بينى وبينكم 2005 الحلقة السادسة عشر الارهاب ج 3
الإرهاب ج3
وها هنا كلمة لا بد من لفت الانتباه، فقد يخلط ويغلط بعض الناس فيها، فأقول: إن الجهاد حكم شرعي، وهو ماضٍ إلى قيام الساعة، ولن يستطيع أحد مهما أوتي من قوة ونفوذ أن يلغي هذا الحكم، فهذا أمر لا نقاش فيه، إلا أنه من الممكن حرف مسار الجهاد عن وجهته الشرعية، وتشويه صورته بأعمال تخريبية لا تمت إليه بصلة أبداً، وهذا هو الذي يجعل الناس أو كثير من الناس بدأ يتململ من هذا المصطلح القرآني، وينفر منه، ويجعله في مصافِّ الأعمال الإجرامية التي يقوم بها المفسدون والمخربون من كل دين ومذهب، وهذا غاية في الظلم، فالعاقل المنصف لا يرد الخطأ بخطأ مثله أو أكبر منه، بل لا بد من وضع كل شيء في موضعه الصحيح، ومكانه اللائق به.
كذلك من النقاط التي استوقفتني في حواري مع الأخ أبي عبد الرحمن: مسألة التعذيب في السجون العربية!!
فقد وصف تلك السجون بأنها أقسى وأعتى وأشد من السجون الأوروبية! حيث يمارس على السجين تصرفات مشينة، مهينة، بعيدة كل البعد عن الأخلاقيات البشرية، فضلاً عن العربية، فضلاً عن الإسلامية، كل ذلك من أجل انتزاع بعض الاعترافات من هذا المتهم، لربما كان منها بريئاً!
فأقول: إن ثقافة السجون هي أحد أسباب انتشار فكر العنف والتطرف والانتقام! وليس شرطاً أن يسجن الإنسان حقيقة، بل قد يكون تلقى ثقافة تكونت في تلك السجون، فولّدت عنده ردة فعل، فينتقل هذا الإنسان من الانتقام للدين، والاندفاع للعقيدة، إلى الانتقام النفسي!
ولذلك فإني وكل عاقل ندعو الدول العربية ووزارات الداخلية في العالم العربي أن يراجعوا حساباتهم في التعامل مع هؤلاء الشباب، ومع هذه الملفات الشائكة، والمعقدة، والتي هي أحد أسباب ميلاد وتوسع دائرة العنف في العالم العربي، كما قال الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله تعالى كلمة، لا زلت أحفظها منذ المرحلة الثانوية، حيث قال: إن الأفكار ﻻ تغير بالكرباج، إن الأفكار ﻻ تغير بإطفاء أعقاب السجائر في أماكن العفة والكرامة، إن الإفكار ﻻ تغير بوضع الطوق الكهربائي في الرؤوس، إن الأفكار ﻻتغير بتعليق الآدميين كما تعلق البهائم في السلخانات، إن الأفكار ﻻ تغير بهتك الأعراض، إن الفكر ﻻ يغير إﻻ بالفكر.
أتذكرون قصيدة القرضاوي؟
أسمعت بالإنسان يجلد ظهره حتى يقال أنا المسيء خذوني.
أسمعت بالإنسان يوضع رأسه في الطوق حتى يبتلي بجنون.
أسمعت بالإنسان ينفخ بطنه حتى يرى في هيئة البالون.
قصيدة من 200 بيت، كلها في التعذيب من واقع تجربة شخصية عاشها الشيخ مع الأسف.
من النقاط التي تدفع لعمل غير متوازن عند كثير من الجماعات التي تريد أن تغير عن طريق العنف قضية اليأس، فيقول لك: هذه أمّة يائسة! فممن تتأمل العزة والنصرة؟ هل من الأنظمة؟ أم من العلماء؟ أم من المؤسسات؟ أم من غيرها؟
إذن هناك يأس ضارب أطنابه، وبالتالي فالحل: اضرب في كل اتجاه، ولا ترحم أحداً!!
فنقول: ولكن يا أخي الحبيب هذا لا يجوز، والله سبحانه وتعالى أمرنا بالعمل، وبذل الوسع في أخذ الأسباب، أما الثمرات والنتائج فهي إلى الله عز وجل، وأنت لست مكلفاً ولا مسؤولاً عن ذلك، فمن الأنبياء من يأتي يوم القيامة وليس معه إلا ثلاثة، ومنهم من يأتي ومعه اثنان، ومنهم من يأتي وليس معه أحد!! كما قال صلى الله عليه وسلم، ومن الأنبياء من قُتل، ولم يكمل مهمته، وكلنا يعرف قصة سيدنا نوح عليه السلام الذي دعا إلى الله تعالى ألف سنة إلا خمسين عاماً، ومع ذلك لم يستجب له إلا النفر القليل، فقضية اليأس من المسائل التي ينبغي تصحيحها.
كذلك من الأفكار المغلوطة في قضية التغيير بالعنف، وعدم مراعاة البعض للنتائج، أن يقول لك: إن الأمة وصلت من الانحطاط، والانحدار، والهزيمة، ما جعلها في ذيل قافلة الإنسانية، فليس هناك شيء نخسره أكثر من ذلك!!
أقول: ومن قال لك ذلك؟ وكيف أنه لم يعد لدينا شيء نخسره؟ وهل هذا مبدأ ديني يعول عليه، أم أننا لا بد أن ننطلق من ثوابت شرعية؟
ولذلك رأينا أن بعض تلك الأعمال العنفية جاءت على نقيض مقاصد أصحابها! فإن الخسائر التي نتجت عن أحداث 11 سبتمبر، والاستسلام، وتمكن الغرب، وإذلال الأمّة، أكثر بكثير مما كان قبلها، وهذا يقر به كل منصف متجرد عن الهوى، أي أن الأعمال حيث مكنت للغرب أكثر، ومكنت للخصم المقصود أكثر.
ثم ماذا عن قضية الوسائل والغايات؟
فنحن لدينا غايات مشروعة، لها وسائل وهي الجسور التي نصل من خلالها إلى تلك الغاية، فهل هذه الجسور والوسائل تكون بهذه الطريقة، ويجتهد فيها كل أحد كيفما شاء؟!
هل نحن ميكافيليون غربيون ليبراليون ماديون؟! هؤلاء لديهم الغاية تبرر الوسيلة، أما نحن فالغاية عندنا تقرر الوسيلة، فلا يجوز لي أن أقتل مدنيين بحجة أن دولهم تعادي الإسلام، وتحارب المسلمين! هذا شيء، وهذا شيء آخر، ونحن أمة العدل، كما قال الله تعال: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}.
كذلك من الأمور التي لا بد من فهمها في قضية التغيير، أننا لا بد أن نعرف أن هناك منكرات منوطٌ تغييرها بالحكام، فإن هم قصروا، أو كانوا غير مؤهلين، أو عاجزين، فهذا شأنهم، وأنا لست مسؤولاً عن ذلك، وفي المقابل هناك منكرات منوطة بالأشخاص أستطيع أن أغيرها بيدي، فمثلاً: إذا رأيت اثنين يتعاركان، أو إنساناً يريد أن يغتصب امرأة، فإني أتدخل بما تتيح به القوة والاستعانة.
أما أنني أكون مقيماً في بلد قانونه الرسمي يسمح بفتح مقاهي، وخمارات في الشوارع، وفي الدكاكين، وفي الفنادق، فهل أذهب وأكسر هذه الخمارة، وأقول هذا تغيير باليد من باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)؟!
أقول: كلاّ، لا تفعل ذلك؛ لأن المفسدة المترتبة على فعلك هذا أعظم بكثير من المصلحة، ومن هنا كانت الحسبة أحد المؤسسات الرسمية في الدولة الإسلامية، والتي يناط بها تغيير المنكرات العامة، فمثلاً البلدية تعتبر في مقام المحتسب ضد الفساد والغش الواقع في المحال التجارية، والمطاعم، وهي المسؤولة عن محاسبة المخالف والمقصر، أما أنا كفرد فوظيفتي إن رأيتُ مخالفة هو التبليغ عنها للجهات المختصة، وليس الضرب، والتكسير، وتغيير المنكر باليد، وإلا أصبحت الأمور فوضى، وانفرط نظام المجتمع، وأصبح الكل يأخذ حقه بيده، وعندها تفسد الأوضاع، وتختلط الأمور.
