بينى وبينكم 2004 الحلقة العشرون رابعة العدوية
رابعة العدوية
رابعة العدوية….العذراء البَصْرية!
إن أغرب ما في هذه الشخصية أنها متهمة، ومدانة، ومفترى عليها، بجملة كبيرة من الاتهامات، كل واحد أشد من الآخر، وما قيمة الإنسان إذا طُعن في دينه، وفي عرضه؟
وتزداد المصيبة إذا كان المطعون به امرأة، وتزداد المصيبة أكبر إذا كانت هذه المسكينة لا تستطيع الدفاع عن نفسها، والذب عن سيرتها، كما هو الحال مع رابعة، ليس لأنها بصرية مستضعفة؛ ولكن لأنها ووريت التراب منذ زمن بعيد.
فهي امرأة صالحة زاهدة، من زاهدات القرن الثاني للهجرة، عُرفت بالحب الإلهي الكبير في قلبها، وكلامنا عن سيرتها:
أولاً: لنتعبد الله سبحانه وتعالى في الذب عن الصالحين، والصالحات.
ثانياً: لإعطاء الناس مادة ثقافية أخلاقية إيمانية.
ثالثاً: وهو مهم جداً وهو منهجية التفكير، وطريقة قراءة الكتب والتراث، والحكم على الأشخاص من خلال ما يُروى، أو يُقرأ، فكيف نحاكم الأخبار؟ وكيف نتقبلها بعقولنا، وقلوبنا؟ وكيف نحكم عليها؟
فالنقل سهل؛ ولكن التحقيق، وما بعد التحقيق وهو التدقيق، هو المطلوب منا جميعًا، فالتدقيق لا يكتفي بالدليل، وإنما يحاكم صحة الدليل إلى مدلوله.
فإلى تلك التهم، والشبهات:
التهمة الأولى: تهمة في عرضها!! فيقال إنها كانت فقيرة مستضعفة مع أخواتها، مملوكة عند أحد التجار في البصرة، فأخذها هذا التاجر وأصبحت راقصة عنده!!
هذه المعلومة وردت في كتاب لفريد الدين العطار، وهو مؤلف كثير الأساطير والخرافات التي لا يصدقها عقل، ولا يثبتها سند، إلا أن هذه المعلومة أصبحت شبه مسلّمة بسبب الدراما العربية، والأفلام العربية، التي أظهرت رابعة العدوية على أنها راقصة، تجيد فن الهز!!
هذه الصورة الشائهة لهذه الزاهدة هي صورة الإعلام العربي، وأنا أقول لكل مشاهد لمثل هذه الأفلام، والمسلسلات: إن الدراما التاريخية، والأفلام التاريخية، تدخل عليها تحسينات بما يناسب العرض، من خلال المخرج، والمعدّ، وكاتب السيناريو.
كما أن مثل هذه المعلومات المغلوطة قد تُوظف سياسياً أحياناً بحسب الجهة المنتجة لها.
ولذلك نرى تناقضًا واضحًا وكبيرًا بين النقل الحقيقي الموضوعي للتاريخ، وبين ما يُصنع إعلامياً، ويُروج في الفضاء التليفزيوني، أو الإعلام العربي.
التهمة الثانية: وهي أشد وأخطر: أن رابعة كانت زنديقة!!
والرد على هذه التهمة: أن علماءنا بيّنوا لنا أن هناك فرقًا بين روايات المحدثين، وروايات الإخباريين، وروايات المؤرخين، وروايات القصاصين، فهناك ما يعرف بعلم الجرح والتعديل، الذي من خلاله يمحصون النقلة، ويضعون شروطًا لضبط الرواية، والتدقيق فيها، وهو علم كبير من مفاخر التراث العربي الإسلامي.
ثم هناك قاعدة تقول: إن كنت ناقلاً فعليك بالصحة، وإن كنت مدعياً فعليك بالدليل، فالعلم لا يخرج عن خبر منقول، نحتاج أن نثبت صحته إلى قائله، أو دعوة أياً كانت هذه الدعوة: علمية، أو طبية، أو تحليلية، وصحة هذه الدعوة تكون بالدليل الذي تقدمه.
ومما يدحض كلا الفريتين: ما أورده القاضي المؤرخ ابن خلكان في كتابه: “وفيات الأعيان في أنباء أبناء الزمان“: وقالت لأبيها: يا أبه، لست أجعلك في حِل من حرام تطعمنيه، فقال لها: أرأيت إن لم أجد إلا حراماً؟ فقالت: نصبر في الدنيا على الجوع، خير من أن نصبر في الآخرة على النار.
