فكسونا العظام لحمًا – الجزء الثاني هل تعارض القرآن الكريم مع علم الأجنة؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد ..
فلنتأمل الآن في قول الله -جل وعلا-: “ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ”، ولننظر إلى هذه الآية وإلى الشبهة المثارة حولها من خلال ما بينّاه من قواعد.
(1) عن الغاية من الخطاب القرآني
إذا تأملنا في سياق هذه الآية نجد أن الله -جل وعلا- لما ذكر المؤمنين وسماتهم ومصيرهم أخذ في إقامة الحجة على الكافرين، بالتنبيه على وجوده -جل وعلا-، وعلى عظمته وتفرده، فإن هذا الخلق المعقد العجيب متتابع الأطوار يمتنع أن يكون مجرد صدفة، أو شيئًا عشوائيًا أعمى، بل هو دال على خالق عظيم، حكيم بديع، ولذلك يختم الله الآية بقوله: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، وأتت هذه الأطوار كذلك ضمن تعديد نعم الله على الإنسان توبيخًا للكافرين وتأنيبًا وتذكيرًا، فالله -جل وعلا- قد صاغ من هذه المضغة عديمة الملامح خلقًا بديعًا جميلًا حسنًا بعدما كانت مجرد نطفة أصلًا، ولذلك يأتي بعد ذلك سرد لنعم أخرى عدة، من إنزال الماء وإسكانه في الأرض، وإخراج الزروع والفواكه، وخلق الأنعام ومنافعها وغير ذلك، وأيضًا أتت هذه الأطوار لإقامة الحجة على منكري البعث، لذلك يأتي بعدها مباشرة (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ)، فالله الذي خلق الإنسان من طين، ثم من نطفة، ثم نقّل النطفة في هذه الأطوار شيئًا بعد شيء لا يعجزه أن يعيد الخلق مرة أخرى إذا رجعت عظامهم ترابًا وطينًا، وهذا معنى قرآني معتاد، وذلك كقول الله -جل وعلا-: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ).. فالمراد أن هذه الأطوار لم تُذكر لنفسها أصلًا، وليس المراد تعليم الصحابة إياها مثلًا، بل هي إشارة سريعة لمعنى يُعتبر به ويُتفكر فيه وينضم إلى كثير من المعاني الأخرى.
(2) عن طبيعة اللغة القرآنية
لن نجد في هذه الآية ونحوها لغة علمية صارمة، وإنما بيان بديع يحقق الغاية الأساس، فيشعر السامع أنه يرى هذه التحولات مُصوَّرةً أمام عينيه إلى أن يشاهد اللحم وهو يلتف حول العظام ليحتضنها ويتشبث بها، ولذلك ترى لفظة (فخلقنا.. فخلقنا..) لتبث في روعك كم هذه التحولات جليلة عظيمة، فكأنها مع كل مرة خلقٌ جديد تمامًا، وترى تشبيه اللحم بالثوب الذي تُلْبَسَه العظام، وترى إطلاق لفظة العظام على الغضاريف التي تتعظم بعد ذلك باعتبار ما سيكون كما هو معتاد جدًا في لسان العرب لكيلا تكون الصورة غريبة عن تصوّر المستمع وما يعتاده من جسده وأجساد الحيوانات من حوله، وترى أن الآية لم تعتن بتفاصيل هذه التحولات أو بيان من أين أتى هذا اللحم، وهذا يدل على أنه هناك مسار موازٍ من التطور قد سكتت عنه الآية حتى فصلٍ معين من الأحداث، كما قد سكتت عن ذكر ما يلي ذلك من العجائب، وإنما جاء العطف بالفاء لبعض المراحل ثم يأتي التعبير بـ (ثم) في قوله -جل وعلا- (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) ليُشعرك بأن كثيرًا من البدائع قد طُويت.. لماذا؟!.. لأن القرآن ليس كتاب أحياء أو أجنة، وإنما المراد مجرد إشارة للمعنى الذي يحتاجه السياق والذي يؤسس للعبرة والحجة، ويفتح أبوابًا لمزيد من التفكر والتدبر.
