وياكم 2013

وياكم 2013 الحلقة السادسة امتحان محمود المصري

امتحان

امتحان
هذه الكلمة إذا أطلقت انصرف الذهن إلى امتحان الطلبة في المدارس…

فهناك امتحان فصلي، وامتحان شهري، وامتحان في نهاية السنة…

والطالب يخرج ما عنده من معلومات، ومعارف، في القضية التي يمتحن فيها، أو الموضوع الذي يمتحن فيه، إلا أنك إذا وسعت دائرة النظر، فإنك تشعر أنك في امتحان على مدار الساعة…

في البيت امتحان، في الشارع امتحان، في العمل امتحان، في السوق امتحان، في التعامل مع إخوانك امتحان، في علاقتك مع زوجك وأبنائك امتحان، في علاقتك بوالديك امتحان….

امتحان لقيمك، وأخلاقياتك، ومواقفك، ومبادئك…

بل إن الدين كله يقوم على الامتحان والاختبار، فقد تنجح او تفشل!!!

قال الله تعالى: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة)، فكما أن الامتحان والاختبار والابتلاء يكون بالشر،  من مصائب، ومحن، وبلاء، كي يصبر الإنسان ويحتسب، فكذلك يكون بالخير.

وهذا معنى ربما ﻻ يلتفت له الإنسان إلا إذا وصل إليه، ولأنه خفي، فهو لا يدري أنه وهو غارق في النعمة، أو فيما يأتيه من تسهيلات ومتع الحياة، أنه في امتحان دائم، واختبار عظيم، ربما يكون أشد من امتحان الشر والمصيبة!!!

ولعلي بعد هذه المقدمة القصيرة آخذ مثالاً على قيمة من قيم هذا الامتحان، وهو من أصعب الامتحانات في حياة الناس، ألا وهي قيمة الأمانة!!!

فالأمانة من أعظم الصفات الخلقية السلوكية التي وصف الله سبحانه وتعالى بها المؤمنين في كتابه الكريم، قال الله جل وعلا: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون).

ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم ليبين لنا نقيض هذه الصفة الطيبة، فيقول: ( آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان).

بل إنه عليه الصلاة والسلام يعطيك قيمة أعظم من ذلك، ألا وهي عدم المعاملة بالمثل مع الذين أساؤوا إليك، وخانوك!! يقول عليه الصلاة والسلام: ( أدِ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك).

تأصيل عظيم للقيم!

وهل عرف النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة والنبوة بصفة أشهر من وصفه بالأمانة؟!! فمن يصدِّق أن خصمه وعدوّه أبا سفيان في رحلته لبلاد الروم، ولقائه بهرقل، أنه يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمانة؟!! لماذا؟

لأن أبا سفيان عنده موضوعية، وصدق في جاهليته، فلا يستطيع أن يكذّب الواقع، ولا أن ينكر الحقيقة الناجزة، الشاخصة، التي يعرفها الجميع، من أن محمداً صلى الله عليه وسلم أمين!

هذه الأمانة مستويات ودرجات، إلا أننا عندما نتكلم في هذه الأيام عن أمانة الناس، نرى العجب العجاب!

أناس يحلفون زوراً، وشهود لما لم يروا، وعهود ومواثيق منتهكة…

يوقع الأخ على الأمانة، وعلى ما استلمه من أموال، ومع ذلك يحلف يمين غموس، وكذب بالله العظيم أنه ما استلم شيئاً، وما أخذ درهماً!!!

يبلع أموال اليتامى،  وينام قرير العين!!!

يأخذ حقوق العمال، وينقصهم من أموالهم، ومع ذلك تجده في الصف الأول في المسجد!!!

إذن أين الأمانة؟!!!

لقد تزعزعت هذه القيمة في نفوس كثير من الناس، فوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم!

حديثي عن قيمة الأمانة، لن يكون من خلال الآيات والأحاديث فحسب، وإنما من خلال المعنى العام الجميل الذي نطلبه جميعاً….

فالكلام عنها سيكون من خلال حدث واقعي، وقصة حقيقية، حدثت مع شاب لا يزال على فطرته النقية، وعفويته الطاهرة، لم يتدنس بالماديات العفنة، ولم يتلوث بالمصالح الآنية، بل هي أخلاق السابقين، وصفات الأولين، التي أصبحت في زماننا هذا بدعاً من القول، وغدت مهجورة، مستهجنة!!!

إنه الشاب المصري محمود فرحات….الذي عثر على مبلغ كبير من المال، يعتبر بالنسبة له كنزاً حقيقياً، في الوقت الذي يعيش فيه هو وأهله عيشة الكفاف، فلا يملك إلا قوت يومه، ومع ذلك يصرّ على إيصال المبلغ لأصحابه، ويحرم نفسه من التمتع به وأولاده!!!

كل ذلك رجاء الأجر، والثواب، والتعويض من الله تعالى، فأي نفس تلك، وأي أخلاق هذه؟!!
(حماده عزت) مدير في الشركة التي فقد منها المال، يقول:

كان يوم خميس عندما بعثت فيه مندوبين اثنين من الشركة لصرف شيك بـ 70 ألف جنيه!! وفعلاً صرفوا الشيك، وعند عودتهم، إذا بهم يتفاجؤون بأن المبلغ ناقص 10 آلاف جنيه!!! عادوا إلى البنك للتأكد من صحة المبلغ،  فأكد لهم البنك أنهم تسلموا المبلغ كاملاً، بعد أن قام بجرد خزينته!! إذن ما الذي حدث؟!! وأين ذهب بقية المبلغ؟!

أصابهما خوف شديد، وضيق لا يعلم به إلا الله تعالى، لأنهما سيدفعان هذا المال الضائع!!

القصة باختصار شديد أن المندوبين وهما في طريق عودتهما إلى الشركة، سقط منهما ذلك المبلغ دون شعور منهما، وهذا بحد ذاته كاف في اليأس من الحصول على هذا المبلغ مرة أخرى، لأن المكان والشارع الذي مرّا فيه في طريق عودتهما من البنك إلى الشركة هو شارع مكرم عبيد، وهو شارع مكتظ بالمارة والسيارات، ولا يكاد يخلو لحظة واحدة من إنسان، ومعنى ذلك أن المال سيكون مصيره الزوال والحالة هذه!!

ولكن الله تعالى أراد حفظ هذا المال لأصحابه، والستر والتخفيف عن هذين المندوبين اللذين فُقد منهما المال، لأنهما لم يتعمدا ذلك أبداً.

يسّر الله تعالى لهذا المال الملقى في ذلك الشارع المزدحم إنساناً فاضلاً، صاحب أمانة وصدق…

إنه الشاب محمود فرحات…ذلك الموظف البسيط، الذي لا يملك من حطام الدنيا شيئاً، ينطبق عليه قول الله تعالى:(يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف)، لا يملك سيارة تنقله من بيته إلى مكان عمله، وإنما يستقل رجليه، ويمضي ماشياً على قدميه، ذهاباً وإياباً إلى عمله كل صباح، لتوفير بعض القروش التي تعينه على حياته!!!

وفي ذلك اليوم… يوم الخميس، كان محمود كعادته راجعاً من عمله إلى بيته مشياً على الأقدام، مروراً بشارع مكرم عبيد، لكن هذا اليوم لم يكن كبقية أيام محمود الأخرى!!!

كان يوماً فاصلاً في حياته، تعرض فيه لمحنة وابتلاء عظيم، لا يصبره عليه إلا صاحب الإيمان الحقيقي، والأخلاق العالية!

عشرة آلاف جنيه!!! ملقاة على الأرض، ليس عندها أحد!!!

يا رباه! ما هذا؟! وما أفعل؟

لم أتردد كثيراً….أخذتُ المال، ووضعته في جيبي، وانطلقتُ إلى منزلي مسرعاً، وقلتُ: هناك أفكر ماذا سأفعل، وكيف سأتصرف في هذا المال؟!!

يقول محمود: بقي المبلغ معي إلى يوم الأحد وأنا لا أدري ماذا سأفعل! إلا أنني وجدتُ بداية الخيط في حل هذه المشكلة العويصة!!

كان شعار البنك الذي صُرف منه المبلغ موجوداً عليها!!! فقلتُ: الحمد لله؛ لا بد أن البنك سوف يحل هذه المشكلة.

وفي الصباح وبدون أي تردد اتصلتُ على البنك، وقلتُ لهم: إنني وجدتُ مبلغاً من المال، يوجد عليه شعاركم، وأريد أن نتعاون في رد هذا المال لأصحابه، فقد يأتي أحد ويسأل عنه، فهذا رقم هاتفي، وفي حال جاء أحد للسؤال عنه الرجاء إبلاغي بذلك.

وفعلاً جاء المندوبين اللذين فقدا هذا المال إلى البنك للسؤال مرة أخرى عن الشيك الذي صُرف لهم، فقد يكون حدث خطأ أثناء عملية عدّ الفلوس، وإذا بمديرة البنك تبشرهم بأن شخصاً اتصل يوم الأحد صباحاً، وأبلغهم أنه عثر على مبلغ بقيمة عشرة آلاف جنيه!! وأنه زوّدهم برقمه للتواصل معه، في حال جاء أحد للسؤال عن هذا المبلغ!

فطلبوا من المديرة رقمي، إلا أنها اعتذرت عن ذلك قبل الاتصال عليّ، واستئذاني في إعطائهم رقمي!!

وهذا ما حدث بالفعل، فقد اتصلت المديرة بي، وأخبرتني أن أحدهم جاء يسأل عن هذا المال، ويدعي فقدانه، ويطلب رقم هاتفك للتواصل معك، فهل توافق على ذلك؟ فقلتُ لها: نعم بكل سرور!!

قام البنك بتزويدي بأرقام مندوبي الشركة، وتواصلنا مع بعض، وأخبروني أنهم فقدوا يوم الخميس مبلغ عشرة آلاف جنيه بعد خروجهم من البنك.

لا شك كان لا بد لي من سؤالهم، والتشديد عليهم عن كمية المبلغ، وشكله، والطريق التي سلكوها، والوقت الذي فقدوا فيه المال، وغير ذلك من أسئلة، كل ذلك للتأكد من صدقهم، وصحة قولهم، لأنني أريد إرجاع المال لأصحابه الحقيقيين، وقد يكون هؤلاء سمعوا بالخبر وقالوا ندعي أننا أصحاب المال!! كما يحدث كثيراً في مثل هذه القصص.

ولما تأكدتُ من صدقهم، وأن المال لهم يقيناً، اتصلتُ بصاحب الشركة، وهو الأستاذ محمد أبو عجيلة، وطلبتُ مقابلته، فاعتذر عن اللقاء يوم الأحد لظرف طارئ عنده، وقال: موعدنا يوم الثلاثاء!

كنتُ أنتظر يوم الثلاثاء على أحر من الجمر؛ لأنني أريد التخلص من هذه الأمانة الثقيلة، وتسليمها لأصحابه!!

وجاء يوم الثلاثاء، وذهبتُ إلى الشركة حاملاً معي المال، وقابلتُ المدير، وكان الجميع متفاجئاً من هذا التصرف!! فما الذي يجعل رجلاً قليل ذات اليد، يعثر على مبلغ كبير من المال، ومع ذلك يبحث عن أصحابه بكل وسيلة، ويأتي بنفسه لتسليمهم إياه؟!!

كان الموقف مؤثراً كثيراً، وكان المدير مذهولاً من تصرفي، لكنه شكرني شكراً بالغاً، وكافأني على أمانتي، ولا يزال هناك اتصال بيني وبينهم إلى الآن بحمد الله.

كانت تلك قصة امتحان محمود، الرجل الذي وجد مبلغاً كبيراً من المال، يعد بالنسبة له ثروة عظيمة، قد تخلصه من عقبات كثيرة في حياته، إلا أنه رغم ذلك كله آثر السلامة لدينه، وقدم الأمانة على نفسه وحاجته، وأعاد المال لأصحابه!

قصة قد تكون نادرة في زماننا هذا، إلا أننا لما سمعناها، علمنا أنه لا يزال في أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير وبركة.

العجيب في الموضوع أننا عندما قابلنا الأخ محمود، وطلبنا منه الظهور على الشاشة للحديث عن قصته، رفض ذلك بشدة، وقال: لا تفسدوا عليّ نيتي وإخلاصي!! ولا تضيّعوا عليّ أجري!!

فقلتُ له: بالعكس فأنت لا بد أن تخرج للناس، وتحكي لهم قصتك، لتغير الصورة السلبية العالقة في أذهان الكثيرين عن فقدان الأمانة في هذا الزمان، وعدم وجودها مطلقاً!! فنحن نريد من خلالك إيصال رسالة واضحة المعالم للناس أن الأمة لا تزال بخير، وأن الأمانة وإن قلّت عند كثير من الناس، إلا أنها لم تُعدم، ولن تُعدم بإذن الله تعالى، وأن الواقع مليء بالشواهد الإيجابية الجميلة.

سألتُه: عندما وجدتَ هذا المبلغ الكبير، وشعرتَ أنه أصبح ملك لك، ما هو الحديث الذي دار بينك وبين نفسك وقتها، وما الذي حصل معك داخلياً مع هذا المكسب والربح السري؟!! ونحن نعلم أنه ما من إنسان مهما كان صالحاً تقياً، إلا وتأتيه خواطر ووساوس الشيطان، خاصة في مثل هذه المواقف الصعبة.

فقال:

سأكذب عليك، وعلى نفسي أولاً إن قلتُ لك إن الشيطان لم يأتني في ذلك الموقف، إلا أنني بحمد الله استطعتُ التغلب عليه، وهذا فضل من الله تعالى، ليس بقوتي.

ومن أعجب ما حدث معي، أنني في اللحظات القليلة التي كنتُ أفكر فيها ماذا أفعل بهذا المبلغ، إذا بزوجتي تتصل بي، وتقول: إن البيت يحتاج إلى أغراض كثيرة!!! فليس عندنا لحم، أو لبن، أو خضار، أو غير ذلك!!!

قلتُ: سبحان الله! هذا من البلاء، ليرى الله تعالى صدق إيماني.
فاستعذتُ بالله من الشيطان الرجيم، واتصلتُ بصديق عزيز عليّ، وقلتُ: أستشيره في ذلك. فكان-جزاه الله خيراً- نعم المعين، والمثبت لي على موقفي، وقال لي: أثبت على مبدئك، والله تعالى سوف يعوضك خيراً من ذلك، ويكرمك على أمانتك.

كانت كلماته بلسماً لروحي، وشعرتُ أنها تجربة جديدة في حياتي، وأنني لا بد من النجاح فيها، ففي الوقت الذي أجد فيه هذا المبلغ الكبير من المال ، الذي قد يحل لي مشاكل كثيرة في حياتي، أجد نفسي لا أحمل في جيبي سور ثلاثين جنيهاً!! حقًّا إنها فتنة عظيمة.

قلتُ له:

لا شك أن هذا هو أثر الصحبة الصالحة، والرفقة الطيبة التي تعين المرد على دينه.

ولكن قل لي:

ألم تأتكَ تبريرات، وتخريجات لأخذ المال، كأن تقول لنفسك: إن هذا المال ليس له صاحب، أو خذ بعضه قدر حاجتك، وتصدق بالباقي عن صاحبه، وغير ذلك من التبرايرات؟!!

