بينى وبينكم 2004الحلقة الاولي غار حراء
غار حراء
تروي لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قصة بدأ نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم فتقول:
أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه – وهو التعبد – الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها.
فقد كانت المرحلة الأولى لبداية الوحي مع النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يرى رؤيا في المنام إلا تحققت له في اليقظة، ثم بعد ذلك حُبب إليه الخلاء، أي الانفراد عن الناس، والانقطاع عنهم، فكان صلى الله عليه وسلم يأخذ زاده من بيت زوجه خديجة، ويذهب إلى غار حراء يتعبد هناك الليالي، فإذا نفد زاده رجع إلى بيته فتزود مرة أخرى وعاد إلى حاله.
فمن غار حراء كان يطل على مكة، ويرى القوم، ولا يراه أحد، يخلو في هذا التأمل، وفي هذه الجاهلية، وفي هذه الحياة، فمع كونه صلى الله عليه وسلم يتيم الأبوين، فقد كذلك يتيم الفكر، ويتيم الهموم، ويتيم الأمنيات التي تستشرف إلى إنقاذ هؤلاء البشر الذين تحولوا في جاهليتهم إلى وحوش يأكل بعضهم بعضاً، وإلى أدوات لا يحترم بعضهم بعضاً، فكيف يستخلص من هذه البشرية سبيلاً إلى هدايتهم؟
تكمل أم المؤمنين رضي الله عنها فتقول:
حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: «ما أنا بقارئ»، قال: ” فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم}، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده.
لا شك أنه كان مشهدًا مخيفًا ومفزعًا، جعل قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتجف، وترتعد فرائسه، فما الحل في مثل هذا الموقف؟
ليس أمامه إلا أن يرجع إلى الحضن الدافيء، وإلى القلب الكبير، وإلى العقل الناضج، إلى خديجة بنت خويلد أم المؤمنين، زوجه الحنون، فرجع فقال: زملوني زملوني، فغطوه ودثروه باللحاف، ثم قال: لقد خشيت على نفسي، أي خفت أن أصاب بشيء يُذهب عقلي، فقالت رضي الله عنها تلك العبارة العظيمة التي خلدت أبد الدهر، والتي تنم على عقلية فذة، واستشراف للمستقبل باجترار لحسنات الماضي: كلّا، والله لا يخزيك الله أبداً! حسم ويقين وثقة منقطعة النظير، لن يخزيك الله أبدًا؟ لماذا يا أم المؤمنين؟ ومن أين لك هذا الحكم؟
فقالت:
إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
خمس حيثيات مَن تأمّلها ودرسها، علم أن هذه الشخصية قد هيأت تهيئة مطلقة لهذه الرسالة الخالدة، التي تدعو إلى أمثال هذه المعاني العظيمة في التعامل مع الناس.
إلا أن السيدة خديجة لم تكتفِ بهذه الشهادة، والنطق بهذه الحيثيات، بل قامت وانطلقت بزوجها الحبيب الذي تفديه بروحها إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان رجلاً كبيرًا قد أصابه العمى، وزهد في الجاهلية، واعتنق النصرانية، وأخذ يكتب الأناجيل، فلما أخبره الخبر قال له: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى. أي الوحي الذي جاء لموسى عليه السلام من قبلك، ثم تمنّى ورقة أن يكون حيّاً عندما يُرسَل النبي صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام؛ لكي ينصره عليه الصلاة والسلام! ولماذا ينصره؟ وهل هناك من سيخذله، أو يعاديه، أو يخرجه من بلده؟ نعم هذا الذي سيحدث! لماذا؟ يقول ورقة: لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي!
هذه سنة الله تعالى في الأنبياء والمصلحين من قبلك، أن أقوامهم تعاديهم، وتنصب لهم الكمائن، وتتخذ كافة السبل لصدهم عن دعوتهم!
تلك كانت قصة بدأ الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فعند نزوله التقى نور السماء بأرض الصحراء، وتغير تاريخ البشرية، وجاءت صفحة جديدة للإنسانية، وبُنيت تلك الحضارة، فقد أتى النبي صلى الله عليه وسلم إلى مجتمع كانت العبادة فيه كما يذكر القرآن الكريم: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية}، فالمشركون يطوفون حول البيت، وعبادتهم عبارة عن مكاء أي تصفير، وتصدية أي تصفيق! هل هذه عبادة؟! ليس هذا فحسب، بل كانوا يطوفون حول البيت عراة بالليل! لأن الملابس التي عصوا الله تعالى فيها لا تصلح أن يطاف بها! بل حتى النساء كنّ يطفن عرايا!!! ويقلن كلامًا وقحًا، حوّلوا البلد الحرام إلى نادي عراة، وصار الدين فلكلورًا شعبيًّا ماجنًا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بهذا النور، ونقل الناس من هذه الوثنية السفلية الوضيعة، إلى سماويات وروحانيات عليا، وقلب الأمر من حسية غليظة، إلى روحانية شفافة عالية، وسنقف مع بعض الحوادث التي تكشف لنا الفرق بين حضارة مادية، وبين حضارة تدعو إلى المادة؛ ولكن بروح إيمانية.
