وياكم 2015 الحلقة الثامنة والعشرون ارخنة النص ج2
أرخنة النص ج2
قلتُ:
إذا كانت أرخنة النص تفترض عدم ثبات الحقائق، وتعتبر أن الحقائق تتكثر بتكثر الوقائع، فمعنى ذلك أن النص لا يمكن أن ينتج معنى ثابتًا، ومهما تعددت السياقات فلن نقف على حقيقة!
أليست هذه مقولة صحيحة بحسب ما يطرحون؟
فقال:
بحسب ما يطرحون بلى؛ ولكننا نريد أن نحاكم هذا الكلام، فمن الإشكاﻻت المطروحة على هذه المقولة أنها اعتبرت الواقع جزءً من ماهية النص، ولم تنظر إلى الواقع على أنه كاشف من كواشف الحقيقة النصية، وأهملت تماماً علم الوضع، أي أنها أهملت المواضعة التي هي أساس المفهومية في اللغة؛ لأننا عندما نتكلم عن المواضعة فنحن نتكلم على دال بإزاء مدلول، أي وضع رمز في موازاة مدلول.
قلتُ:
وهل تواضع الناس على ذلك؟
فقال:
نعم، ولكن قبل أن يتواضع الناس على ذلك سنتكلم في مشاغل المواضعة، سنتكلم عن الحركة الأولى وهي: وضع رمز بإزاء معنى، أو وضع دال بإزاء مدلول، بتعبير بعض اللسانيين، فهل وصلنا إلى الدلالة الآن؟
الصحيح أننا لم نصل بعد إلى الدلالة؛ لأنني كي أصل إلى الدلالة فلا بد أن يحصل تلازم بين الدال والمدلول، وهذا التلازم بين الدال والمدلول هو الذي ينتج الدلالة، بمعنى أن تلازم الدال والمدلول عندي يجب أن يساوي تلازم الدال والمدلول عندك، وعندها تحصل مفهومية بيننا، ونستطيع أن نفهم بعضنا بعضاً.
ولكن: كيف يحصل التلازم بالتعارف؟
هذه السلطة هي سلطة المفهومية في الظاهرة اللغوية، فجاءت التفكيكية وحاولت أن تقطعها، ونحن نقول للمتحمسين للأرخنة: لماذا ﻻ يكون هذا هو مبدأ إحالة، ومرجع للمفهومية، يضمن حالة ثبات في المفهومية؟
قلتُ:
هم يلغون الثبات.
فقال:
الآن كيف يلغونه؟ لماذا ﻻ يكون هناك تلازم دﻻلي حاصل في النص، ويمكن أن ينتقل النص فيه من نقطة (أ)، إلى نقطة (ب)، وما دام هناك حالة تعارف على الوضع، فإنه تبقى دلالة النص، أو حقيقة النص كما هي في (أ)، وفي (ب)، فما الذي يمنع من ذلك؟
هل هناك قانون لساني أو عقلي يمنع من ذلك؟! هذه قضية.
القضية الثانية: أن هذه المقولة لم تفرق بين المتلقي المطلق، والمتلقي المقيد، أو بمصطلح المناطقة المتلقي بشرط، أو المتلقي بلا شرط، هناك متلقي مقيد بالسياق، ومتلقي مقيد بالظرف، ومتلقي مقيد بالزمان، والمكان، ومتلقي متقيد بالعقيدة التي تحتف به، وهناك متلقي مطلق، فهذه المقولة لم تفرق بين النص الذي يخاطب متلقياً مطلقاً، وبين النص الذي يخاطب متلقياً مقيداً، فهم لم يفرقوا هذا التفريق، وإنما جعلوا كل متلقي مطلقًا، وهذا هو الإشكال.
فإذا تكلمنا عن المتلقي المقيد فإننا نقول: نحن بحاجة إلى عناصر تقييدية دائماً؛ لكننا عندما نتكلم على نص إبلاغي مطلق، فالآلية التي تجعل هذا النص منتجاً لحقيقة ثابتة ليست حقيقة الظرف، وﻻ الواقع، وإنما المواضعة، والتعارف الوضعي، وليس الواقع، وقد يكون الواقع كاشفًا من الكواشف؛ لكنه ﻻ يكون هو المتعالي في المفهومية النصية.
