بداهة الإيمان
كم مرة سمعت لفظة “الإلحاد”؟ دعك من هذا، كم مرة اهتممت بقراءة الردود على جدالاته؟ في الأمر مجهود عظيم ولا شك، لكن
دعنا نتأمّل قاعدتين رئيسيتين في هذا الحجاج: قاعدة الخلق والإيجاد؛ إذ كل حادث لا بد له من مُحدِث، وقاعدة العناية التي تبصّرن برعاية الله لكونه ومخلوقاته وتدبيره أمورهم. هذا التنظير المتناسق يمكنك إدراكه قبل 1400 عام حينما أجاب الأعرابي سؤال من استنكروا إسلامه، قائلًا: “البَعَرَة تدلّ على البعير، والأثر يدلّ على المَسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فِجاج، أفلا تَدلّ على العَلّي الخَبير؟!”، هل تعلم ما هذا؟ إنه اندماج تلقائي لأهم شاهدين في إثبات ربوبية الله: دلالة الفطرة، ودلالة الآيات.
ما هي الربوبية؟ هي من “ربّ”، وربّ الشيء هو القائم عليه وعلى إصلاحه ورعايته، والرب -بالتعريف- لا يُعنَى بها في الإسلام إلا الله سبحانه وتعالى؛ الذي يتولى كونه وخلقه فيه بالمُلك والتدبير، ومن ثم البعث والنشور والجزاء.
وفي قول الأعرابي نجد دلالة الفطرة حاضرةً في بداهة الإيمان بالخالق والصانع الأول؛ إذ أن العقل مفطور على البحث عن صانع كل شيء، وهو الأمر الذي حمله البروفيسور “جستون باريت” على عاتقه في كتاب “فطرية الإيمان” حين أخبرنا –نقلًا عن الفيلسوف “روبرت ماكويلي” أن ثمة نوعين من المعرفة الفطرية التي يولد بها المرء: الفطرية النضجية، والفطرية التدريبية. والتي تعبر عن مجموع المعارف والمهارات التي يكتسبها الطفل بالتدرب عليها أو تعلمها من غيره، إلا أنها تقع موقع الفطرة لسهولة ممارستها دون أي تعقيدات، كالقراءة بيسر تلقائي -مثلا- بعد تعلم الحروف.
في حين أنه عرّف الفطرية النضجية على أنها المعارف والمهارات التي يكتسبها الطفل بمجرد النمو، مما يعني أن بذورها كامنة فيه ولا تحتاج ثمارها إلى أكثر من الأيام، والحفاظ على تربتها الفطرية بعيدا عن الملوثات، لتنتهي إلى النتيجة المطلوبة. تماما كالمشي وإدراك الأشياء ومعرفة ما يمكن حمله منها، لأن كلا من الفطرتين سهل وتلقائي وسلس.
من هذا الباب، رأى “باريت” أن كثيرًا من الأفكار والممارسات الدينية الأساسية تقع في نطاق الفطرة الطبيعية، في حين أنها عند البالغين تُصنّف ضمن الفطرة ذات الخبرات، وعليه يمكننا القول إن الإيمان بالإله أمر فطري؛ لاحتواء النفس على استعدادات فطرية تمضي، في الظروف الطبيعية للعالم دون أي معوقات، لتتبلور بعد خبرة معرفية إلى إيمان يكسو أساسًا متينًا من الفطرة.
هذه الفطرة حينما تندمج مع الآيات الكونية نجد أن الأثر الذي يدل على المسير، بالمنطق ذاته، يدل فيه الكون والجبال والفجاج والسماء والأبراج على العلي الخبير؛ وذلك لأن وجود هذه الآيات يفتقر إلى الرب في شيئين: الإيجاد والعناية.
فإن قال قائل أن الكون مادة، وهذه المادة أزلية، وأن تغيرات الكون وحوادثه تنشأ من تحولات هذه المادة بفعل الطبيعة من صوره لأخرى، كيميائية أو بيولوجية أو حتى اجتماعية، قلنا: وهل أصل هذه المادة نفسها الوجود أم العدم؟ فإن كان الأصل هو العدم فكيف استطاع العدم أن يكون موجودًا؟ وإن كان الأصل هو الوجود، فمن الذي أوجده؟ وهذا ما قاله سبحانه: “أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ” [الطور: 35].
وإن كان الوجود هو الأصل، فإنه من المستحيل أن يطرأ على هذا الوجود عدم؛ لأن الوجود أصل العدم، وهو ما لا يتحقق في حق الكون كله وموجوداته، فحسب قانون الديناميكا الحرارية الثاني فإن النظام الكوني، بوصفه نظامًا محكمًا، يسير في اتجاه الموت الحراري وفقدان طاقته، ومن ثم نهايته، فإن كان الكون أزليًا لا يفتى فكيف يتفق هذا مع قانونا العلمي؟! إذن هذ الكون محدود العمر، وما كان محدود عمره غير أزلي، ومن ثم يحتاج لواجد وصانع.
هذا الواجد لا بد وأن يكون متصفًا بالحياة في ذاته، أزليًا لا يفنى، وهذا هو الرب تعالى. وهو الرب لأنه لا بد من الانتهاء إلى الواجد الأول لكل شيء، حتى لا نسقط في مغالطة “الدور” وحتى لا نعادي المنطق، فالمنطق يقول أن لكل حادث مُحدِث، لكن التسلسل في هذا الشأن بلا نهاية سيوقعنا في فخ انعدام الواجد، فمن أوجد هذا الذي أوجد هذا الذي أوجد هذا؟ لا بد وأن ثمّة خالق حي لا يزول أعطى الوجود والسبب الأول للحياة.
وإن التأمّل وحياة الفطرة ليغنيان عن كثير من القول، “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” [البقرة: 164].