بينى وبينكم 2006 الحلقة الرابعة عشر ديموقراطية بلا حجاب
ديموقراطية بلا حجاب
كثيراً ما يتكلم البعض ويجعجع عن قضية الرأي والرأي الآخر، ولكن الأجمل في الموضوع أنه عندما يختلف معك اختلافاً جوهرياً يصل إلى حد النقيض في الفكر والاتجاه، ثم يقول لك: أنا أحترم رأيك!!
كيف تحترم رأيي، والرأي الذي تطرحه، أو الذي تتبناه، أو العقيدة أو الفكرة، تناقض الرأي الذي أقوله؟!
فإن كان رأيك حقيقة، ورأيي حقيقة كذلك، ثم هما يتناقضان، فهذا شيء مستحيل؛ لأن الحقائق لا تتناقض، فإن الحقيقة يناقضها الباطل قطعًا، فكيف تحترم رأياً تعتقد أنه باطل؟!
والصواب في ذلك: أنني أحترم، وأراعي، وأتعامل بحسن خلق مع صاحب الرأي الباطل، أما رأيه فلا احترام ولا تقدير له عندي أبدًا، فقد يكون رأيك وثنيًّا، فعلى أي أساس أحترمه؟ وقد يكون رأيك في غاية السخف، والسذاجة، واللامعقول، فكيف لي أن أحترمه.
ولذلك أقول: إن فكرة احترام الرأي الآخر إنما تكون في القضايا التي فيها سعة، والقضايا التي تتبادل فيها، وتتنوع فيها وجهات النظر، في دائرة من الخلاف المباح، المسموح، المنتج، الثري، المتنوع، أما عندما يكون في المسألة قولين نقيضين، فإنني لن أحترم فكرك، ولا أريدك أن تحترم فكري، إذا ما كنت تعتقد أنه حق، أو كنت تعتقد أنه باطل.
كانت هذه مقدمة لحديثي عن كتاب له قصة بعنوان: ديموقراطية بلا حجاب، لمؤلفة تنتمي إلى جامعة هارفارد من أشهر الجامعات الأمريكية، وهي امرأة سياسية نجحت في البرلمان التركي عام ١٩٩٩ فحدثت ضجة عظيمة لهذا النجاح الذي أحرزته، لماذا؟ لأنها كانت ترتدي الحجاب!!
نعم، فهذه الخرقة أحدثت ضجة كبيرة في بلدها، وقامت ضدها الأقلام، وانتقدتها التيارات، والصحف، وبعض الشخصيات الفكرية، بل وأصبحت حديث العالم.
إنها مروة قاوقجي، نائبة البرلمان التركي عن حزب الرفاه، ثم عن حزب الفضيلة.
تقول: انتظرت أربع أو خمس سنوات حتى تهدأ نفسي من تلك الجراحات، وأجمع مادة هذا الكتاب بهدوء.
وهو يقع في ثلاثمائة صفحة تقريباً، ومدعم بالصور الكثيرة، وموثق بالمصادر والصحافة، وتصريحات السياسيين، والإخباريات الدولية، والخارجية، والقنوات الفضائية، والكتب، والرحلات.
تكلمت في هذا الكتاب عن الجانب السياسي، والجانب القانوني، والجانب القيمي، وجانب الولاء، وجانب الصراعات الداخلية في الأمم غير الأوروبية الخ…
ومن النصوص في هذا الكتاب، والتي تزعج كثيرًا، نص قاسي تقول فيه: دخلت البرلمان باختيار شعبي حر، في بلد يزعم أنه علماني، والعلمانية تسمح للرأي، والرأي الآخر، كما يعلموننا، ويسوقون إلينا هذه الأحلام، ثم تقول: وفي عهد حكومة ائتلافية، صدر تعميم حكومي، مصدق برلمانيًّا، ينص على منع المحجبات، والحيوانات، من دخول المخيمات الصيفية التي أنشاها البنك المركزي من عرق جبين هذه الأمّة!!
ثم تقول: لقد دمعت عيناي عندما رأيت الحشود الكثيرة تتظاهر في العالم أجمع في تعاطف معي.
إن ما حدث مع هذه النائبة المحجبة ذكرني بأطروحتي في الدكتوراه عندما تكلمت عن الحرب الشرسة على الحجاب، حيث يقولون: لماذا تجعلون من خرقة صغيرة قضية كبيرة؟ وتشغلون بها الناس، وتهتمون بأمور جزئية؟
فأقول: بل أنتم من جعل منها قضية، وحاربتم المرأة في عفتها، وفيما اختارت.
وليست العلمانية المعاصرة هي التي قالت هذا فحسب، بل منذ منتصف القرن الماضي والحديث فيها متداول! فهذا الطاهر الحداد الكاتب التونسي يشبّه المنقبات بأنهم يضعن على أفواههن ككمامات الكلاب! ويأتي عزيز العظمة في كتابه العلمانية من منظور مختلف ويقول: هذا كلام علمي! لأنه صدر من وجهة نظر غير دينية! وهذه نوال السعداوي تتهم نساء النبي صلى الله عليه وسلم أنهن لم يكن محجبات أصلاً!! وأنا لا أدري هل هؤلاء الناس وغيرهم كثير حين يتكلمون بمثل هذه التخرصات والافتراءات يكون بكامل وعيه، أم ماذا؟!
وهذا حسين أحمد أمين يكتب فيقول: إن نسل المحجبات أضعف من نسل المتبرجات!! فيرد عليه محمد عمارة في كتابه: “الإسلام بين التزوير والتنوير”.
والبعض من هؤلاء يقول: إن النص الشرعي لا يقول بالحجاب!!
