بينى وبينكم 2006 الحلقة الثانية والعشرون سجن الخيام ج 2
سجن الخيام 2
في مرحلة الثانوية وقع تحت يدي في مكتبة الوالد حفظه الله كتاب بعنوان: “البوابة السوداء”، لأحمد رائف، فلما قرأت الكتاب، أصابني من الرعب، والخوف، والذهول، ما االله به عليم؛ لأن الكتاب كان عبارة عن تجربة مريرة قديمة مع السجون في القرن الماضي، وبعدها توجست خوفاً من الأنظمة عموماً، وأصابني إحباط كبير من عالمنا العربي!
ثم بعد ذلك بدأت أسمع أشرطة الشيخ عبد الحميد كشك، الذي كان يركز كثيرًا على الظلم في العالم العربي، والإسلامي، وسمعت كلمته العظيمة عندما قال: (إن الأفكار لا تُغير بالكرباج، إن الأفكار لا تُغير بتعليق الآدميين كما تُعلق البهائم في السلخانات، إن الأفكار لا تُغير بإطفاء أعقاب السجائر في مواطن العفة والكرامة، إن الأفكار لا تُغير بوضع الطوق الكهربائي في الرؤوس، إن الفكر لا يُغير إلا بالفكر)، فكانت لهذه الكلمة وقعها في نفسي، فهناك من يُعذب من أجل فكره، وهناك من يُنتهك من أجل موقفه السياسي، وهناك من يبالغ في عقوبته لانتمائه!
وعندما كبرتُ، وذهبتُ إلى العالم أتقصى الحقائق، صدمتُ كثيرًا من معلومة تكررت مرارًا وتكرارًا على ألسن السجناء، والمعذبين، والمضطهدين، كلها تدور حول دور العملاء في انتزاع الاعترافات من هؤلاء المساجين، والوشاية بهم، ونقل المعلومات عنهم إلى العدو!!
بل إنني سمعت من أحد هؤلاء السجناء الفلسطينين أن العملاء العرب الذي كانوا يعملون لمصلحة إسرائيل كانوا أشد وطأة عليهم من الإسرائيليين أنفسهم! بل كانوا يقولون لهم: لو كان الأمر بيدنا لقتلناكم، وتخصلنا منكم؛ لكن الإسرائيليين كانوا يراعون بعض المنظمات الدولية، ليُلمعوا صورتهم الوحشية الشائهة!!
ويؤسفني أن أقول: إن في بعض سجون العرب من الانتهاكات ما يفوق كثيراً ما يحصل في إسرائيل، وفي دولة بني صهيون!!
وهذا ما جعل الدبلوماسي، والوزير السعودي الدكتور غازي القصيبي يختم كتابه: “ثورة في السنة النبوية”، بهذا النص:
عن هشام بن حكيم قال: مررت بالشام على أناس من الأنباط قد أُقيموا في الشمس، وصُب على رؤوسهم الزيت، فقلت: ما هذا؟ قيل: يُعذبون في الخراج! أي أنهم لم يعطوا المستحقات التي عليهم من المال، فقلت: أما أنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن الله يعذب الذين يعذبون في الدنيا)، وفي رواية: (إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)، ثم ختم كلامه بهذه الأسطر الأربعة فقال: لو كان لي من الأمر شيء لوضعت في كل كلية أمنية في بلاد المسلمين مادة اسمها: إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا، ولو كان لي من الأمر شيء لفرضت دراسة المادة فرضاً على كل من يملك سلطة الأمر بضرب، أو حبس، أو تغطيس!
فالمسألة خطيرة، وهذا الذي ينبغي أن يُركز عليه، أما قضية البريستيج عن الحرية، والديموقراطيات، والانتخابات، فهذه قد تكون موجودة، ولكن يبقى الظلم، والديكتاتورية، وعدم حقوق الإنسان في عالمنا الإسلامي! وهذه كارثة مدمرة، ولذا ينبغي أن نتذكر دائماً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت امرأة النار في هرة، حبستها، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)، فإذا كان هذا مصيرها بسبب قطة، فكيف بهؤلاء الجلادين بأمر الأنظمة؟!
الدكتور مصطفى حجازي في كتابه: “الإنسان المهدور”، قام بدراسة تحليلية نفسية اجتماعية عن هدر الحقوق، وهدر الآدمية، وهدر الكرامة، وتكلم عن أنواع التعذيب المتنوعة: التعذيب النفسي، والتعذيب الجسدي، والتعذيب العقلي، ثم تكلم بعد ذلك عما يترتب على ذلك، وطرح تساؤلًا: هل الجلاد إنسان؟ وأنا بدوري أطرح تساؤلًا آخر فأقول: وهل الذين رضوا عن الجلاد، وأمروه من أنظمة، هل هي أنظمة إنسانية؟ وهل هي أنظمة تستحق الحياة؟ أو تستحق الاحترام؟
إذا كان ظُلم البهيمة يُسأل الإنسان عنه يوم القيامة، أفيفلت الإنسان الذي يهتك حرمة أخيه الإنسان من عقاب الله تعالى؟!
إننا أمام مصيبة كبيرة، وأزمة حقيقية، فلا بد أن نصحح المسير، ونعدل المسار، ونعيد الحقوق للناس، ونطالب بإيقاع العقوبة على من أجرم.
وعلى الإنسان ألا يتحيز في قضية العدالة، وأن يتعاطف مع كل معذب، فهذا المعذب قد يكون ملحدًا، وقد يكون عابد بقر، وقد يكون شيوعيًّا، ومع ذلك لا بد أن نتعاطف معه، وننصره، فهذا جزء من إنسانيتنا قبل أن تفرضه علينا الشريعة.
ثم إن على الأنظمة الحاكمة أن تُغير من ذاتها، قبل أن يأتيها الضغط من الخارج، وألا تساوم على هذا التغيير؛ لأن العالم كله يتغير.
إن الواجب علينا أن نرفض الظلم أينما كان، وأن ننتصر للمظلوم أياً كانت جنسيته، أو عقيدته، وأن ندعو مؤسسات المجتمع المدني، وندعو كل من له عقل، ووعي، وضمير، أن يتكلم مع الأنظمة، حكاماً، ووزارات داخلية، ويذكرهم بالله، ويذكرهم بالعدالة، وبتحقيق عبودية الإنصاف، وإنقاذ المظلومين.