وياكم 2015 الحلقة الرابعة عشر من اعلي الكنيسة
من أعلى الكنيسة
حذرتُ كثيراً في مناسبات عدة من أننا إن لم نتدارك تصاعد معدﻻت الكراهية، والتحذير الظالم الذي يمارس ضد المسلمين، وتعميم الأحكام الجائرة على الإسلام، فإن عجلة التطرف الفكري لن تقف لا في أوروبا، ولا في أمريكا، بل ولا في العالم كله، وسوف يكون التضليل حاضراً، وجاهزاً، والإدانة، والتهمة معلبة.
في سويسرا يقام في كل عام مؤتمراً إسلامياً كبيراً، يعقده مجلس الشورى الإسلامي في سويسرا؛ ويتم ذلك بترخيص قانوني، وتغطية إعلامية، إلا أننا تفاجأنا هذا العام 2015 بمنع المؤتمر، وعدم إعطاء ترخيص لإقامته، دون إبداء أي مبرر، فاضطر مجلس الشوري الإسلامي أن يقيم مؤتمره في ساحة مفتوحة، وقد كان لي شرف المشاركة فيه، ورغم أننا التزمنا بقوانين الدولة، إلا أننا لم نسلم من المهاجمين المتعصبين، والتحرشات العنصرية.
وكان المقرر أن ألقي كلمة بعنوان: العدالة الإنسانية، إلا أنه تم تغييرها إلى موضوع لا بد أن يكون واضحاً في أذهاننا جميعاً ألا وهو: من نحن؟ ومن المسلم؟ وما هي حقوق المسلم من أصول أوروبية؟ وكيف يتجلى الخلل في منعهم من حقوقهم تعسفاً، وتحايلاً، وهم أبناء أوروبا، دستورياً، وقانونياً؟ وكيف حصل هذا؟ وكيف تصاعد ذلك في ظل عالم مفتوح يراقب ويرى؟
وقفتُ أمام أضخم كنيسة في سويسرا، في عاصمة حقوق الإنسان، في بيرن، فمن هذا المكان كان بداية شكل من أشكال الإسلاموفوبيا، وبدأ التحدي الصارخ المعلن الكريه الكئيب ضد الإسلام، والتخويف من الإسلام، والمسلمين بشكل بشع ﻻ منطقي.
ما الذي حدث؟!!
لقد قام سويسري عنصري، وصعد إلى أعلى هذه الكنيسة، وجاء بمكبرات صوت، ومسجل، ثم وضع صوت الأذان، ليعمّ أرجاء هذه العاصمة العلمانية اللادينية، المسيحية في أصلها!!
وكان ذلك بمثابة هذا إعلان وتحذير وإنذار من أن الإسلام قادم لغزو أوروبا، والعالم الغربي، وأن الخطر والإرهاب قد وصل دياركم، فماذا أنت فاعلون؟!!
إنها رسالة واضحة وصريحة للمجتمع الغربي بأنهم إذا تسامحوا مع المسلمين، وسمحوا لهم بالصلاة، وبالحجاب، وبالمقابر الخاصة، وبالمساجد، وبالهوية الخاصة بهم، فإنهم سوف يصلون إلى هنا، ويؤذنون في هذه الكنيسة، وأنه يجب على المجتمع الغربي أن يكون على يقين بأن العلمانية ستنتهي، وأن المسيحية ستختفي، وأن قطع الرؤوس قادم!!
هذه هي الصورة الذهنية التي تروج عن دين الإسلام! ولنا أن نتخيل إلى أين وصلت الثقافة والتعصب في الذين ينشرون الإسلاموفوبيا، والخوف من المسلمين والإسلام!!
فكانت النتيجة أنه تم منع إقامة المؤتمر، وإعطاء رخصة للمؤتمر في قاعات خاصة!! لماذا؟
بحجة أنهم يخافون علينا نحن المسلمين من أن يعتدي علينا المتعصبون، أو أن يتحرشوا بنا!!
وها هنا لا بد من بيان نقطة يذكرها كل مهتم في تواصل الحضارات قبل صراع الحضارات، أو البديل عن صراع الحضارات، حيث أن تواصل الحضارات يقتضي تعارف الحضارات، ويقتضي الحوار، وإقرار الاختلاف، والتنوع في الانتماءات أيًّا كانت، وتحريم وتجريم التعصب، وإيجاد آلية قيمية توجد شبكة علاقات راقية عادلة منصفة في التعامل مع الأقليات الموجودة في كل مجتمع.