فقال:

بالفعل حدث هذا، ولكن الله تعالى أعانني على نفسي، وعلى الشيطان، وعلى أقوال هؤلاء الناس، حيث وجدتُ على الفلوس لاصق مكتوب عليه اسم البنك والفرع الذي صُرف منه المبلغ!! فكان ما كان.

وأتمنى أن تكون هذه رسالة لكل واحد منا أن يبدأ دائماً بنفسه، فيربيها على الحلال، والأخلاق العالية، ولا يلقي باللائمة على الدولة، أو الحكومة، , أو غير ذلك، لأنك أيها الإنسان مسؤول عن مثل هذه التصرفات، وهذا الكلام ليس للدعاية والإعلان، ولكنه الواجب الذي يجب أن يلتزم به كل فرد في المجتمع.

فقلتُ له:

يجب أن يبدأ المرؤ بنفسه!!

هذا كلام كبير، كلام تلقائي، كلام سلس، كلام يخرج من القلب بدون تحضير، بدون تكلف.

فالقيم ليست معلومات محفوظة في الأذهان! القيم معايشة، القيم تربية، القيم ممارسة عملية.
فهذا الرجل نموذج فريد للنجاح في فتنة الحاجة والضرورة، والثبات على المبدأ، وعدم الانصياع لكلام الناس الذين خرّجوا له الحرام بطرق كثيرة تكلم عن الذين خرجوا له الحرام، إلا أن الله تعالى عصمه من ذلك.

لقد طبق هذا الرجل قواعد الدين، ومقاصد الشريعة، كقول الرسول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم:(الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام).
فهذه ليست مشتبهات، هذه واضحة جلية!

اليوم كثير من الناس يأكلون الحرام، ولا يسألون، ولا يستفسرون!! وهذه مصيبة عظمى، وبلية كبرى.

نقطة أخرى لا بد من لفت الانتباه لها، وهي مسألة الصديق المخلص، الصالح، الذي يعينك على الطاعة، فهذه من المسائل والقضايا التي يجب أن يحرص عليها الإنسان، وكم كان الصاحب سبباً في صلاح صديقه، ورفعته، وتقدمه، أو في فساده، وضياعه، وخسارته؟!!

ثم أمر آخر مهم جدًّا ورد على لسان صاحبنا، وهو موضوع المسؤولية الفردية، فالإنسان لا يلقي بأخطائه على الآخرين، ويحمّلهم تبعات تصرفاته غير المدروسة!!

لقد ذكرني كلام صاحبنا هذا بكتاب الدكتور غازي القصيبي، السفير السعودي، والوزير، والشاعر، الذي سمّاه: ثورة في السنة النبوية! وهو عبارة عن مقالات يبدؤها بحديث نبوي، ثم يتبعه بتعليق من عنده.

بدأ كتابه بمقال بعنوان: نزاهة الحياة السياسية!

واختار لهذا العنوان حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عندما بعث رجلاً يقال له: ابن اللتبية، على الصدقات، فلما جمع الصدقات، ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، قال للناس: هذا لكم-أي الصدقات التي جمعها-، وهذا أهدي إليّ!!!

فقام النبي صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد؛ فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما وﻻني الله، فيأتي فيقول: هذا لكم، وهذا هدية أهديت إليّ!! أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً؟!! والله ﻻ يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه، إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلا أعرفن أحد منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تَيْعر، ثم رفع يديه حتى رُئي بياض إبطيه، يقول: اللهم هل بلغت).
علق غازي القصيبي بتعليق قصير، تكلم فيه عن واقع الأمة الشائه للآخرين، وهذا واقع أمة، ﻻ دخل للعقيدة، وﻻ للشريعة بسلوكياتنا الخطأ المتخلفة…

قال: أتمنى لو وضعت كل دولة إسلامية هذا الحديث في الصفحة الأولى من نظام الموظفين،
ولو درّسته في كلية من كليات الإدارة، ولو علق على لوحة في كل مكتب حكومي.