قلتُ:
هل تعني بالمواضعة ما تعارف الناس عليه؟
فقال:
تماماً، وهي التي شرحتها قبل قليل، وهي المنتج للتلازم بين الدال والمدلول ليؤدي إلى الدلالة، والسؤال الأكبر الذي يسأل لهؤلاء: هل الطاقة النصية، طاقة الحقيقة، تصلح لمخاطبة متلقي مطلق؟ وهل يوجد نص لديه طاقة تصلح لمخاطبة متلقي مطلق؟ بمعنى المخاطبة بحقيقة ثابتة؟
قلتُ:
لعلك تقصد بالطاقة الحلول الدلالية؟
فقال:
بالضبط، المحمولات الدلالية.
فهل يمكن هذا؟ نحن نريد جوابًا منهم، هل هناك ما يمنع من ذلك بحسب القانون اللساني أو اللغوي أو العقلي؟
نحن نقول: لا يوجد ما يمنع من ذلك.
إذن فما الذي يجعلكم تقولون بوجود موانع من ذلك؟!
في الحقيقة أنهم ﻻ يعطونك إطارًا فلسفيًا ناضجًا للإجابة عن مثل هذه الأسئلة.
قلتُ:
ولكن لماذا يلحون على هذا الشيء؟
فقال:
لأنهم يريدون تحرر العقل! هكذا زعموا.
نحن كما تعلم أمة تأتينا الحقائق من النصوص، فلا يمكن اختراق هذا الوعي لدينا، إلا باختراق الثبات النصي، وثبات المفهومية النصية، ولذلك كان ﻻ بد من اختراق ثبات الحقيقة النصية بمثل هذه الاستراتيجية من أجل اختراق الوعي، فتكلموا على قضية الترسيب النصي، والقراءة البريئة، وهي القراءة التي ليس فيها ترسيب نصي، بمعنى: أنني ﻻ أقرأ النص بموجب معطيات ثابتة عندي، ولا أدخل إلى النص بموجب معطيات ثابتة عندي، وعقائد ثابتة عندي، هذه القراءة الصفرية للنص، أو البريئة، هي المرادة عندهم، والتي نريد أن نطرحها الآن بوصفها حال التنوير، وانطلاق للعقل.
قلتُ:
في كلامنا عن أرخنة النص ﻻ بد أن ننتقل إلى واقعنا العربي بكلام مباشر، فالعلمانيون العرب بشتى أطيافهم امتطى بعضهم صهوة أرخنة النص، وجاءوا إلى القرآن الكريم، وقرأوه قراءة من خلال هذه المقولة الغربية التي استعاروها، وطبقوها على القرآن الكريم، ومن أشهر هؤلاء: محمد أركون، فهو من منتصف السبعينات وهو يطرح هذا الموضوع، وكذلك نصر حامد أبو زيد، وإلا أنه كان أكثر مباشرة من أركون؛ كونه أستاذ لغة عربية.
والسؤال: كيف تناول هؤلاء القرآن من خلال أرخنة النص؟ وما هي النتائج التي يستخلصها كل باحث أو قارئ راصد لإنتاجهم؟
فقال:
هنا لا بد من مقدمة:
أن هؤلاء لم يفرقوا بين النص القرآني، النص الغير قرآني في خضوعه لسلطة الأرخنة، وهذه هي النقطة الأولى المهمة، بمعنى أنه لم يكن للنص القرآني خصوصية عندهم، وإذا لم يكن للنص القرآني خصوصية، فلا بد من معالجة مسألة مهمة وهي: كيف يمكن أن يكون للقرآن نصاً خاضعاً لظروفه كباقي النصوص؟
فكان ﻻ بد من وجود مقدمة في إثبات حدوث القرآن منهم هم، وهذا الغريب؛ لأن هذا تدخل في علم الكلام، والتدخل في علم الكلام يجب أن يكون بأصول المتكلمين، فنصر حامد أبو زيد مثلًا حاول أن يدخل في بعض فصول علم الكلام؛ لكنه دخل فيه دخول غير المستنير، وغير المتخصص، وغير المتبحر، فحاول أن يناقش مسألة كانت تدور بين الأشاعرة والمعتزلة، وهي مسألة: هل القرآن حادث أو غير حادث؟
أقول: من البدهي أن من مصلحة نصر حامد أبو زيد أن يكون القرآن حادثاً، ولذا فقد سعى في نصر مذهب المعتزلة في هذه المسألة، وحاول أن يثبت أن القرآن صفة فعل، وليس صفة ذات لله عز وجل، وحاول أن يدخل في هذا المعترك بين هؤلاء العمالقة! ليصل في نهاية المطاف إلى أن القرآن الكريم صفة فعل، أي أنه حادث.
ولكن: لماذا يريد أن يتوصل إلى كون القرآن حادثًا؟
لأنه يريد أن يقول: إن القرآن نص خاضع للمعطيات التي تخضع لها باقي النصوص، فكما أننا نُخضِع النصوص لهذه المعطيات التي شرحت تحت بند الأرخنة، فكذلك النص القرآني يجب أن يكون خاضعاً لهذه البنود؛ لأنه من حيث كونه نصًّا فهو نص حادث كما هي بقية النصوص الحادثة، أما خصوصياته الأخرى من كون القرآن معصومًا، وأن له قداسة، وأنه كلام الله تعالى، فهي قضايا ما ورائية ﻻ تعنيني الآن في الاشتباك معهم!!
وبالتالي فهو يتعامل مع نص حادث، وهذا النص الحادث يجوز أن يخضع لمعطيات الأرخنة كما خضع غيره من النصوص.
والحقيقة أن البحث الكلامي عند هؤلاء لم يكن بحثاً بريئاً، فضلاً عن كونه بحثاً متخصصاً، فالقضية أننا نريد أن نقنع القارئ بأننا لا ننتج أنظاراً أو بصائر بعيدة تماماً عن محيطه، أو بعيدة تماماً عن تراثه، ولذا فهي حالة أيديولوجية دعائية نريد أن نقنع فيها القاريء بأننا لسنا خارج السرب، ولسنا خارج الإطار؛ لكننا نقوم بعقلنته، وإعادة ترتيبه.
قلتُ:
ولكن هؤلاء تعاملوا مع النص القرآني تماماً كما يتعاملون مع أي نص أدبي مرتبط بسياقه، وبظرفه، وبزمانه، وبمكانه؟
فقال:
حتى نكون دقيقين، أقول: من حيث الخضوع لهذه المبادئ فإن النص القرآني يخضع لذلك، فالنص القرآني إما أن يتموضع في ظرفه السياقي للحفاظ عليه، وإما أن ينتقل من هذا الظرف فيخضع للتفكيك، وتتعدد القراءة، وهذا قد نص عليه محمد أركون نصاً، فلا يجوز أن تكون القراءة الأولى حاكمة على القراءة الثانية، ولا الثالثة، حتى في القرآن، ولذلك هم أنتجوا ما يسمّى: قراءات للقرآن، وأنا ﻻ أقصد القراءات هنا بمفهوم القراءة القرآنية المعروفة، سواء قراءة عاصم، أو قراءة نافع، أو غيرهما، وإنما المقصود بالقراءات هنا هي حالة إعادة التأويل للنص، وإعادة قراءته بموجب المعطيات التي شرحناها آنفاً.
قلتُ:
هناك نقطة منطقية محايدة في كل حوار فكري هي أن ما يجسر الخلاف، ويمتص قدر كبير من التبعثر في الجدل أن نتناقش في نقطة أولية وهي: هل أنتم تقتنعون أن هذا القرآن وحي من الله تعالى، أم أنه منتج من واقع، ومن إنتاج عقل بشري؟ هذه النفطة لماذا ﻻ تناقش وهي حلقة مفقودة في الحوار؟
فقال:
لأن الإجابة عليها ستكون من الحدة، بحيث إما أن تُظهر الباطن، أي إما أن تظهر المفقود، وإما أن تشوش على الموجود، فلذلك من الصعب أن يأتيك جواب واضح، وثابت.
قلتُ:
إذن ما هي النتيجة من هذه القراءة التاريخانية العلمانية لنصوص القرآن؟
فقال:
النتيجة واضحة، فإذا كنا نتكلم على حقائق متكثرة لظروف متكثرة بواقع متكثر، ولا نعطي لقراءة ما سلطة على قراءة، فإننا سنصل بالنص إلى صفر الدلالة، بمعنى أننا نصل إلى صفر الحجة، كما قال بعض من انتقد التفكيكية، لماذا؟
لأن كل قراءة هي حق في ذاتها، ولا يوجد هناك قراءة تملك السيطرة على هذه القراءات بموجب أنها متصلة بمبدأ إحالة أو بمرجعية، إذن هذا يؤدي إلى قراءات النص القرآني، مع تقبل كل قراءة من هذه القراءات، بمعنى أن كل قراءة من هذه القراءات هي حق في ذاتها، ولا توجد قراءة يمكن أن يكون لها الحق على أن تكون لها السيطرة على باقي القراءات!! وهذا يؤدي إلى تكثر حقائق القرآن، ثم يؤدي إلى انتفاء الحجة الواحدة في القرآن!!
إذن أين الأساس الإبلاغي في القرآن؟
قلتُ:
لقد انتهى على هذا الأساس.
فقال:
بالضبط.
قلتُ:
ولكن ما الذي يحدث عندما ينطلق النص في رحلته من ظرف، إلى ظرف، إلى ظرف، بموجب ما قلناه؟
فقال:
تتعدد القراءات، وتتكثر، وبالتالي تتأثر الأحكام، والمفاعيل الإبلاغية لهذا النص، ومن الممكن أثناء هذه الرحلة، أو هذا التنقل للنص من ظرف إلى ظرف إلى ظرف، أن تسقط منه محمولات دلالية، وقد تتحول هذه المحمولات الدلالية نتيجة انفصال النص عن ظرفه، وعن واقعه، إلى مجرد شواهد، وبالتالي ﻻ يكون لها سلطة دﻻلية في فهم النص بظرف الثاني.
ولنضرب مثالًا على ذلك بالرق: فعندما نشأ النص كان الرق موجوداً، وكان شيئاً قائماً، فكلمة الرق في ذلك الظرف كانت تحمل شحنة دلالية، أي كانت محمولة دلالياً في النص؛ ولكن عندما انتقل النص إلى نقطة أخرى، أو إلى ظرف آخر، ثم إلى ظرف آخر ﻻ يوجد فيه رق، أصبح الرق غير محمول دلالياً في النص كي ينتج دلالة الآن، وإنما أصبح مجرد شاهد تاريخي، وهذه فكرة مهمة جداً، فإنه إن أنتج فعلياً مفهوم جديد للرق بموجب العصر الحديث، فإنه لا يلتزم في هذا المفهوم بما التزم فيه الحقيقة النصية في الظرف الذي سبق عندما كان الرق فيه محمولاً دلالياً، وليس محمولاً شواهدياً!!
قلتُ:
هذا يدل على أن هؤلاء دخلوا في هذا العلم دون رصيد شرعي كافي، فعندما ﻻ يفرق أحدهم بين الأحكام الشرعية الثابتة كالعبادات، والأخلاق مثلاً، وبين أحكام الإمامة، والسياسة، التي يدخل فيها الرق، والصلح، وتبادل الأسرى، والمعقولة بعهود، والتي هي قابلة للأخذ، والرد، والإجماعات الدولية، فها هنا يقع في مغالطات كثيرة.
ومع ذلك هم يصرون على أسباب النزول في وقتها، ويرفضون القاعدة التي يؤصلها كل علماء الأصول: أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب الآني التاريخي، فلماذا يرفضون هذه القاعدة؟
فقال:
لأنها ضد التعالي الواقعي الذي تكلمنا عليه، لأنك في هذه الحالة عندما تقول: إن العبرة بعموم اللفظ ﻻ بخصوص السبب، فإنك لم تجعل من الواقع، أو الظرف، أو الأنساق الظرفية التي تحيط بالنص، جزءاً من ماهية النص، أو عرضاً يتأصل به ماهية النص.
فهذه العبارة ضد هذا المبدأ الذي هو كما قلنا: عمود رئيسي من أعمدة مقولة أرخنة النص، وبالتالي لن يكونوا معها طبعاً.
قلتُ:
حتى نقف على هذه الآفة الفكرية فنعرف مدى خطورتها، أقرأ عليك هذا النص لمحمد اركون من كتابه: “قضايا في النقد الديني”، حيث يقول: (ينبغي أن يستيقظ المسلمون، وأن يفتحوا عيونهم، وأن يقرأوا القرآن بعيون جديدة، وأن يتموضعوا في عصره، وبيئته، لكي يفهموه على حقيقته، وعندئذ ﻻ يعودون يسقطون عليه أفكار عصرهم، وهمومه، ونظرياته، وأيديولوجياته)!! فما هو تعليقك؟
فقال:
هذا يؤكد الفكرة التي سبق الحديث عنها من أن النص ما دام متموضعاً في بيئته، وفي سياقه، فإننا لا يمكن أن نفهمه إلا باستحضار هذه البيئة، وهذا السياق، ومتى انطلق النص القرآني من هذا السياق، أو من هذا الظرف، أو من هذه العناصر المشكلِّة لماهية النص، فإنه عندها سيخضع إلى نظرة بعيون مستأنفة، وبظروف مستأنفة! فهذا حقيقة هو الأساس الذي قامت عليه هذه المقولة: أن النص يخضع لعوامل تؤدي إلى تكثر الحقائق فيه.
