بيني وبينكم 2007 الحلقة الاولي الحلال والحرام
الحلال والحرام
نعيش اليوم في حياة مادية، نعيش في أيام يصنع فيها الإنسانُ الأناني الإنسانَ المختزل المسلع، وفي ظل هذه الإنسانية المادية التي تفصل الإنسان عن ماضيه التاريخي، وتحجزه في أهداف صغيرة، وتلغي عنده المستقبل البعيد، والأهداف الكبرى، تزداد دائرة ارتكاب الناس للمحظورات، والحرام، ومخالفة القانون، والوقوع في الآثام والمناكر بكل أنواعها!! لماذا ذلك؟
ألست إنساناً أنانياً؟
ألست مختزلاً في المادية؟
إذن فُتحت أمامك هذه الدنيا فاصنع كما تشاء، والقاعدة تقول: إنه ما من مجتمع إﻻ فيه حرام حلال، وما هو بين الحرام والحلال، إلا أن المجتمعات تختلف في حرامها وحلالها، بدءً من المجتمعات البدائية المفصولة في الجزر، أو في أدغال الغابات، أو القرى المنعزلة، وانتهاء بالمجتمعات المدنية الراقية القانونية المتمدنة، التي تحتكم إلى تفاصيل التفاصيل، فلا بد أن يكون هناك حرام، حلال، وما هو بين الحرام والحلال.
نحن في المجتمعات الشرقية ما زال أغلبنا يتصل بالدين، فالدين والعقيدة تمثل مصدراً أساسياً في سلوكنا، وفي قناعاتنا، وفي أذواقنا، وفي وجداننا، فكيف ننطلق في الحرام والحلال؟!
نقرأ هذا الحديث النبوي العظيم الذي يعتبر أصلاً في الدين، بل قيل إنه ربع أو ثلث الإسلام، والذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم:(الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات)، ثلاثة أقسام: حرام، وحلال، وفي المنتصف مشتبهات، فالحرام بيّن أي: واضح في الحرمة، والحلال بيّن كذلك، أي: واضح في الحل، وبينهما أمور هي بين بين، وأضرب مثلاً لذلك: عندما تقف على إشارة المرور، فالإشارة حمراء، هذا حرام بيّن، فلا يجوز لك أن تعبر، لأنه يوجد قانون، وتوجد عقوبة، أما الإشارة الخضراء فهو الحلال البيّن، فتستطيع أن تعبر كما تريد، ثم بينهما أمور مشتبهات، وهي: الإشارة الصفراء، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس)، بمعنى: أنه يوجد من الناس من يعلمها، لكن الكثيرين من الناس ﻻ يعلمونهن، وقد يعلمون أعيانها لكن لا يعلمون أحكامها، فهل هي حلال أم حرام؟ الأمر بين بين، ثم قال عليه الصلاة والسلام:(فمن اتقى الشبهات) أي: وضع بينه وبين الشبهات حاجزاً، (فقد استبرأ لدينه، وعرضه)، أي برأ نفسه، وتخلص لدينه أمام ربه سبحانه وتعالى، ولعرضه أمام الناس.
فقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس)، فمن الذي يعلمها إذن؟
الجواب:
العلماء.
وكيف يعلمونها؟
يعلمونها لأنهم علماء يمتلكون أدوات العلم، والبحث، فيعلمونها إما بنص، أو بإجماع، أو بقياس.
وما هو القياس؟
القياس: هو إلحاق واقعة لم يرد بها نص، بواقعة ورد بها نص، لعلة جامعة بينهما.
ألقيتُ محاضرة في السجن المركزي، فقال لي أحد المسجونين: هناك نص يحرم الخمر، ولكن هل هناك نص يحرم الحشيشة؟! هل توجد آية قرآنية تحرم ذلك؟! هل يوجد نص نبوي في ذلك؟!
وكأنه يقصد من سؤاله العبث!
فقلتُ:
إن القرآن والإسلام يأتي بقواعد كلية، تندرج تحتها فروع، وإن الإسلام استوعب الزمان، والمكان، بقاعدة القياس، فالمخدرات مثلاً لم يرد فيها نص بعينها، لكننا وجدنا أم سلمة رضي الله عنها تروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن كل مسكر، ومفتّر)، وفي حديث آخر يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(ما أسكر كثيره فقليله حرام)، وهذا ينطبق على المخدرات بكونها تذهب العقل كالخمر، فتأخذ حكمها.
إذن هناك قواعد كلية تستوعب الحوادث كلها، ولذا فالعلماء يعرفون هذه المشتبهات، ويعلمون الناس، والعوام يسألون أهل الاختصاص، وديننا يحترم الاختصاص.
(فمن اتقى الشبهات)، أي: فمن ابتعد عن الشبهات، وهي الأمور المختلطة، فقد استبرأ لدينه، وعرضه.
يذكر الإمام ابن المنذر أن الشبهات تنصرف على وجوه:
فمنها: شيء يعلمه المرء محرماً، ثم يشك هل حل ذلك أم لا، فما كان من هذا النوع فهو على أصل تحريمه، لا يحل لأحد من ذلك شيء حتى يوقن أنه قد حل له.
بمعنى: مسألة هي حرام في الأصل، فنحن نبني على الأصل، أما الطوارئ على الحرام فلا تلغيه.
فمثلاً: أنت ذاهب لشراء شاتين، فقيل لك: إن واحدة من هاتين الشاتين ذبحت على غير اسم الله، أو ماتت خنقاً، أو غير ذلك، فالأصل اجتناب الاثنتين؛ لأنك لا تعلم من الحلال من الحرام فيهما.
ثم قال ابن المنذر: والوجه الثاني: أن يكون الشيء حلالاً، فيشك في تحريمه، فما كان من هذا الوجه، فهو على الإباحة، حتى يعلم بيقين تحريمه.
كمن كان متوضأ، موقناً من ذلك، ثم حدّث نفسه: هل أنا محدث؟ هل انتقض وضوئي؟ نقول: ابقَ على الأصل وهو الطهارة، والعلماء يقولون: إن الإنسان إذا وسع دائرة التحريم من غير دليل، فإنه سيدخل في دائرة الوسوسة.
ثم قال ابن المنذر: والوجه الثالث: أن يشكل الشيء في نفسه على الإنسان، لا يدري حرام هو أو حلال، ويحتمل الشيء المعنيين، ولا دلالة تدل على أحد المعنيين، فما كان في هذا المعنى، فالأصوب والأعلى أن يستعمل فيه المرء ما استعمل النبي صلى الله عليه وسلم في الثمرة التي وجدها ساقطة، قال: (لولا أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها).
ولا يجوز أن يحكم على من نال مثل هذا أنه أخذ حراماً، لاحتمال أن يكون حلالاً، غير أنا نستحب من باب الورع أن نقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعل.
أقول: الذي نراه اليوم أن أكثر الناس لم تعد تراعي قاعدة المشتبهات؛ والورِع التقي الذي فيه تدين هو الذي يراعي المشتبهات، وهذا أمر خطير.
يقول الإمام ابن المنير عن شيخه الكبير الإمام أبي منصور الإسكندراني: كان يقول: إن الحلال حاجز ووقاية بين المرء، وبين المكروه، فإن أكثر من المباح وقع في المكروه، والمكروه حاجز بين العبد وبين الحرام، فإن أكثر من المكروه وقع في الحرام.
ثم ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم مثالاً يتضح المقال، فقال: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه)، قديماً كان لكل ملك حمى، مثل المحميات في زماننا، فأي غنم للآخرين تدخل أرضه فهي مستباحة، فما بال راعي الغنم لا يجد إلا أن يرعى حول الحمى، أي عند أطراف حدود الخصم، أو حمى الملك، لأنه براعيته في ذلك المكان، يوشك أن يرتع فيه، أي: تدخله الغنم فتأكل منه، وبالتالي يقع في المحظور.
ثم بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن حمى الله هم المحارم، وهي الأمور التي نهى عن الاقتراب منها، فمن طاف حولها، واقترب منها، فإنه يوشك أن يقع في المحرم ولا بد.
ولذلك في ختام هذا الحديث لم ينسَ عليه الصلاة والسلام إعطاءنا البوتقة التي تعطينا ضبط الإرادة، والابتعاد عن الحرام، فماذا قال؟ (ألا وإن في الجسد مضغة)، والمضغة هي: قطعة اللحم التي تمضغ، وهي القلب، (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، فهذا القلب تدخل عليه على مدار الساعة سهام الشهوات، وسهام الشبهات، والإغراق في ثقافة اللذة، وتسليع الجسد، واعتبار الإنسان مجرد كتلة لحم، ومادة خام، وبالتالي توسع الكثيرون منا في الحرام!!
بالله عليكم هل يجوز لإنسان أن يأتي بعمالة، فيمتص دم هذا الإنسان المسكين الذي باع ما خلفه، وما وراءه، ثم يتركه بالشارع؟!!
هل يجوز لرجل متزوج، أو امرأة متزوجة، أن يتبادلا الخيانة، وقد أباح الله سبحانه وتعالى لهما الحلال؟!!
هل يجوز أن يبلغ الإنسان من العمر 20 سنة، أو 25 سنة، وهو لا يعرف صلاة، ولا صياماً؟!!
والأمثلة على ذلك كثيرة، لا تحصى، فالواجب على كل واحد منا أن ينظر في نفسه، فيرى أين الحرام الذي توسع فيه؟ وأين الجريمة التي ارتكبها؟ وأين الأمور التي لا يقيم لشأنها وزناً، مع أنها ربما تكون من الموبقات!!
لم يكن سلفنا الصالح على هذا النهج أبداً، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يتورع عن تمرة، خشية أن تكون من تمر الصدقة التي لا تحل له!!
وهذا الإمام عبد الله بن المبارك يأتي رجل، فيقول له: إنني أعمل خياطاً عند فلان، الحاكم الظالم، فهل أكون ممن قال الله عز وجل فيهم: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار}؟ فقال له: كلا، بل أنت من الذين ظلموا، أما الذين ركنوا إلى الذين ظلموا فكالذي باع لك الإبرة، وهو يعرف أنك سترتكب الحرام!!
نقرأ هذا الكلام، ونقارنه بما نراه هذه الأيام، من انتشار للرشوة! وللكسب غير المشروع، كالذي ينام في بيته، وراتبه محسوب له!! إلى غير ذلك من أشكال المنكرات.
إلا أننا في المقابل لن نعدم الخير، وأهل الخير، والورع، والتقى؛ لأنه يعرف معنى الحلال، والحرام، ويدرك معنى المشتبهات، فلا يقع فيها.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقوي إرادتنا، وإيماننا، ويقيننا بأن نبتعد عن الحرام، ونأتي الحلال، ويجنبنا هذه المشتبهات التي غرقنا فيها في عصر الغرق، واللذة.