وبعدُ: صوّر النبي صلى الله عليه وسلم عذاب من يجيء يوم القيامة يحمل بعيراً تلقّاه رشوة، فماذا سوف يكون حالنا نحن موظفي اليوم، إذا جاء الواحد منا يوم القيامة يحمل عمارة من عشرين دوراً، أو أسطولاً من السيارات الضخمة الفخمة؟

والويل، كل الويل، لمن جاء يوم القيامة يحمل وطناً كاملاً سرقه بدبابة ذات ليلة ليلاء!!!
ثم ختمتُ حديثي معه بسؤالي عن هذه القيم والأخلاق، من أين تلقيتها؟!

فقال:

الحمد لله؛ فديننا يحثنا على ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بالأمانة، ووالدي ووالدتي رحمهما الله كانا سبباً في زرع الأمانة في نفسي.

قلتُ:
هذا شيء جميل، يعطي أملاً يثلج النفس والصدر، ختمه بالأسرة، والدين، اللذين يحثّانا على الأمانة.

ولو رجعنا إلى التاريخ، ونظرنا إلى ما يقوله الدارسون الذين يقرؤون النص قراءة تحليلية، لوجدنا الواحد منهم  يقول: ﻻ أحتاج إلى مزيد من الأدلة لإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن غير المعقول أن تكون هناك حرب بالسنان واللسان، والمطلوب الأول قائد هذه المجموعة التي خرجت على القبيلة، أو على المجتمع، ثم يقوم هذا المجتمع الذي يطارد ذلك الذي يعتبره خارجاً عن القانون، ومخالفاً له، ويضع أماناته عنده!!!
هذا الذي حصل في مكة، فعندما أراد عليه الصلاة والسلام الهجرة إلى المدينة متخفياً، وقد أحدق به المشركون من كل جانب ليضربوه ضربة رجل واحد، فيقتلوه، ومع ذلك كانت
أماناتهم وديعة عنده!!!

أمر عجيب حقًّا! تضعون أماناتكم عند رجل تخالفونه  في العقيدة، ويسفه آلهتكم، ويدعوكم لعقيدة جديدة، وتطلبونه لتقتلونه!!! كيف يحدث ذلك؟!!

والأعجب أن هذا الرجل الذي أودعت عنده الأمانات قُتل أصحابه، وشرّدوا، وأخرجوا من بيوتهم، وأموالهم، ومع ذلك لا يأخذ من تلك الأمانات شيء معه، بل يستبقيها، ويرجعها لأهلها!! بل إنه يجعل مندوباً عنه وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لرد تلك الأمانات لأصحابها!!!

لا شك أن هذه معجزة!!

إلا أن هذا هو سلوك الأنبياء، وسلوك الصحابة في الأمانة، أما نحن في القرن العشرين فإن أخلاقيات الرأسمالية هي التي طغت على حياتنا، وأصبحت شعاراً لنا!

إن حياتنا كلها حقوق، وواجبات، وأمانات، والله سبحانه وتعالى عندما يذكر الأمانة فإنها تأتي بمعنى الفرائض، وتأتي بمعنى الوديعة، وتأتي بمعنى العفة.

يقول الله تبارك وتعالى:(يا أيها الذين آمنوا ﻻ تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون).
ضع مائة خط تحت ختام الآية (وأنتم تعلمون)، فالناس يعلمون أنهم يخونون الأمانة، فهم ليسوا جهلة بالدين، ومع ذلك ترتكب هذه المخالفات والمنكرات!!!

هذه القصة وغيرها من الأحداث التي نراها في الواقع، تعطينا أملاً، وتجعلنا نتنفس الحرية، والكرامة، والأخلاق.

لقد نجح محمود، ونجح الكثيرون غيره في هذا الامتحان والاختبار الصعب، وهو الأمانة، فهل أنجح أنا وأنت؟!! فلنبدأ من هذه اللحظة بمعاهدة النفس على قضية أداء الأمانة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى