من حجمه الحقيقي.

ومع شدة تمسك هذا الملحد بمذهبه وفكره، والدعوة إليه، إلا أن المفاجأة كبيرة كانت بطريقة نهاية حياته، فقد ألقى بنفسه في بحر الاسكندرية، وكتب رسالة للناس مفادها أن الحياة ليس لها معنى!!

كيف تقرأ هذه القضية؟!

فقال: في قراءتي لسيرة إسماعيل أدهم، وجدته يعاني من أمرين:

فقد اجتمع فيه الإلحاد، والمرض النفسي، لكنهما لم يكونا يسيران جنباً إلى جنب، بل عاش الإلحاد في البداية، ثم كان المرض النفسي في آخر حياته، فلا تعارض بين أن يكون الشخص ملحداً، ثم يصاب بمرض نفسي، وليس بالضرورة أن يفسر المرض النفسي الإلحاد.

عاش ملحداً؛ لأنه عاش في بيئة اجتماعية تؤمن بذلك، وهي البيئة الروسية، وغيرها من المجتمعات، فتشكل بهذه الطريقة وعاد، وكان عنده قابلية لأن يكون ملحداً، وكان نشطاً في إنشاء الجمعيات وغيرها.

لكنه في آخر عمره أصيب بمرض الكآبة، كما يصاب الإنسان بالربو مثلاً، أو بالزائدة، أو بالمرارة.

وأما كلمته التي كتبها في آخر حياته، فهي ليست مؤشراً إلحادياً، وإنما هي مؤشر نفسي، فالحياة ليس لها معنى، ففي مرض الكآبة هناك ثلاثية تقول: ﻻ أمل في الماضي، ولا في الحاضر، ولا في المستقبل، فالذي كتبه ﻻ علاقة له بإلحاده، بمقدار معاناته النفسية المرضية.

قلتُ: نحن عندما نتكلم عن اللامعنى عند الفلاسفة مثل جان بول سارتر الذي طرح فكرة عبثية الحياة، وهزّ المعنى في الحياة، لأنه يرى أن الإنسان في هذه الحياة كمن قذف به على خشبة المسرح، وطُلب منه تقديم الدور، والتمثيل، دون أن يعطى نصًّا في ذلك، حتى يتخذ القرار ويحقق الحرية الذاتية.

فهذا عبثي، ولكنه يوجد لديه شيء من المعنى.

ثم جاء بعده العدميون، وقالوا: ليس للحياة معنى على الإطلاق! بل ليس لوجود الإنسان معنى! بل كتب فوكوه -الذي هو من مظلة نيتشه- مقالاً بعنوان: ما الإنسان؟!! وليس من الإنسان؟ من أجل أن يقزم قيمة الإنسان، ويحط منها!!

وهناك فلسفات تقول، وتؤكد أن المعنى غير موجود في الحياة نهائياً!!!

فأمثال هؤلاء هم الذين نخاف منهم أكثر على الأجيال، وإن كانت الأجيال ﻻ تعرفهم، بل الأجيال تعرف ستيفن هوكنج، وباوكنز الذي يرى أن هناك معنى للحياة، وهكذا…

فماذا تقول في ذلك؟!

فقال: إذا أردنا أن نقيم الباحثين السابقين، فيجب أن نقيم قدراتهم، وما يقولون، ومستوى العصر الذي يعيشونه، وهذا ليس دفاعاً عنهم، وإنما لبيان الحقيقة، ولذلك اختلفتُ معك عندما تكلمتَ عن أرسطو وانتقدته، لأن أرسطو بالنسبة لعصره كان مميزاً جداً، فلا نأخذ فكر أرسطو ونحاكمه في العصر الحديث.

فترة سارتر وغيره في استقراء التاريخ كانت فترة عدمية من قيمة الدين تماماً، ولذلك كانوا يبحثون عن وجود لهم، ويستكشفون ذواتهم، فكانت رحلة استكشافية، لم يتوصلوا من خلالها إلى الحقيقة، لعدم وجود المرجعية الدينية الناضجة السامية، هذه المرجعية الناضجة لم توجد ﻻ في العهد الإسلامي الحديث، ولا في عهد الكنيسة، إلا في فترة بسيطة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وشيئاً من فترات خلفائه الراشدين!! ولذلك تكون نسبة الإلحاد في تلك الفترة أقل لوجود المرجعية الناضجة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى