بيني وبينكم 2007 الحلقة الثالثة والعشرون الطائفية ج 1
الطائفية ج1
هل أنت مؤمن أم ملحد؟
هل أنت مسلم، أم مسيحي، أم يهودي، أم بوذي، أم هندوسي؟
ما هي عقيدتك؟
هل أنت كاثوليكي، أم بروتوستانت، أم أرثوذوكس؟
هل أنت سني، أم شيعي، أم إباضي، أم زيدي؟
هل أنت ليبرالي، أم علماني، أم وجودي، أم براجماتي؟
هذه الأسئلة بمجملها أسئلة طبيعية، وهي إن دلت على شيء، فإنما تدل على أن هناك شيئاً اسمه الانتماء، وهذا الانتماء هو حاجة نفسية لا يخلو منها إنسان، فمثل هذه الأسئلة ليست للمحاسبة، ولكن لإقرار قضية الانتماء التي نلح ونصرح بأنها طبيعية في كل مجتمع.
فالتعددية طبيعة، ورب العالمين أرادها في الوجود، لذلك تتنوع هذه التعددية حتى في القرآن! فهناك:
تعددية في الألسن واللغات، قال الله تبارك وتعالى: {ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم}.
وهناك تعددية في الشعوب، قال الله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}.
وهناك تعددية في الشرائع والمناهج، قال الله تعالى: {لكلٍ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً}.
والسؤال المهم: ما الذي يشكّل هذا الاتجاه في الانتماء؟ وما الذي جعلني من أصحاب تلك العقيدة؟ والآخر من ذاك المذهب؟ والثالث من أهل تلك الفلسفة؟
ما الذي جعلنا متنوّعين، ومختلفين، ومتباينين؟
الجواب:
إنها البيئة.
كلمة مختصرة.
ما هي البيئة؟
البيئة هي الأسرة، وهي القبيلة، وهي الحي، وهي السكة، وهي النادي، وهي المسجد، وهي المدرسة، وهي الملعب، وهي التليفزيون، وهي المجلة، وهي الكتاب، وهي التيار، وهي الحزب
هذا الخليط المتمازج الذي يحاصرنا من كل مكان هو البيئة.
فماذا يصنع هذا الخليط المتمازج؟
إنه يصنع تربية، يصنع تنشئة.
وكيف ذلك؟
قالوا: إن التربية من حيث التقسيم الكلي العام تنقسم إلى قسمين:
تربية عامة إجمالية كلية، يمكن تسميتها: التربية التلقائية العفوية، وهي تعني: القيم، والأفكار، والمفاهيم، والعادات، والتقاليد، والأعراف، حتى الذوق، وطريقة التعامل البسيطة، ونمط السلوك الذي نمتصه من المجتمع.
وتربية مقصودة موجهة منهجية، (مدارس، جامعات)، وهذه لها فترة زمنية، ولها مكان تعليمي، ولها مادة تعليمية، ولها أهداف مرحلية، وأهداف نهائية، ومدخلات من مدرسين، وكتب، وبرامج، وتفاعلات أثناء السنة، ومخرجات آخر السنة، وتقييم وتقويم.
فنحن حصيلة هذا الكم الهائل، ولكن السؤال الضروري: أيهما أخطر في التربية، وأكثر تأثيراً في نفس الإنسان، وأكثر تركاً للبصمات الفكرية والتربوية على نفسية الإنسان: هل هي التربية المقصودة في المدارس، والجامعات، والكليات، أي المنهجية؟ أم هي التربية التلقائية العفوية المفتوحة التي نأخذها من العشيرة، والبيت، والمذهب، ودور العبادة؟
قطعاً التربية التلقائية العفوية أكثر تأثيراً؛ لأنها تبدأ معك قبل أن تعقل، فتبدأ وأنت تنشأ في الحياة، وأنت تمتصها منذ الصغر.
وأعظم خطراً؛ لأنك وأنت في الصغر:
أولاً: تتلقى هذه التربية من غير توجيه، وإنما بتلقائية.
ثانياً: تمتص هذه التربية بعواطفك ووجدانك، قبل أن تمتصها بعقلك وفكرك.
ثالثاً: لأنك في هذه المرحلة الطفولية لا تملك معايير للنقد.
رابعاً: لأنك لا تملك تلك الخبرة الكافية التي تفرز لك على الأقل الخطأ من الصواب، أو مقاربات الخطأ والصواب.