ولذا يجب علينا أن نعرف كيف نخاطب المجتمع الغربي؟ ومن نحن؟ وما هي هويتنا؟ وماذا نريد؟ وكيف نحقق العدالة الاجتماعية التي تصب بالتالي في صالح البلد، وفي صالح الجميع، سواء أكنا في أوروبا، أو في غير أوروبا؟
فكان مما جاء في كلمتي التي ألقيتها في هذا المؤتمر:
أنا مسرور أن أقف أمام الإنسان، مسرور أن أقف أمام من تجمعنا معه حقيقة ﻻ يستطيع أي واحد منا أن يتنازل عنها، ألا وهي الإنسانية؛ إلا أن هذا الإنسان من طبيعته أنه يحب الانتماء، فالانتماء من حاجاته النفسية، وهو جزء من الطبيعة الإنسانية، وهو أشكال متعددة، وصور متنوعة، فهناك الانتماء لبلد، والانتماء لقومية، والانتماء لدين، والانتماء لحزب، والانتماء لنادي رياضي، والانتماء لكتلة اقتصادية، والانتماء لمذهب فرعي في الدين، وغير ذلك.
ماسلو أحد كبار علماء النفس العالميين، وهو عالِم غربي، وضع مثلثاً سُمّي باسمه: “مثلث ماسلو”، تكلم فيه عن حاجات الإنسان، الضرورية، والحاجية، والكمالية التحسينية، فمثال الحاجات الضرورية: الطعام، والشراب، والنوم، والصحة، والحاجات العاطفية، والحاجة إلى الحب، والحاجة إلى الاحترام، وذكر من هذه الحاجات: الحاجة إلى الانتماء، فأنت منتمي شئت أم أبيت، وبعض الانتماءات جبرية قسرية، ﻻ اختيار لك فيها، فأنت لم تختر أمك، وأباك، ولم تختر الساعة التي ولدت فيها، ولا البلد الذي ولدت فيه؛ لكنك اخترت الفلسفة التي تنتمي لها، والتصور عن الإنسان، والكون، والحياة، والعقيدة، حتى لو أنك نشأت في بيئة لها عقيدة معينة، فلربما يكون لك اختيار آخر.
ولكن ما المطلوب من هذه الانتماءات؟
المطلوب هو تحريم التعصب، وتحريم العنصرية، وتحريم إقصاء الآخر، علماً بأن إقرار الانتماء المخالف لا يعني بالضرورة الموافقة على هذا الانتماء! فلا يعني أنني أقررتك على انتمائك، أنني أوافقك على عقيدتك، فهذه نقطة جوهرية ضرورية، يجب أن نفهمها نحن كمسلمين، وكغير مسلمين، لماذا؟
حتى أفصل بين الفكرة والشخص، فأنا مثلاً لا أتفق مع فكرتك كعابد بقر، وعندي عليها ألف ملاحظة؛ ولكنني أحترمك كإنسان، ولا أُسقط كرامتك، بل وأساعدك في كوارثك الإنسانية، ومصيبتك الشخصية، وأعطيك حقوقك!
ففي الإسلام هناك فرق بين الولاء والبراء، بمعنى أنني ﻻ أوالي هذه الفكرة، ولا أحبها، وبين المعاملة بالحسنى، ولذلك يخاطبنا القرآن الكريم فيقول: {وقولوا للناس حسناً}، أي: لجميع الناس، وليس للمسلمين فقط.
منذ أكثر من 25 سنة وأنا أتجول في العالم، ذهبت إلى أوروبا، وزرت أمريكا، وغير ذلك، وكنت في غالب زياراتي ألتقي بالجالية المسلمة في تلك الدول، أو بالطلبة الوافدين إليها للدراسة، أو باللاجئين فيها، فماذا كنت أقول لهم؟
ماذا قلت في باريس؟ وفي سويسرا؟ وفي ألمانيا؟ وفي أمريكا؟ وفي إنجلترا؟
كنت أقول لهم:
كونوا خير رسل لبلدانكم، وقدِّموا الشكر والمعروف للبلد الذي أعطاكم الفيزا، وفتح لكم جامعاته، وأماكن العمل، وفتح لكم اللجوء السياسي، واللجوء بسبب الكوارث أو الصراعات، احترموا هذه البلاد، واحرصوا عليها، قوماً، وهيئة.
لم يكن وقتها أي مشكلة في الانتماء للإسلام، وإظهار شعائره، فقد كان الأمر ميسوراً مقبولاً، إلا أن بدأت الأمور تتغير، وتتحول، في السنوات الأخيرة، بسبب النظرة الشائهة العنصرية عن الإسلام!
