حجية الإجماع – الجزء الثالث والأخير
تطرقنا في الحلقتين السابقتين من هذه السلسلة القصيرة إلى التعريف بالإجماع، وبيان الدليل على حجيته، ووجوب العمل به وانصياع المسلم له.
لكن يبقى سؤال أخير مهم ..
لماذا يكثر الجدل حول قضية الإجماع وسلطته الشرعية في العصر الحديث؟!
ولماذا في المقابل ينبغي أن نتشبث بهذه السلطة وندافع عنها على الرغم من وجود النصوص التي تستند إليها هذه الإجماعات؟!
الأجوبة على هذا كثيرة، لكن سنكتفي بقضية واحدة مركزية جدًا في هذا السياق.
لا شك أن الدين الإسلامي بثوابته العقدية الراسخة وبنائه التشريعي المركزي الصلب يمثل عائقًا كبيرًا جدًا أمام أي موجة فكرية مخالفة تريد أن تكتسح هذه الأمة الواسعة، خاصة الاتجاهات الحداثية المعاصرة التي تنتهج في الجملة نهجًا ليبراليًا يتعارض تمامًا مع حاكمية الشريعة على أفكار الإنسان وتصرفاته ..
هذه الاتجاهات الحداثية المعاصرة يمكنها التعامل مع هذا العائق من خلال عدة مستويات، أهمها:
١. التخلص من جذور سلطان الشريعة بمحاربة أصل الدين، والتشكيك فيه، ودفع الناس للإلحاد والخروج منه.
٢. الإبقاء على اسم الدين فقط مع التخلص من سلطان الشريعة من خلال إسقاط مصدريها الرئيسين، خاصة السنة النبوية التي هي أصل في فهم القرآن، وينبني عليها كذلك كثير من التشريعات.
٣. الإبقاء على اسم الدين، وعلى الصورة الشكلية للقرآن والسنة، لكن مع تحريف مضمون نصوصهما وتأويلها لكي تتوافق مع المزاج الليبرالي.
هذا المستوى الأخير أسهل من سابقيه، لأن فيه مصادمة أقل مع تصورات عامة الأمة الإسلامية عن الدين، ويتم العمل فيه من خلال خطوتين رئيسيتين:الأولى: إسقاط الثقة في فهم وتفسير علماء الإسلام للنصوص الشرعية منذ زمن الصحابة رضي الله عنهم، فيما يُعرف باسم نقد التراث.
الثانية: إعادة بناء تفسيرات جديدة مناسبة للتصورات الليبرالية الحداثية مع غض النظر عن المنهجية العلمية في فهم النصوص.
ما علاقة هذا بحجية الإجماع؟!
حجية الإجماع تمثل أكبر عائق أمام هذا التأويل الحداثي للتراث، لأسباب عدة، أهمها:
١. الأصل في الإجماعات أنها تكون على أحكام نهائية واضحة ومحددة، مستنبطة من النصوص الشرعية، فهي لا تقبل مساحات واسعة من التأويل وإعادة التفسير الذي يمكن ممارسته على النصوص، فالتلاعب بها عسير.
٢. الإجماعات ليست مجرد آراء فردية أو مذهبية يمكن التنصل منها تحت شعار رفض الكهنوتية ووصاية العلماء وغيرها من الشعارات البراقة، فالإجماع يمثل حجة شرعية وسلطة واضحة لا يمكن التغافل عنها.
٣. الإجماعات تكثر جدًا وتقوى للغاية كلما اقتربنا من مركز الدين، أي الثوابت الأساسية العقدية والفكرية في الإسلام، وأصول الشريعة الكبرى التي لا تقبل النزاع، ومركزيات الدين هذه هي التي تمثل المشكلة الأكبر لهذه الاتجاهات الفكرية المناوئة للشريعة، لذلك أنت لن تسمع من يتعرض في هذا السياق لإجماعات الوضوء والصلاة أو غيرها من العبادات مثلًا، لكن ستجد أن الكلام يدور حول الإجماعات المتعلقة بأبواب الجهاد والردة وقضايا المرأة التي تزعج الفكر النسوي وقضايا الحاكمية الشرعية والنظام السياسي في الإسلام، بل حتى يصل الأمر للكلام عن إجماعات تتعلق بأصول الاعتقاد كحدود الإيمان والكفر.
نعم، النصوص المتعلقة بأكثر هذه القضايا واضحة وقطعية، وليست أحكامها مفتقرة إلى وجود الإجماعات، لكن في ظل تسييل النصوص الشرعية والدعوة إلى فردانية تفسيرها وفتح باب نسبية فهمها على مصراعيه = تبقى حجية الإجماع من أهم أدوات حراسة أصول الشريعة من هذا التلاعب.