وياكم 2013 الحلقة الثامنة عشر بادية
بادية
البادية كلمة تدل على الصحراء.
والبدو كلمة لها معني في حياة الناس، في كل قارة، وفي كل مجتمع من المجتمعات، ففي كل بلد توجد الحاضرة والبادية، ولكل من هؤلاء لهم قيم وعادات وتقاليد، وهذه المجتمعات تقوم على التراحم والتواصل والترابط، ففيها من العادات الجميلة والقوية والعميقة الشيء الكثير، كالنصرة، والتعاون، والكرم، والشجاعة، وغيرها، وعندما جاء الدين هذب هذه القيم والأخلاق، وعزز ما فيها من خير، وأضاف إليها قيمًا أخرى.
وفي الواقع الاقتصادي، والسياسي، والتحولات الاجتماعية، والعمرانية، نرى انحسار البادية، ودخول المدنية عليها، وغياب قيم كثيرة، واندثارها، حتى على مستوى الجمال! فالمتنبي يقول:
حسن الحضارة مجلوب بتطرية وفي البداوة حسن غير مجلوب
فالمدنية اليوم اكتسحت الجميع، ولذا فإن كلامنا عن البادية وقيمها، سوف يكون من منظور آخر، من خلال شخص غربي غير عربي، زار بادية الربع الخالي، في المملكة العربية السعودية، وعاش فيها فترة، تعرف خلالها على أمور كثيرة، هي محل اهتمام، وبيان.
إنه الأستاذ عبد الله طالب، وقد حُدِّثتُ عنه عندما ذهبت في رمضان في إحدى السنوات لإلقاء محاضرة في أرامكو في الربع الخالي، وتم إهدائي كتابه: بدو البدو، الذي تحدث فيه عن حياة آل مرة في الربع الخالي، وهو دراسة تحليلية لعاداتهم وتقاليدهم، والذي حصل بموجبه على رسالة الدكتوراه عام 1968!
وكان نتيجة هذه الزيارة، والمجاورة إسلام هذا الدكتور بفضل الله تعالى، وقام بتوثيق إسلامه في الأزهر الشريف، إلى أن أصبح أستاذًا لعلم الأنثروبولوجي في الجامعة الأمريكية في القاهرة.
وقد تجشمت عناء السفر للقاء هذا الأستاذ، ليحدثنا عن تجربته الفريدة، فالتقيته في الجامعة الأمريكية في القاهرة، في جلسة شيقة، أنقل لك أيها القارئ الكريم بعضًا مما جاء فيها:
قلتُ له:
دكتور عبد الله طالب: أرى أمامي خليطًا ومزيجًا من التحولات في شخصيتك، ومسيرتك الثقافية، ابتداءً من الاسم الذي كان دونالد باول كول، إلى عبد الله طالب، ومن الدين حيث تحول من مسيحي بروتستانتي، إلى مسلم سني، ومن أمريكي من تكساس، إلى عاشق للصحراء العربية، وبالأخص الربع الخالي، ومن إنسان غربي خالص، إلى إنسان مستوطن في البلاد العربية، فهنا يتولد سؤال عند القارئ والملاحظ، فيقول: هل أنت مستشرق مدسوس، أم أنك صديق صادق لنا؟!
واعذرني على هذا السؤال الجريء، إلا أن البعض قد يشعر بذلك.
فقال:
أنا لستُ مستشرقًا، فأنا كنت طالبًا في جامعة كاليفورنيا من قبل 50 سنة تقريبًا، وكنت أدرس علم الإنسان (الأنثروبولوجي)، حيث يتوجب عليك أن تعيش بين الناس، وتعمل دراسة في القرية، أو في القبيلة، أو في المدن، بمعنى: أن تعيش في مجتمع آخر غير المجتمع الذي تربيتَ فيه، فتسمع الناس، وقصص حياتهم، وطريقة عيشهم، فاخترتُ السعودية، عند آل مرة في البادية، في الربع الخالي!! فقد كنت أسمع عن البادية، لكنني لا أعرف من هم؟ وكيف يعيشون، وما هي حياتهم، فأردت معرفة كل ذلك.
قلت:
قصتك طويلة جدًّا، لأن المرحلة الزمنية في تحولاتك طويلة، وسوف نأتي عليها إن شاء الله تعالى، إلا أنني سأبدأ معك من كونك مؤلفًا، فسآخذ ملخصًا سريعًا عن كتبك، فمثلًا: كتابك: بدو البدو، لا شك أن عنوان ذكي، وهو رسالتك الدكتوراه عن قبيلة آل مرة، في الربع الخالي، وسؤالي: كم سنة جلست في الربع الخالي؟
فقال:
جلست تقريبا سنة ونصف.
قلت:
أما كتابك الثاني فهو: مدينة عنيزة التنمية والتغيير، فهل هذا الكتاب عن مدينة عنيزة بالتفاصيل؟
فقال:
هذا الكتاب اشتركت في تأليفه أنا وزميلتي الدكتورة سريا تركي، في عنيزة، سنة 1986، حيث جلسنا ما يقارب الشهرين في عنيزة، قامت الدكتورة سريا خلالها بعمل مقابلات مع نساء عنيزة، وأنا مع الرجال، والكتاب تحدث عن التنمية، وتركز على الجانب الاقتصادي والاجتماعي في عنيزة.
قلتُ:
وأما كتابك الثالث، والذي طبع ثلاث طبعات في فترة قصيرة، وهو كتاب مختصر وجميل، فهو كتاب: الطريق إلى الإسلام: من تكساس إلى السعودية فمصر، فما هي قصة هذا الكتاب؟
فقال:
هذا الكتاب يتحدث عن قصة حياتي، فقد وُلدتُ وتربيتُ في تكساس الأمريكية، وتدينتُ بالدين المسيحي البروتستانتي، ثم كيف حدثت التغيرات في حياتي عندما ذهبت إلى السعودية، وجلست مع قبيلة بني مرة، وكيف دخلت في الإسلام هناك، ثم رجعت إلى أمريكا، حيث لم يكن المسلمون كثيرين في ذلك الوقت، وبعدها سافرتُ إلى مصر، وعشتُ في القاهرة، حيث كانت أكثر حياتي في البلاد العربية.
قلتُ:
بالعودة إلى كتابك: بدو البدو، فقد ذكرت في الكتاب أنك أسلمت مع قبيلة آل مرة، فما الذي رأيته في هذه القبيلة من قيم وأخلاق، جعلتك تنجذب نحو هذا الدين، وتدخل فيه؟
فقال:
أول ما ذهبت إلى آل مرة كنت أدرس مع شيخ القبيلة وهو الشيخ طالب بن راشد الشريم، فكلمني جزاه الله خيرًا عن الإسلام، ومحاسنه، وكنت أرى الناس حولي، والعادات والتقاليد العربية، فأعجبني ذلك كثيرًا، وقد كان لدي فكرة عن الإسلام، ولكن بشكل مختصر، فعندما رأيت ذلك، نطقت بالشهادتين، ودخلت في دين الله تعالى ولله الحمد.
ومن باب الأمانة فإنني أقول: لقد عشت الإسلام الحقيقي عندهم، فقد كانوا يصلون الصلوات الخمس، ويصومون رمضان، ويفعلون الخير لكل أحد، مع أنهم لم يكونوا علماء، إلا أنهم كانوا يطبقون الإسلام في كل شيء.
قلتُ:
ذكرت في كتابك أنك كنت تصوم معهم، وتصلي معهم، ولكنك ذكرت أيضًا أنك أشهرت إسلامك في الأزهر! فكيف ذلك؟
فقال:
هذا صحيح، فقد أسلمت في السعودية عند البدو، ولكن لم يكن هناك شيخ أو شخص يكتب ذلك، ويثبته، فلما ذهبتُ إلى مصر أعلنتُ إسلامي رسميًّا.
قلتُ:
الجميل في قصة هذا الدكتور أنه عاش مع قوم بسيطين، ﻻ يقرؤون، وﻻ يكتبون، ولكنهم يعيشون الإسلام الحقيقي، ولذلك فقد عاش الإسلام هناك ببساطته، حتى أنه في كتابه بدو البدو ذكر تحت عنوان إسلام البدو أنهم لم يكن عندهم خرافات، أو أساطير، أو تنجيم، فالعقيدة بسيطة وواضحة، وهذه البساطة والمعايشة أدت إلى إسلامه.
ولذلك أقول: مهما أغرقنا في الكلام فلسفة، وحكمًا، وتحليلًا، واستدلالاً، على سلامة الإسلام، فلن يكون اثر ذلك كالتطبيق العملي النموذجي الذي نفتقده في حياتنا هذه الأيام.
ومن هنا تأثر هذا الدكتور الأمريكي كثيرًا بهؤلاء الناس؛ لأنه رأى كيف تخلل الإسلام في حياة هؤلاء البدو، حتى في مواعيدهم، لأن الإسلام أصبح ثقافة عندهم، فالإسلام ليس عقيدة منفصلة عن الحياة، أو طقوس موسمية، كلا، بل الإسلام يسري في هذه الحياة بأثره الإيجابي.
ثم ها هنا نقطة مهمة جدًّا، وهي أن الذي عرض عليه الإسلام هو شيخ قبيلة بني مرة! فهذا رجل أمريكي رأسمالي، مثقف، ودكتور علوم إنسانية، ثم يكون الذي يعرض عليه الإسلام بدوي من القبائل الرحل في عمق الصحراء! وهذا يعني أن الذي دعاه للإسلام لم يكن يعاني من هزيمة نفسية، وكان يفصل ويفرق بين التقدم التكنولوجي، والعلمي، وعبقرية التنظيم الإداري، وبين سلامة المعتقد، وصحة المفاهيم عن الإنسان، والكون، والحياة، والمستقبل، وهدف الإنسان في الحياة، وهذه رسالة إلى كل من يدعو إلى الإسلام أن يكون قويًّا، ﻻ يهتز،
لأن يقينك أيها الداعي ليس في الواقع المتحول، وإنما ينطلق يقينك من القناعة العقائدية المبنية على البراهين.
ثم توجهتُ له بالسؤال قائلاً:
كثير من أبنائنا من أبناء الجيل الجديد الذين يتعطشون للعلم، والحضارة، والتطور، واللحاق بالآخر، يعتقدون أن ذلك ﻻ يتحقق إلا بنسيان الماضي، وترك التراث، بل وازدرائه من بعضهم!! فالعولمة صنعت مثل هذا الفكر، فماذا تقول؟
فقال:
لا شك أن هذا خطأ محض، لأن المنقطع عن ماضيه، منقطع عن حاضره، ومستقبله، ول خير في أمة تنكبت لماضيها، لأنه هو الأساس الذي تنطلق منه الشعوب، وبه تتفاخر.
قلتُ:
من خلال دراستك للنموذج البدوي قلت إنه لا بد من تلقي الحضارة الغربية عبر معايير المجتمعات الخاصة بهويتهم، فهل هذا صحيح؟
فقال:
نعم صحيح، فأنا ذهبتُ هناك حتى أتعلم منهم، لا أن أدرس لهم وأُعلمهم، وهذا ما حدث فعلاً، فقد كان لديهم خبرة عظيمة، في شتى مجالات الحياة.
قلتُ:
هل تعتقد أن البداوة ستبقي، أم أنها ستنتهي؟
فقال:
إن كنت تقصد حياة البدو كما كانت قبل 40، أو 50 سنة، فهذا قد انتهى الآن، إلا أنه لا تزال بعض المظاهر البدوية موجودة إلى الآن، كالإبل، وشرب الحليب، وإنشاد الشعر النبطي، وغير ذلك.
في نهاية هذا الحوار أقول:
هذا نموذج يركز على الأجيال بأن تتواصل، ولا تنقطع، وحتى يعرف الجيل الجديد أننا ما انفصلنا عن تراثنا القديم، أو تراث آبائنا، وحتى يعرف كيف حدث التطور؟ وما هي إيجابياته؟ وما هي سلبياته؟ وما ينبغي أن يكون، وما ينبغي ألا يكون، فالتنوع جميل، والاستفادة والتفاعل مطلوب، ولكن ينبغي ألا يغيب عنا أنه ليس كل تطور ايجابيًّا، حتي ﻻ نقع في وهم التكنولوجيا والآلات المعاصرة، التي حولت الإنسان إلى آلة.