إن الانتماء إذا غلب عليه الشك، والإدانة، والكراهية، فسوف يكون الخاسر الأول هي القيمة الإنسانية، والمجتمع بأكمله، وإن كان الخاسر المباشر هو المسلم، فكيف يجوز إقصاء كتلة اجتماعية، أو عرق، أو مذهب، أو دين، من نفس البلد، بأبناء البلد أنفسهم، لو لم يكن هنالك تصعيد انفعالي، وتشويه، وتضخيم للأمور؟!
ورغم كل المحاولات اليائسة لتشويه الإسلام، وتنفير الناس عنه، والتصعيد العدائي الظالم ضد المسلمين، إلا أننا في المقابل وجدنا تقرير الأمن القومي السويسري يعترف، ويقر: بأن مسلمي سويسرا أكثر الجاليات اندماجاً في المجتمع، وبعداً عن التطرف، إلا حالات قليلة نادرة شاذة!!
وهذه تحية للأمن القومي السويسري على هذا الإنصاف، والعدالة.
هذه نقطة.
نقطة أخرى:
أننا لا نتكلم في مشكلة فرعية، وإنما نتكلم في اتجاه فكري، فاليمين يتصاعد في العالم، والإرهاب بكل أشكاله وصوره يتزايد! لماذا؟
هناك كتاب كتب بالفرنسية، وترجم إلى لغات كثيرة، بعنوان: “المثقفون المزيفون“، وأسفل العنوان كتب: النصر الإعلامي لخبراء الكذب!!
هذا الكتاب من تأليف باسكال بونيفاس، وهو رجل ليس سهلاً، فهو دكتور في العلاقات الدولية في القانون الدولي، من معهد الدراسات السياسية في باريس، ويرأس معهد العلاقات الدولية الاستراتيجية في باريس، وله مؤلفات أخرى، من أهمها: “نحو الحرب العالمية الرابعة“، يرد فيه على صموئيل هنتكتون في كتابه: “صراع الحضارات“، وله كتاب آخر بعنوان: “لماذا كل هذه الكراهية؟”، تكلم فيه عن نخبة مثقفة من إعلاميين، وكتّاب، وصحفيين، ومقدمي برامج، يقومون بعملية تضليل للمشاهد والمتابع، ويتكسبون من وراء عملية التضليل هذه، ويغيبون الوعي العام!! فمن يصدق أن الذي أنصف المسلمين، وبيّن التضليل المتعمد ضدهم هو شخص لا يدين بدين الإسلام؟!!
ليس هذا فحسب، بل إن كتابه منع في فرنسا، بلد الحرية والقانون؛ لأن فيه عبارات تبرئ ساحة المسلمين مما أُلصق بهم!!
فمن عباراته:
الإسلام هو الهوس في القرن الواحد والعشرين، شأن اليهودية في القرن التاسع عشر، وبداية العشرين، ومع الأسف يحزنني أن ينتشر هذا الشيء، ويعم العواصم المدنية الديموقراطية الحقوقية، وأن يصل إلى سويسرا، بسبب بعض الإعلاميين الذين ابتلي بهم العالم، في العالم العربي، وفي العالم الشرقي، فكل العالم فيه هذه النخبة، أنا أدعو إلى الالتزام بالقانون، والمطالبة بالحقوق، والعدالة، وفق النظم، والسلمية، أنا في بلد كان من أحد علمائه الكبار الذي درسنا نظرياته العميقة في الإنسان جان بياجيه، الذي درس الطفولة، وطبّق نتائجه على أطفاله، لكي يكتشف حقيقة في الإنسان، وتفكيره، ونموه، فنأتي نحن بالمتعصبين الإعلاميين، والسياسيين لكي نحطم الإنسان في عالم الإنسان!!
أختم حديثي بقول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن يغرسها فليغرسها).
والسؤال الذي قد يرد في الذهن: القيامة قامت، وتاريخ الدنيا قد انتهى، فلماذا يأمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي يعمل في الحقل أن يستمر في الزراعة؟
لا شك أن هذا كلام لا يصدر إﻻ من مشكاة النبوة، فالفسيلة حتى تثمر نخلة، وتمراً، تحتاج إلى خمس سنوات، فلماذا أغرس إذن؟
الجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يعطيك رسالة مفادها: عليك العمل أيها مسلم، أما النتائج، والثمرات، والمآلات، فهي عند الله تعالى. هذه واحدة.
الرسالة الثانية: كان من المتوقع أنه إذا قامت الساعة أن يأمرنا بالعبادة، والتزود منها؛ لكنه أمر أن يستمر الرجل في الحقل، وفي الزراعة، والمقصود أنه أراد أن يقول لك: إن العمل عبادة، سواء في المصنع، أو في الحقل، أو في المدرسة، أو في الشارع، أو غير ذلك، فهذه كلها مظاهر من مظاهر العبادة في الشريعة الإسلامية التي لم يفهمها الكثيرون.