جاء في كتب السيرة: أن فضالة بن عمير بن الملوح الليثي أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضالة؟ قال: نعم فضالة يا رسول الله، قال: ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شيء، كنت أذكر الله! قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: استغفر الله، ثم وضع يده على صدره، فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه. قال فضالة: فرجعت إلى أهلي، فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها، فقالت: هلم إلى الحديث، فقلت: لا، وانبعث فضالة يقول:
قالت هلم إلى الحديث فقلت لا … يأبى عليك الله والإسلام
لوما رأيت محمدا وقبيله … بالفتح يوم تكسر الأصنام
لرأيت دين الله أضحى بينا … والشرك يغشى وجهه الإظلام
فالتوبة تحتاج إلى الإقلاع عن الماضي، وتغيير مسير الحياة، والانتقال من الماديات الآسرة، إلى السماويات النابضة بكل معنى جميل، وكل خلق حسن، وكل فعل نافع، فالبشرية اليوم تعاني من غياب البعد الإنساني، ومن تضخم الاستهلاك! فهذا الكاتب المسرحي الشهير رئيس جمهورية تشيكوسلوفاكيا فاكلاف هافل حين سُئل عن سبب غياب البعد الإنساني يوماً بعد يوم في الحياة المعاصرة، والمدنية المعاصرة؟ فقال: لأننا نعيش في أول حضارة ملحدة، أي مادية، وكلما ارتقى الإنسان في الماديات، وتمكن من إحكام السيطرة على بني جنسه كلما سقطت الإنسانية!
إذن الناس يحتاجون الروح المفقودة حتى لا يتحولون إلى آلات صماء، وتُفقد الرحمة التي نراها في الروح الإنسانية، فالنبي صلى الله عليه وسلم نقل الجاهلية عطشها وجفافها، إلى ريّها وريعانها، فصحّح العبادة، وكرّس الروحانية؛ بقلوب تحب الله تعالى من خلال الإشراقات الإيمانية التي جاء بها القرآن الكريم، وجاءت بها سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر الإمام ابن القيم في كتابه مدارج السالكين عند حديثه عن معنى محبة الله عز وجل فقال بعد أن عدد جملة من التعريفات فقال: من أجمع ما قيل فيها، قال أبو بكر الكتاني: جرت مسألة في المحبة بمكة – أعزها الله تعالى – أيام الموسم، فتكلم الشيوخ فيها. وكان الجنيد أصغرهم سنا. فقالوا: هات ما عندك يا عراقي. فأطرق رأسه، ودمعت عيناه. ثم قال: عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرقت قلبه أنوار هيبته. وصفا شربه من كأس وده. وانكشف له الجبار من أستار غيبه. فإن تكلم فبالله. وإن نطق فعن الله. وإن تحرك فبأمر الله. وإن سكن فمع الله. فهو بالله ولله ومع الله.
فبكى الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد. جزاك الله يا تاج العارفين.
وذكر الإمام تاج الدين السبكي في كتابه: طبقات الشافعية الكبرى عن الجنيد قال: حججت على الوحدة، فجاورت بمكة، فكنت إذا جن الليل دخلت الطواف، فإذا بجارية تطوف وتقول:
أبى الحب أن يخفى وكم قد كتمته … فأصبح عندي قد أناخ وطنبا
إذا اشتد شوقي هام قلبي بذكره … فإن رمت قربا من حبيبي تقربا
ويبدو فأفنى ثم أحيى به له … ويسعدني حتى ألذ وأطربا
قال: فقلت لها: يا جارية أما تتقين الله؟ في مثل هذا المكان تتكلمين بمثل هذا الكلام؟ فالتفتت إلي وقالت: يا جنيد
لولا التقى لم ترني … أهجر طيب الوسن
إن التقى شردني … كما ترى عن وطني
أفر من وجدي به … فحبه هيمني
ثم قالت: يا جنيد تطوف بالبيت، أم برب البيت؟
فقلت: أطوف بالبيت.
فرفعت طرفها إلى السماء وقالت: سبحانك ما أعظم مشيئتك في خلقك، خلق كالأحجار يطوفون بالأحجار! ثم أنشأت تقول:
يطوفون بالأحجار يبغون قربة … إليك وهم أقسى قلوبا من الصخر
وتاهوا فلم يدروا من التيه من هم … وحلوا محل القرب في باطن الفكر
فلو أخلصوا في الود غابت صفاتهم … وقامت صفات الود للحق بالذكر