ومن هنا فما نراه اليوم من تعصبات، ومن دمار، ومن تشنج كثير، فهو نتيجة تراكمات تربوية منذ الطفولة والنشأة، ثم تأتي بعد ذلك الدوائر الأخرى التي تشكل هذه التربية.
تعالوا بنا نقف مع مفهوم الطائفية، والتعصبية الشرسة، ونتائجها، وكيف نتعاطى معها بخطوط عريضة.
قلنا: إن الانتماء أمر واقعي، ولكن الأمر الواقعي السلبي هو مجانين الانتماءات!! المتعصبون، المتشنجون، الذين بلغوا مرحلة من التوتر في نفي الآخر، وكرهه، والتحريض عليه، فهؤلاء هم الذين يؤزمون المجتمع، والذين ينبغي أن يكون لنا منهم موقف سنتكلم عنه في محاولات العلاجات العامة.
تكمن الخطورة في تهييج هذا الانتماء، فإذا هاج هذا الانتماء فإنه لا ينعكس على الآخر فحسب، وإنما يرتد على الجماعة نفسها، فالطائفة تنقسم إلى طائفتين، واقرؤوا تاريخ الخوارج، بل اقرؤوا التاريخ المعاصر في الطوائف والمذاهب، وهذا لا يخلو عنه دين ولا مذهب؛ لأن التعصب مرض ينقلب على أصحابه، فمثلاً: الرومان كانوا يحكمون مصر، والرومان كما نعلم كانوا كاثوليكاً، وأهل مصر أقباط أرثوذوكس، فهؤلاء الأقباط عاشوا في ذل، وتعذيب، وجلد السياط، لدرجة أن الذين كانوا يتعبدون في كنيسة ميري جرجيس كانوا على طريقتين: طريقة في الدور العلوي وهم الكاثوليك الرومان، وأما الأقباط فكانوا يتعبدون في السراديب سراً!!
إذن التعصب والطائفية مسألة لا يخلو عنها أحد، مسلماً كان أو مسيحياً، بل حتى الملاحدة ينقسمون على بعضهم، وأهل العلمنة، واللبرلة كذلك، الخ.
وأضرب على ذلك مثلاً تاريخياً، وكيف عالجه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم:
ففي غزوة بني المصطلق يروي لنا جابر بن عبد الله هذه القصة، فيقول: كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، وكسع أي: ضربه من الخلف وهذا عيب، يقول: فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فتنادى الناس، فسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الحمية، فقال: أبدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم! أي تتنادون، وتتناصرون بدعوى الجاهلية، وليس بالرجوع إلى الحق! ثم قال كلمته الخالدة: دعوها فإنها منتنة.
وهذا تشبيه بليغ، حيث شبه الدعوى الجاهلية بالجيفة في شكلها، ورائحتها الكريهة.
فجاء عبد الله بن أبي بن سلول زعيم المنافقين وقال كلمته القبيحة: سمّن كلبك يأكلك، وفي رواية يقتلك، والكلمة الأقبح يقول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل! يعني أنه هو الأعز، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الأذل، والعياذ بالله، فطلب عمر بن الخطاب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يضرب عنق هذا المنافق، فخشي عبد الله الصحابي بن عبدالله بن أبي بن سلول أن يقوم أحد المسلمين إلى أبيه فيقتله، فيقوم عبد الله الصحابي فيقتل مسلماً قتل والده المنافق!! فقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله، إن أردتَ قتْل والدي، فدعني أنا أكون من يقتله!! حتى لا أبتلى بقتل مسلم قتل كافراً، فأدخل النار! فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: بل نحسن صحبته!
أرأيتم إلى أين كانت ستذهب المسألة من استغلال إثارة العصبيات؟
إلا أن العاصم في ذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي يحل المشاكل، ويداوي الجراح دواءً هادئاً ناجعاً، أما اليوم فمن الذي يعالج ويداوي؟ هل هو الإعلام؟ أم رؤساء الأحزاب؟ أم الصحافة؟ أم الفضائيات؟
نحن في عالمنا اليوم نعيش بين متمصلحين في الداخل يستفيدون، ومستعمرين في الخارج يحركون ويستثمرون، والضحية نحن، فلننتبه من هؤلاء جميعاً.
ولو سألنا: من الذي يباشر تهييج المشاعر الطائفية، والمذهبية، والتعصبية، والفئوية في مجتمعاتنا؟
فالجواب:
أولاً: السياسيون المتمصلحون.
ثانياً: القيادات والرموز لكل تجمع أيا ًكان.
والعجيب أن القيادي لكي يبين أنه أكثر أصالة، وأشد تمسكاً في مذهبه وطائفته، فلا بد أن يكفر أكثر، ويضلل أكثر، وينفي الآخرين أكثر، ويصعّد المواجهة أكثر!! فهي قضية مزايدة من أجل اﻻنتفاع على حساب المجتمع، ومع الأسف توجد عقول كثيرة ضحايا عواطف، وصوت عالي.
ثم هناك مشكلة كبيرة ليجب الإشارة إليها؛ لأنها أصبحت هي الخطاب الأعم، والخطاب الكلي، وهي التي تجاوزت كل فنون التربية، فأخذت تخاطب الصغير والكبير، وبثقافة اختزالية سهلة، ثقافة الصورة المبسطة، التي لا تعطي فرصة للنقد، أﻻ وهي الحوارات الفضائية المذهبية، الطائفية، العرقية، القومية، التي تخرج على شكل صراع الديكة؛ لأن البرنامج الناجح هو البرنامج الذي يشد آلاف بل ملايين العيون، ويزيد نسبة المشاهدين، وليس البرنامج الذي فيه فائدة، أو الذي يصل إلى الحقيقة التي نبحث عنها!
فإذا كان الجمهور لا يستجلب إلا بالفتنة الطائفية فأهلاً بتلك البرامج التي تؤجج المشاعر، وتثير العصبيات! وإن كان الجمهور يأتي بالجنس، فمرحباً ببرامج الجنس، وإن كان يأتي بالستار أكاديمي، فأهلاً وسهلاً، وإن كان يأتي بالربا والرشوة فحيّ هلا، وإن كان يأتي بالسحر، فهم أهله، وإن كان يأتي بالزندقة، فتلك لعبتهم!! المهم أن نجلب الجمهور.
فما بالكم عندما يكون الصراع على الهواء مباشرة، وطرفين، بلا عقلانية، أو أدب في الحوار؟!
ولكن ما النتيجة المترتبة على ذلك حسب رصد التربويين؟
قالوا: إن الجماهير أكثرها متعايشة طيبة وإن اختلفت، ولكن هذا الصراع يجعل هناك استقطاباً يهمش هؤلاء، وكل واحد ينتصر لأحد الطرفين دون وعي، أو فهم حقيقي، فمثل هذه البرامج الفضائية فيها خطورة كبيرة، فهي تحتاج إلى ضبط، وتحتاج إلى توجيه، وتحتاج إلى أمور كثيرة.
كذلك ما الذي يساعد على قضية تجذير الطائفية، والتعصب؟
الجواب:
المواسم الدينية! فهذا موسم لدين معين، موسم للمسيحيين، وموسم للمسلمين، وموسم للدروز، وغير ذلك.
والواجب علينا أن ندرس المواسم، وألا نجعل من هذه المواسم إساءة للآخرين، بحيث يستغل هذا الموضوع للشحن ضد الآخر، فلكل فعل رد فعل، مساوي له في المقدار، ومضاد له في الاتجاه، هذه قاعدة فيزيائية، أما في القاعدة النفسية فليس هناك شيء اسمه مضاد له في الاتجاه، ومساوي له في المقدار، بل قد يكون أقل منه في المقدار، وقد يكون مساوي له، وقد يكون زائداً إلى درجة القتل أو الدمار!
كذلك من الأمور التي تشعل الطائفية المذهبية: الإساءة إلى الرموز، فطبيعة البشر أنهم يختصرون المفاهيم والبطولات في الرموز، فلكل مذهب رموزه، وأقطابه، وأعيانه، والأخطر في ذلك الرموز التاريخية، فماذا تنتظر مني عندما تسيء إلى رمز محترم عندي إلى درجة التقديس؟ فأنت توجه له اللوم المعلن الفاضح، وتريدني أن أسكت!! كلاّن لن يكون ذلك.
وهنا تقع الفتنة، ويقع البلاء، وبعد ذلك تتسع دائرة الخراب، والطائفية، والمذهبية، والحزبية على الجميع.