قلتُ:
هذا يعني باختصار: أن القرآن الكريم نزل في مرحلة تاريخية معينة، لقوم عرب، في بيئة بدائية، وانتهى دوره الآن!! أليس هذا هو المؤدي النهائي، والمحصلة النهائية لهذه الفكرة؟!
فقال:
النص من حيث هو نص، قائم لا يقولون بانتهائه؛ ولكنهم يقولون بانتهاء الحقيقة الأولى لهذا النص، فإذا انتقل النص إلى بيئات أخرى، فيجب أن تقوم فيه حقائق جديدة.
قلتُ:
وهذا نص آخر لمفكر آخر وهو الدكتور عبد الله العروي، حيث يقول في كتابه: “ثقافتنا في ضوء التاريخ”: لأن التنكر لمفهوم التاريخ يدخلنا في عالم الإلاهيات، أي ما فوق التاريخ، أو علم اﻻنفربولوجيا، أي ميدان ما تحت التاريخ!!
فنحن من وجهة نظره إما فوق التاريخ، أو تحت التاريخ! وهو بلا شك اختيار تعسفي.
فقال:
بلا شك، والحل في إماتة الجانبين، وبمعنى آخر ألا تكون هناك سلطة للميتافيزيقات الفوقية، أو اللاماورائية، بمعنى الغيب، أن نترك هذه الغيبيات، أو ننتج سلطة لهذه الغيبيات على هذا النص، ولا أن نتدنى بالنص بحيث لا يكون منتجاً لشيء.
فهو يقيم محاولة حادة بين الأمرين: إما أن يكون هناك سلطة فوقية على النص، وإما ان يكون هناك سلطة مناقضة لها، والحقيقة أن النص يجب أن يخضع لمحيطه المادي.
قلتُ:
هذه المجموعة التي تطرح هذا البديل، وهذا التفسير الجديد، هل يتوقعون أنهم ينتقلون إلى تفسير غير هذا التفسير، ونظريات جديدة تأتي، أم أن هذا هو السقف الأخير لهم؟
فقال:
كلاّ بالطبع؛ لأن هذا يناقض المبدأ، فالمبدأ كما قلنا: لا يقوم على وجود حقيقة مطلقة ثابتة، وإنما يقوم على حقائق كثيرة، فلا بد أن يفتحوا المجال لاستراتيجيات مستأنفة قادمة للنظر، فهذا تناقض منهج.
قلتُ:
أليس في العقل الإنساني حياد؟
ففي قوانين العقل الأولية هناك قانون عدم التناقض، فالنقيضان لا يجتمعان، وهناك قانون أن الجزء أصغر من الكل، وأن الواحد أقل من الاثنين، هذه قضايا مسلّمة.
ثم نأتي معهم إلى أصل، كفاتحة، ومبادرة حسنة، وحسن نية للدخول معهم في الحوار: نظرية المعرفة، وطرق الوصول للحقيقة، وطريقة العقل، بمعنى: عقل الأحكام، وليس عقل التجربة، وطريقة الخبر الصادق المتواتر، وطريقة الحس، وطريقة التجربة بكل ما ينبني على التجربة، أو أدواتها من استقراء إلخ..
لكنهم لا يعترفون بهذه الآليات!! ولا ينطلقون من ثوابت، وبالتالي لن نصل إلى حقيقة معهم أبدًا.
فقال:
هذا صحيح، ولذلك فإني أطلق عليها سفسطة، فنفي الحقائق، أو نفي الثبات، هي صورة من صور السفسطة؛ لأنها كما قلت لك: ﻻ تصل بنا إلى شيء، فهم يقولون: إن هذه الآليات هي آليات كانت خاضعة لواقع، أي أنتجها واقع معين، فلا يجوز أن تبقى هي المحاور للنص، والأداة للدخول في عالم النص، والأداة للاشتباك مع النص!
وإذا كانت هذه الأداة ينتجها واقع معين، فإن واقعًا آخر سينتج أداة أخرى.
فلو أنك اشتبكت مع نص في واقع معين، واشتبكت أنت نفسك مع النص في واقع آخر، فإن القراءة ستتغير! هكذا يقولون.
قلتُ:
إذن لا يمكن الوصول معهم إلى نتيجة طالما هذه نظرياتهم، وطالما أنهم لا يفرقون بين ثابت الفهم، وبين ثابت الفطرة، أو ثابت الأولية العقلية؟
فقال:
لذلك نحن نعاني من هذا التلون، ولا نستطيع وضع أقدامنا على قنطرة ثابتة في التواصل مع هؤلاء؛ لأننا أمام حالة نسبنة، وغياب لحقائق ثابتة، أي غياب لمرجعية.