إذن هناك منظومة شرعية مدروسة دراسة دقيقة وعميقة من أجل ألا تحصل الفوضى في قضية التغيير، ﻻسيما التغيير المادي والتغيير باليد، نعم إذا فهمنا هذا الفهم نكون بالفعل اقتربنا من قضية محاصرة الخلل الذي يقع في قضية التغيير، إما بالعنف المادي، أو بالعنف المادي المبسط، هكذا نريد من المسلم أن يفهم.
كذلك من العناصر التي ينبغي أن تفهم في قضية الصراع العالمي: قضية توازن القوى، وسنن التمكين، والنصر، فالله سبحانه وتعالى خلق الكون، وخلق الناس، وجعل قوانين، هذه القوانين حيادية إذا أخذ بها الإنسان انتصر وتقدم، سواء كان هذا الإنسان مؤمناً، أم ملحداً! مسلماً، أم مسيحياً، أم يهودياً!
ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى عن المؤمنين والكافرين كما في سورة الإسراء: {كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً}، فعطاء الله لا يحظر عن أحد، لا عن المؤمن، ولا عن الكافر، بل الذي يبذل أكثر، ويتميز، ويقدم، ويجتهد، يكون له النصيب الأوفى، وهذا الأمر ينسحب على الدنيا والآخرة على حد سواء.
كذلك يجب أن نعرف أن من أخطر القضايا وأصعب القضايا قضية الدم! فحرمة الدم عظيمة عند الله تعالى، ولكن أي دم؟
يقول تبارك وتعالى: {أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً}، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ادرؤوا الحدود بالشبهات)، أي ادفعوا تطبيق الحدود ومنها القتل بالشبهات.
فلو اتُّهم شخص بقتل آخر، وكان عليه حد القتل، إلا أن هناك قرينة صغيرة تقول بأنه ليس هو الفاعل، فإننا في هذه الحالة نحكم عليه بحكم غير القتل، وندرأ، وندفع القتل، فإن الحاكم لأن يخطيء في العفو، خير من أن يخطئ في العقوبة، هذه قاعدة لا بد من مراعاتها.
كذلك عندما نقرأ في الشريعة نجد أن الدين جاء من أجل ماذا؟
من أجل أن يحقق لنا مقاصد خمسة كبرى في حياة البشرية كلها وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسل، ولاحظوا كيف قدمت حرمة الدم على مال والعقل والنسل، بل وعلى الدين في بعض الحالات! فلو أن إنساناً انقطعت به السبل في صحراء مقفرة، ولم يكن معه شيء يقتات به، وقد أشرف على الهلاك من شدة العطش، وفجأة وجد زجاجة خمر، فهل يجوز له في هذه الحالة شرب الخمر؟ نقول: نعم، بقدر ما يسد رمقه، ويطفئ عطشه، كل ذلك حفاظاً على حياته، ولو أدى ذلك إلى التفريط في شيء من دينه! فالدم ليس بالأمر الهين.
ولذلك نقول: إن الجهاد حق، والجهاد واجب، وإذا بغي على أحد المسلمين، أو أخذت أرض إسلامية، فلا بد من الدفع، ولكن يجب أن نفرق بين الجهاد الصحيح، والمقاومة المشروعة، وبين الفوضى، فهذه المسألة هي التي قام وقعد عليها الناس، واختلفوا فيها، والتي نحاول أن نلقي الضوء على بعض الخلل فيها، أو ما لا نوافقه.
الموضوع ليس سهلاً، فالمشكلة كبيرة، وتحتاج إلى دراسة متأنية شاملة منصفة، وما هذه الإضاءات إلا محاولة لإلقاء الضوء هنا وهناك وهنالك، لعل وعسى أن نقترب، وأن نخفف من هذه الأمور الملتبسة الكثيرة لكي نعرف الحكم الشرعي.
نسال الله تعالى أن يحقن دماءنا، ودماءكم، ودماء الجميع إلا المعتدين المجرمين من أي فئة كانت، لا سيما المغتصبين لديار الناس.