بمعنى أنها كانت واعية للمعنى الإيماني منذ الصغر في قضية الحلال والحرام، والخطأ والصواب، وكلامها هذا يذكرنا بحديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (أيما جسد نبت من حرام فالنار أولى به)، فمن يكون بهذه العقلية منذ صغره، أيعقل بعد ذلك أن تتهم بالرقص والعري، والزندقة؟!!
لقد كانت كلمات هؤلاء القوم قليلة الحروف كثيرة المعاني، فها هي تسمع مرة صالح المري أحد الصالحين وهو يقول: (من أدمن قرع الباب يوشك أن يُفتح له)، أي: من أكثر الدعاء بالمغفرة، والطلب، ولجأ إلى الله سبحانه وتعالى، فإنه لا بد أن يُفتح له الباب، فالله أرحم الراحمين، فمهما أجرم الإنسان في حق ربه عز وجل، وعصى، وتمرد، فإنه إن تاب وأناب، وعاد إلى ربه منكسرًا، وجد الله تعالى غفورًا رحيمًا.
فصاحت به رابعة: يا صالح ومتى اُقفل الباب حتى يستفتح؟!
أي أن بابه سبحانه مفتوح على مدار الساعة، فالله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، كما علمنا المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ومن كلماتها الجميلة: اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم.
كثير من الناس يداري، ويستر عيوبه، وسيئاته، وهذا لا شك أنه شيء طيب مطلوب، ولكنها في هذه الوصية تدعونا إلى ملحظ تربوي عجيب، ألا وهو أنك ينبغي أن تكون بينك وبين الله تعالى بعض الحسنات التي لا يراها أحد، ولا يطلع عليها بشر، فهو تدريب للنفس على الإخلاص، والتجرد، والسمو، والصدق مع الله عز وجل.
ولذلك كان الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه إذا دخل عليه ابنه عبد الله أو صالح وهو يقرأ في المصحف في جوف الليل، وضع المصحف تحت ردائه، كأنه ليس هناك شيء! كل ذلك زيادة في التجرد، وتدريب للذات على التخلص من كل الأغيار، والوقوف في القلب مع الحق سبحانه وتعالى.
وقالت ذات مرة لسفيان الثوري، الإمام العابد الزاهد: يا سفيان، إنما أنت أيام معدودة، إذا ذهب يوم، ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض، أن يذهب الكل، وأنت تعلم فاعمل.
هكذا فلتكن النصائح، وإلا فلا.
ولذلك فإن كثيرًا من الناس يحبون الأخيار، والصالحين، مع أنه قد يكون مسرفًا على نفسه، فهذا عنده قابلية للخير، فلا بد من استثمار هذه النقطة.
فمن وصاياها لمحبي الصالحين، والصالحات، أن امرأة قالت لها:: إني أحبك في الله، فقالت لها: أطيعي من أحببتني له.
وقال رجل لرابعة يومًا: إني أحبك في الله، فقالت له: فلا تعص الذي أحببتني له.
ومن كلماتها التي أحدثت إشكالًا عظيمًا، ووقف معها المفسرون، والمحدثون، وعلماء السلوك، كلمتها التي قالت فيه: (يا رب ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، وإنما عبدتك لأنك تستحق العبادة)، وفي رواية: (عبدتك حباً فيك)، فبماذا فسّر العلماء هذا القول منها؟
قالوا: الذي يعبد الله خوفاً من ناره، وعقابه، فهذه عبادة المماليك والعبيد، والذي يعبد الله طمعًا في جنته، ونعيمه المقيم، فهذه عبادة التجار، أماهي فإنها تعبده سبحانه حباً فيه.
الإمام ابن رجب الحنبلي في كتابه: “استنشاق نسيم الأنس” قال: وكثير من العباد فُتِنوا، وأُخِذوا، وغُرِر بهم في باب الحب! وهذا صحيح، فنحن نعبد الله تعالى خوفاً من عقابه، وحباً له، ورجاء في رحمته، فالخوف والرجاء بمنزلة الجناحين من الطائر، والحب بمنزلة الرأس، فإذا فُقد أحد هذه الثلاثة، سقط الطائر.