فكلامهم إما تأويل باطل، أو سخرية، أو حرب، ثم يأتون بعد ذلك ويقولون: لماذا أنتم متعصبون، وتهاجمون الآخرين، وتفندون آراءهم، وتعنفونهم؟!
وأظن الجواب واضح وظاهر لكل ذي عينين.
دعوا الناس وشأنها، ولا تبخلوا على المرأة في سترها، وحشمتها، وسيرها وراء أمهات المؤمنين، في عصر العري، والابتذال، والهبوط إلى مستوى البهيمية.
وتعالوا بنا نتكلم عن الموضوع من وجهة نظر أخرى، ومن زوايا جديدة، فنحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى معرفة المرحلة التاريخية التي نمر بها، إنها مرحلة العولمة الاقتصادية، مرحلة ما يسمّى بأيديولوجية السوق، أو كما وصفها الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه: “الفردوس الأرضي”: بـ: الإمبريالية النفسية! والتي هي بخلاف الاستعمار المباشر التقليدي، الذي هو فتح أسواق، وإيجاد عمالة رخيصة، واستثمار الإنسان، ونزف دمه؛ فالإمبريالية النفسية، أو الاستعمار النفسي هو توسيع السوق من خلال توسيع شهوات الإنسان! وبتوسيع شهواته، وتحويله إلى شيء، أي انفصاله عن الإنسانية، كما قال الفيلسوف جورج واكاتش، وتحويله إلى صفات المادة، أو صفات غامضة!
فالمرأة اليوم تُوضع في هذا السياق عن طريق توسيع دائرة شهواتها، وإقناعها، وإيهامها، بأن شخصيتها يجب أن تكون على حسب ما تصمّم لها دور الأزياء، وشركات مستحضرات التجميل!! التي تقنع المرأة بأن عليها أن تغير شكل وجهها، وألوانه كل فترة بشكل جديد! ثم خرجوا علينا بدراسات جديدة، وهي في الحقيقة أمراض، كمرض الرشاقة، والتخسيس، فالمرأة تشعر دائماً أنها غير مرضي عنها، وأن جسمها ليس هو الجسم المطلوب، وأن رشاقتها ليست هذه الرشاقة المطلوبة! فتضطر رغمًا عنها أن تستجيب لتلك الشركات التي تُسلع جسدها، وتسوقه حسبما تريد تلك الشركات بما يعود عليها بالنفع المادي البحت، دون النظر إلى حاجات الآخرين، أو عدمها.
ثم تأتي بعد ذلك شركات الأزياء، والتي أصبحت لها قنواتها الخاصة، ونجومها، وأبطالها، وأكثر هؤلاء من الشاذين جنسياً! بل قد مات خمسة منهم بالإيدز في سنة واحدة!! ولكن استطاعت صناعة الأزياء أن تُعمي الخبر، وتخفيه سريعاً؛ حتى لا يؤثر ذلك على منتجاتها، وتسويقها.
هذا الجو الدعائي هو الذي يخدع المرأة، ويقنعها بأنها امرأة تحتاج على مدار الساعة أن تُجدد ذاتها من ملابس، إلى أزياء، إلى معايير معينة في الجسد، والرشاقة، إلى غير ذلك، وتعيش في هذا الوهم الدائم، وتدخل هذا المصنع الكبير الذي يتعامل معها على أنها جسد ينبغي أن يوظف لخمته، لا أنها امرأة لها كرامة العفة، والستر، والحشمة.
إن فلسفة الحجاب كما يقول مراد هوفمن سفير ألمانيا في المغرب، وسكرتير حلف شمال الأطلسي السابق، هو: إشارة، وإعلان، وثورة، على الرذيلة، والعري، واستباحة جسد المرأة، وإشارة للآخر أن هذا الجسد له حرمة، وحتى يدخل في علاقة مع الآخر لا بد أن يكون تحت عقد سماوي إلهي.
هكذا تُكرم المرأة، وتُحشم الأنثى، لا كما تعتقد بعض النساء أن حريتها وكرامتها في التبرج، والسفور! وليت الأمر وقف عند التبرج، لهان الخطب قليلاً، مع أنه مخالفة شرعية، بل إن الأمر تجاوز الحدود ووصل إلى حد التبذل المقرف، والتفسخ المنحط، والانحلال المشين، من جميع الأوجه، وباتفاق المسلم وغير المسلم، ممن هو صاحب خلق وأدب، وفضيلة!
أليس هذا الأمر يُسعف عباس محمود العقاد في وصفه للمرأة بأنها حيوان استعراضي! ترى وجودها في لفت الأنظار إليها من خلال لحمها؟!
وهذا الكلام وإن كان قاسيًا، لا نرضاه للمرأة، إلا أنها هي التي أعطته الذريعة، والحجة لمثل هذا القول.
وهذا ما حدا بالأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي في كتيبه: ” كلمة وكليمه” إلى القول: لو كنت قاضياً ورُفع إلي شاب تحرش بامرأة، ثم رأيتُ الفتاة متفسخة متبرجة متعطرة مبتذلة لعاقبتها عقوبتين! الأولى: لأنها اعتدت على عفة الشباب، والثانية: لأنها كشفت اللحم للقط، وقالت له: تعال!!
ونحن نعلم جميعًا أن من النساء السافرات المتبرجات من هن صالحات، ومصليات، وخيّرات، كما أن في بعض المحجبات سوء أخلاق، وقلة أدب، ووقاحة، إلا أن فعل الناس ليس حكمًا على الشريعة، وإنما الشريعة حكم على فعل الناس، فنحن محاسبون أمام الله تعالى، ولا نريد إلا الخير للناس جميعًا، فعلينا أن نحصن بيوتنا، وبناتنا، فتحترم ذاتها حتى يحترمها الآخر، ونعزز الفضيلة، والعفة، في كل مناحي الحياة.