الأخلاق بين الإسلام والفلسفة – الجزء الأول
ما هي الأخلاق؟ سؤال دأب الفلاسفة منذ عصر اليونانيين ما قبل الميلاد على الإجابة عليه، حيث أن أغلب الفلاسفة يعتقدون أن هناك حقائق موضوعية للأخلاق الصحيحة مثلها كمثل حقيقة أن الشمس تشرق من الشرق، ودور الفيلسوف هاهنا يكمن في البحث عن هذه الأخلاقيات وينشرها للناس لأن الأخلاق هي قوانين الأفعال الإنسانية ومثلها العليا[1].
فما هو الفعل الأخلاقي إذن؟ الأبطال يستحقون الاحترام، الإنسان لا ينبغي أن يمارس الجنس مع أمه، البخل صفة سيئة. كل هذه الأحكام أخلاقية في جوهرها وتفترض أنه هناك (ما ينبغي أن يكون) لترشيد حياة الإنسان وتقويم سلوكياته. فكيف طرحت الفلسفة الغربية الإجابات على السؤال الأخلاقي؟ وما هو الفعل الأخلاقي بالنسبة للمدارس الفلسفية الغربية؟
لعل من أبرز مدارس الأخلاق في الغرب هي مدرسة الإنجليزيين جيرمي بنتام (1748م-1832م) وجون ستيوارت مل (1806م-1873م) حيث طوّرا مفهوم اللذة، الذي صاغه اليوناني إبيقور (341 ق.م.-270 ق.م.)، وعنى به تحصيل أكبر قدر من السعادة وتجنب كل ما يمكن الإنسان تجنبه من الألم، ثم أعادا تدوير هذه الفلسفة فيما يسمى بالفلسفة النفعية في تنظيراتهما.
تقوم الفلسفة النفعية على أن غاية كل الناس هي إدراك اللذة أو المنفعة وكل ما سوى ذلك فمجرد وسائل لبلوغ غاية الاستمتاع، إن المنفعة هي الخير المطلق المرغوب فيه والألم هو الشر المحض الذي يجب تفاديه، ومن ثم فإن المنفعة، كما يرى مل، هي “اللذة بعينها مقابل غياب الألم”[2].
اعتنق بنتام هذا الفكر النفعي، ورأى أن الإنسان “مثله كمثل الحيوان، غير أن الفارق هو أن الإنسان يُعمِل عقله في اتباع اللذة، فالفعل الخير بالنسبة له هو ما يجلب اللذة المستمرة، والفعل الشرير ما يعود بألم مستمر”[3]. فالأخلاق إذن يمكن تقييمها وفقًا لشيء مادي محسوس وملموس في الواقع وهو الألم أو اللذة. ومن هنا كانت الأخلاق وفقًا للنفعيين: تجريبية خالصة يمكن قياسها ورصدها طبقًا لمقدار الألم أو اللذة الصادرين عن سلوك معين[4].
على جانب آخر رفض الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724م-1804م) هذه النظرة الأخلاقية المادية للذة والألم، وكان نقده الرئيسي لها قائمًا على أن الإنسان عاجز عن بلوغ السعادة الحقيقية بسبب قصور نظره وتقديره الشخصي، فكانط يقول أن الإنسان: “عاجز عن أن يحدد بيقين تام، وبمقتضى مبدأ من المبادئ، ما يمكن أن يوفر له السعادة الحقة، لأنه سيحتاج حينئذ إلى المعرفة الكلية التي تحيط بكل شيء، وإذن فليس في استطاعة الإنسان لكي يحصل على السعادة أن يراعي في أفعاله مبادئ محددة وإنما عليه أن يتبع نصائح تجريبية”[5]. فتجاوز كانط النظرة المادية للأخلاق في سبيل تأسيس غاية أكبر من مجرد المنفعة الشخصية، فيما سماه بفلسفة الواجب الأخلاقية.
حرر كانط الأخلاق من الميول والأهواء والمادية إذن واعتنق وجهة نظر مثالية تناقض المادية، فالفعل الخيّر –بالنسبة له- هو ما يتوافق مع (الواجب) مثل الإحسان ومحافظة الإنسان على حياته وحياة الآخرين، وهذا الواجب غير مرتبط بالتجربة الذاتية، فالأخلاق “خالصة من كل عنصر تجريبي، ولا يمكن أن نجدها أو نجد أقل جزء منها إلا في تصورات العقل الخالصة”[6].
الواجب إذن منزه عن أي منفعة شخصية ولا متعة مادية من ورائه، والإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمارس الفعل الأخلاقي دون أن يعود عليه بأي نفع، لكن كيف افترق هنا كانط بمثاليته الموضوعية عن الفلسفة النفعية الذاتية؟ أي ما الذي يجعل الواجب بالنسبة لشخص واجبًا بالنسبة لآخر؟ لماذا يضحي أحدهم بقناعاته من أجل قناعات الآخر؟
يؤكد كانط أن ثمة حقيقة موضوعية مثالية لفكرة الواجبات الأخلاقية، إنها مقتضى العقل المحض. لكن أين يمكن العثور على مثل هذه الحقيقة؟ ألا تنتمي هذه الفكرة لعالم العقل؟ فأين هو هذا العالم وكيف نراه بأعيننا بشكل يتفق عليه الجميع؟ هل هناك حقيقة موضوعية يمكننا رؤيتها مثل الشمس؟ إن كانط يقر بأن فلسفته الأخلاقية المثالية تفضي إلى الإيمان بالله بصفته الخير الأسمى ومانح القانون الأخلاقي. لكن ماذا لو اتجهت الفلسفة للإلحاد؟ يعترف كانط نفسه أن أدلة وجود الله مثلها كمثل أدلة عدم وجود الله، ومن ثم لن تصمد الأخلاق المثالية أمام إنكار وجود الركيزة الأصلية والأساس الأول للأخلاق وهو الله[7].
هذ الإشكال تحديدًا للمثالية الأخلاقية التي طرحها كانط هو ما دفع الفلسفة النسبية للظهور كرد فعل على الإغراق في ذلك التجريد المثالي للأخلاق. فأمام الاختلاف الهائل للثقافات ووجهات النظر والقيم الحاكمة للبشر يظهر الإشكال المقلق: أي القواعد ينبغي على الإنسان اتباعها إذا تصادمت القرارات الأخلاقية؟ وما هو الميزان الموضوعي الخارج عن رؤية الإنسان لتقييم الأفكار والمواقف والأحكام وتبيين الحق من الباطل؟ توصلت الفلسفة النسبية إلى الإجابة: لا يوجد[8].
إن الأمر بسيط طبقًا للنسبية الأخلاقية: فإطلاق الأحكام الأخلاقية على الآخرين أمر ممتنع إذ أن الأخلاق نفسها ليست مطلقة ولا موضوعية وإنما خاضعة لمعايير ذاتية بحتة تختلف من إنسان لإنسان ومن ثقافة لأخرى، فليس هناك إنسان على حق وآخر على باطل، الجميع غارقون في بحر من النسبية الأخلاقية، وكل إنسان له قِيَمه الخاصة التي ينبغي أن يحتكم إليها هو شخصيًا ولا يحاكمه أحدٌ من خارجها، الحق بالنسبة لإنسان قد يكون باطلًا لآخر، والعكس صحيح.
يتيه الإنسان وفقًا للنسبية في دروب مظلمة يضيع فيها الحق والباطل ويختلط الخير بالشر، إنها غابة حالكة السواد لا يوجد فيها حكم مطلق واحد يرشد الناس إلى الصحيح والخطأ. إن السائر في درب النسبية سينتهي به المطاف لامحالة، كما يرى المؤلف الأمريكي ديريك كوبر، إلى أن يجعل كل وجهات النظر “متساوية ونسبية، ومن ثم فلا شيء له أهمية”[9].
ولذا ينتقد جريج هنريك، أستاذ علم النفس بجامعة جيمس ماديسون، هذه النزعة لمحو أي حكم أخلاقي على الأشخاص والثقافات والأنظمة، ويرى أن هذه المقاربة تضر أكثر مما تنفع، ويقول: “أنا بالتأكيد أحكم على أفعال زوجتي وأطفالي، من المستحيل ألا أفعل ذلك.. وحتى عندما يأتي المرضى إلى عيادتي، سأهز رأسي بالموافقة أو أشجع المرضى الذين يتخذون خطوة حسنة في حياتهم، وسأشعر بالضيق وأنكر على المرضى الذين لا يحسّنون من وضعهم”[10].
ثم يؤكد كوبر على نفس ما أكده هنريك قائلًا: “إذا تبنينا فلسفة اللاحكم، فإننا سنفقد بوصلتنا الأخلاقية، ستبدو جميع الأمور متساوية، وسنعيش في عالم من اللامبالاة الأخلاقية والحياد القيمي في كل شيء”.
هكذا تخبطت الفلسفة المادية ووقعت في بحر لا ساحل له، لم تستطع أن تقيم حكمًا موضوعيًا للأخلاق، ولم تتوصل إلى منظومة أخلاقية موضوعية يمكن الاستناد إليها وتعميمها بين الناس، تنقلت بين أروقة النفعية ثم ارتحلت إلى صحراء المثالية وبعدها ولجت في متاهة النسبية.
وأمام هذا التيه السرمدي، ماذا خسر العالم بتخليه عن الإسلام؟
وكيف قدم الإسلام منظومة أخلاقية محكمة وشديدة التماسك لا يمكن لبشري أن يتجاوزها؟
هذا هو موضوع مقالنا القادم بإذن الله.
بقلم/ إسماعيل عرفة
[1] سيدجويك، المجمل في تاريخ علم الأخلاق، الطبعة السادسة 1931م، ص/ 10. [2] جون ستيوارت مل، النفعية، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2012م)، ص/35. [3] محمد يوسف موسى، في تاريخ الأخلاق، ص/ 112. [4] زكريا إبراهيم، مشكلات فلسفية (المشكلة الأخلاقية)، ص/ 149. [5] إيمانويل كانط، تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاق، ص/ 57. [6] نفسه، ص/ 24. [7] صعب أديب، المقدمة في فلسفة الدين، ص/ 237-238. [8] Ruth Benedict, Patterns of Culture, p. 206. [9] Derek Doepker, Why You Should Be Judgmental. [10] https://www.psychologytoday.com/…/making-judgments-and…
أكملو بارك الله فيكم