(3) عن الشريعة والموافقات العلمية
على الرغم من أن هذا الترتيب البديع بهذه الصورة لم يُسبق إليه القرآن فيما نعلم، لا في الكتب السابقة، ولا في كلام أبقراط ولا أرسطو ولا جالينوس ولا غيرهم كما قد يُتوهم = فإنا قد رأينا أن القرآن يذكر ذلك ذكرًا عابرًا للتوسّل إلى المعاني المركزية الكلية، وكذلك لم يُبْرز النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك بعينه على وجه الإعجاز والتحدي والإفحام، بل كانت مجرد إشارة للاعتبار والادّكار، فلو فرضنا -تنزلًا- أن هذا الترتيب لم يكن دقيقًا بديعًا لما كان لذلك أي تأثير ما دام الغرض الذي صيغت لأجله هذه العبارة متحقق بها، وذلك ما لم يكن هناك تعارضٌ حقيقي مع الحقائق العلمية.
(4) عن معنى التعارض الحاكم!
هل يوجد تعارض؟!
الحق أنه لا يوجد أي تعارض، والأمر لا يحتاج إلى فتح المراجع وتدقيق العبارات والتوسع في التأويلات، الأمر أيسر من ذلك، ليس في الآية أصلًا أي كلام أو أي أسبقية وجود أو تطور أو حتى انتقال من مكان لمكان، وإنما الكلام عن اكتساء العظام باللحم، والمراد باللحم هنا: العضلات الهيكلية (Skeletal Muscles)، والاكتساء لا يعني وجود اللحم بعد عدمه، ولا حتى انتظام الخلايا الأولية للعضلات (اللحم) في مواقعها حول العظم، ولا حتى وجود اللحم حول العظم، بل يعني اتصال اللحم بالعظم، والتفافه حوله وتشبثه به، والذي يحدث في مرحلة متأخرة عن وجود العظم قطعًا!.. وحتى لو تغاضينا عن ذلك فالسعة الدلالية للفظ القرآني العربي أكبر كثيرًا من هذه النظرة الأعجمية الضيقة.
وإن كان هذا لا يمنع أن نذكر من باب الفائدة أن المشهور في مراجع علم الأجنة المعتمدة مثل (The Developing Human) و(Langman’s Embriology) أن تميّز العظام في مواضعها من الجسد يسبق تميز العضلات الهيكلية حول العظام.
ومع ذلك .. فلو فرضنا وجود تعارض مثلًا!
هل هذا التعارض حاكم على النص القرآني؟!
الحق أن لا! ..
فكثير من التفاصيل الدقيقة لتطور الأجنة ما زالت غائبة أو غير مقطوع بها، خاصة فيما يتعلق بتطور العلاقة بين أجهزة الجسم وأجزائه المختلفة، والمعطيات العلمية إلى يومنا هذا ليست كافية لأي حكم حاسم دقيق في مثل هذه القضايا، وهذا بشهادة علماء الأجنة أنفسهم بالطبع.
(5) عن كلام المفسرين وشراح الأحاديث
الكلام في هذا بيّن، فكلام المفسرين في بيان معنى العلقة والمضغة واللحم ونحو ذلك = معتبر، وعليه التعويل، لكن قد تجد منهم من يخوض في تفاصيل التحول من مرحلة لأخرى بما يوافق معرفة زمانهم الطبية الناقصة، وترى بعضهم يذكر احتمالًا أن هذا اللحم ينبت على العظم من دم في الرحم، وهذا خطأ، وإن كانوا يذكرون احتمالًا آخر أنه يأتي من نفس المضغة، وهذا هو الصحيح، والمراد أن اجتهادات العلماء المحضة هذه لا علاقة لها بتفسير نفس النص القرآني وبيان معناه، والغلط فيها لا يقدح في النص، ولا يقدح كذلك في كلام نفس العلماء عند تفسيرهم للنص وبيان صلب معناه بناء على علوم لا تتبدل بالاكتشافات الحديثة، بل علوم يشهد الواقع أنها تضعف مع الزمن.