وهذا الإمام ابن القيم يجعل الخوف حبًّا في نهاية المطاف! فأنا أخاف من الجوع لأنني أحب الشبع، وأخاف من الهزيمة لأنني أحب النصر، وأخاف من المرض لأنني أحب الصحة، فهناك معني سلبي، ومعني إيجابي صحيح للحب؛ لكن لا بد أن يكون هناك خوف، ورجاء.
فرابعة العدوية كانت تقصد أن تقول: إنك يا رب لكمالك، وجمالك، وجلالك، تستحق العبادة لذاتك، ولو لم تكن هناك جنة، أو نار، وهذا معنى عظيم وجميل، لا يلحظه إلا أهل المعرفة، فهي تلاحظ في قلبها المنعم قبل النعمة، ويُروى عنها أنها كانت تقول:
كلهم يعبدوك من خوف نار ويرون النجاة حظاً جزيلاً
أنا ليس لي بالنار والجنان حظ أنا لا أبتغي بحبي بديلاً
ولكن عند التدقيق نجد أن هذه الأبيات لرابعة الشامية، زوجة أحمد الحواري الزاهد، كما أن كثيرًا من الكتب المتقدمة تنسب لرابعة العدوية هذه الأبيات:
عرفت الهدى مذ عرفت هداك وقمت أناجيك يا من ترى أحبك حبين حب الهوى فأما الذي هو حب الهوى وأما الذي أنت أهل له فلا الفضل لي في ذا ولا ذاك لي |
وأخليت قلبي عن من عداك خفايا القلوب ولسنا نراك وحباً لأنك أهل لذاك فشغلي بذكرك عمن سواك فكشفك للحجب حتى أراك ولكن لك الفضل في ذا وذاك |
وهذه الأبيات عند التدقيق هي لآدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، حفيد الخليفة.
وقد قسّم ابن القيم الناس في الحب الإلهي إلى أربعة أقسام:
منهم من يريد الله، ويريد عطاءه، وهؤلاء هم الكمّل.
ومنهم من لا يريد الله، ولا يريد عطاءه، وهؤلاء هم الزنادقة.
ومنهم من يريد عطاء الله؛ ولكن ينسى الله، وهؤلاء هم الناقصون.
ومنهم من يريد الله، ولا يريد عطاءه، وهؤلاء يدخل عندهم الجانب الوهمي.
والصحيح أن نعبد الله تعالى بالحب، والخوف، والرجاء.
ومن كلماتها الجميلة: ما ورد عن خادمتها عبدة حيث تقول: كانت رابعة إذا جن عليها الليل قامت، ونادت: إلهي هدأت الأصوات، وسكنت الحركات، وخلا كل حبيب بحبيبه، ولقد خلوت بك يا محبوبي، فاجعل خلوتي وحبي لك في جوف الليل عتقي من النار يوم القيامة.
إذن هي كانت تخاف من النار، وترجو من الله سبحانه وتعالى أن يعتقها منها.
وتحكي عنها عبدة فتقول: كانت رابعة تصلي اليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة، حتى يسفر الفجر، فكنت أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها ذلك وهي فزعة: يا نفس، كم تنامين؟ وإلى كم تقومين؟ يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها، إلا لصرخة يوم النشور!
وكان هذا دأبها دهرها حتى ماتت، ولما حضرتها الوفاة دعت عبدة وقالت: يا عبدة لا تؤذني بموتي أحداً، وكفنيني في جبتي هذه، وهي جبة من شعر كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون، قالت: فكفناها في تلك الجبة، وفي خمار صوف كانت تلبسه، ثم رأيتها بعد ذلك بسنة أو نحوها في منامي عليها حلة إستبرق خضراء، وخمار من سندس أخضر، لم أر شيئاً قط أحسن منه، فقلت: يا رابعة، ما فعلتِ بالجبة التي كفناك فيها، والخمار الصوف؟ قالت: إنه والله نُزع عني، وأبدلت به ما ترينه علي، فطويت أكفاني وختم عليها، ورفعت في عليين؛ ليكمل لي بها ثوابها يوم القيامة، فقلت لها: لهذا كنت تعملين أيام الدنيا؟ فقالت: وما هذا عندما رأيت من كرامة الله عز وجل لأوليائه؟! قلت: فمريني بأمر أتقرب به إلى الله عز وجل، قالت: عليك بكثرة ذكره، يوشك أن تغتبطي بذلك في قبرك.
والخلاصة أن رابعة العدوية كانت امرأة صالحة، خيرة، تقية، سطرت لنا في تاريخ حياتها، وعبادتها، وبعد موتها، أجمل الوصايا وأعظمها.