لماذا حرية الإرادة مشكلة نفسية/فلسفية -1/2
عبر التاريخ الإسلامي ظهرت فرقة “الجبرية” التي ادعت أن الإنسان أسير للقدر الإلهي، وأنه ليس حرًا في اختيار أفعاله، وإنما هو كائن مسير بالإجبار، مثله كمثل الريشة في مهب الريح. تجاوز أهل السنة هذه الفرقة وصنفوا في الرد عليها مئات المؤلفات، ولا يكاد يوجد لها أثر حاليًا.
ومؤخرًا، مع ترددات موجة الإلحاد في عالمنا العربي والإسلامي، تكررت دعوى الجبر وفقدان الحرية الإنسانية مرة أخرى، ولكن هذه المرة متدثرة بغطاء العلم عوضًا عن النصوص الشرعية. ادعى بعضهم أن الجينات في الـ DNA الخاص بنا هي مصدر سلوكياتنا وأفكارنا، وأن الجينات هي أصل كل أفعالنا وأن حرية الإرادة ليست سوى خدعة يمارسها مخنا من أجل السيطرة علينا.
سُمي هذا المذهب بالحتمية الجينية Genetic Determinism ونافح عنه الكثير من الملاحدة رغم تعارضه مع بدهيات الخبرة الإنسانية في الحياة، فالإنسان –بالنسبة لهم- مجرد حثالة كيميائية لا تختلف في حقيقتها عن أي خردة أحيائية موجودة في الكون، والجينات هي الحاكمة الحقيقية لأفعال الإنسان وليست حرية الإرادة، كما يقول أحد الباحثين: “الجينات تؤثر في سلوكيات مثل الإجهاض، الهجرة، واللاعنف”[1].
فما هي حقيقة هذا القول؟ وهل تصمد مسألة حرية الإرادة تحت مجهر العلم التجريبي أم أنها تنهار أمام الحتمية الجينية؟
اتفق العلماء أننا نولد بكود جيني يحدد الكثير من صفاتنا الشخصية وطبائعنا الذاتية مثل شكل الشعر، مورفولوجي الوجه، قصر الرجلين، وغير ذلك من الصفات الشكلية الخارجية، بالإضافة إلى وظائف أجهزتنا الداخلية. فماذا عن الحالة النفسية للإنسان؟ هل تحددها الجينات؟
أكدت العديد من الدراسات تؤكد أن حالتنا النفسية لها ارتباط ما بالجينات، ويكاد يجمع المجمع العلمي على أن بعض الاضطرابات النفسية (مثل التوحد أو اضطراب ثنائي القطب) لها عوامل جينية[2]. ظهر على هذا الأساس فرع في علم الجينات يسمى بعلم السوكيات الجيني Behavioral Genetics، لكن ما هي المشكلة التي أدت بالبعض إلى اعتبار الجينات (محددات) للسلوك البشري؟
يؤكد الباحث بروس ليبتون أنه قبل اكتشاف الجينات البشرية فيما يسمى مشروع الجينوم البشري عام 2000م، ساد الاعتقاد أن كل بروتين في جسم الإنسان له جين مسؤول عن إصداره، بالإضافة إلى جينات تنظيم الخلايا، فكان الظن الراجح بين العلماء هو أن الخلية الواحدة تحتوي على 120,000 جين.
لكن بعدما خرجت نتائج مشروع الجينوم البشري اصطدم هذا التصور البدائي بالحقيقة، إذ أعلن المشروع أن مجمل الجينات في الجسم الإنساني هي 25,000 جين فقط. كانت تبعات هذا المشروع خطيرة، فالجينات وحدها لا تكفي إذن لتفسير الحياة، واختزال السلوك البشري في الجينات غير كافٍ، وفشلت الجينات في تحديد مصير الإنسان، وصرح ليبتون: “نحن لسنا عبيدًا لجيناتنا”[3].
هذا هو بالضبط ما أعلنه عالم الأحياء ديفيد بالتيمور –الحائز على نوبل- حينما قال: “إن تميزنا عن الكائنات الأدنى منا لا يرجع إلى زيادة عدد الجينات، ومن ثم لم يعد ممكنًا الاعتماد على الآلية الجينية وحدها لتفسير التطور. إن التميز الإنساني مازال سرًا يحتاج إلى مزيد من البحث”[4].
وما زاد أنصار الحتمية الجينية إحراجًا هو أن الجينات لم يعد العلماء ينظرون إليها بصفتها نصوص تقرأها الخلية وتنتج معلومات فحسب، فمع تطور الرصد العلمي اكتشفنا أن الخلية تكتب في كود الجينات نفسه وتضيف عليه تعديلات كما تقرأ منها بالضبط، عبر عمليات متعددة وشديدة التعقيد تتفاعل فيها الخلية مع المحيط الاجتماعي والبيئي للإنسان.
ومعنى ذلك هو أنه لا يوجد حتمية مسبقة في “وصفة” الجينات، بل هي بمثابة كتاب مفتوح تسطر فيه كل تجربة إنسانية خبرتها الخاصة والفريدة[5].
فالعوامل البيئية تعطي التعليمات للجينات لكيفية إيقاع النغمات الجينية بدون تغيير في ترتيب الجينات عبر ثلاثة آليات: مثيلة الدنا DNA Methylation، تعديل الكروماتين، والـ microRNA. وهذه التعديلات غير مرتبطة بمرحلة عمرية معينة بل تبدأ منذ تكوين الجنين في بطن أمه وتفاعله مع محيطه من حوله[6].
كما تتأثر الجينات دومًا بالميكروبيوم Microbiom وهي الباكتيريا التي تسكن في أجسادنا بطبيعتها، فجسم الإنسان يحوي 4 x 1013 باكتيريا بداخله، أي ما يساوي عدد خلايا جسم الإنسان تقريبًا. جهازنا الهضمي وحده يحمل في أحشائه 4000 نوع باكتيريا، بأكثر من 800,000 جين مختلف[7]، وأظهرت الدراسات أن بعضًا من هذه الباكتيريا لها تأثير مباشر على الجينات والهرمونات والوظائف الفسيولوجية والحالات النفسية للإنسان[8]. مرة أخرى نرى أن الجينات ليست فاعلًا وإنما مفعول به.
وما يزيد موقف الملاحدة إحراجًا هو أن الجينات تتكيف وفقاً لإرادتنا الحرة وقرارتنا الواعية، وتساعد خلايانا في الانصياع لما نريده بشكل واعٍ ومستقل، فطبقًا لأستاذ الفلسفة البريطاني ديفيد بابينو: “لنفترض أن تعلم السلوك X يتم عبر التعلم الاجتماعي، أي النظر إلى سلوك الآخرين وتقليدهم. إنهم باختيارهم الحر يشكلون ضغطًا على جيناتهم من أجل توجيه جيناتهم نحو تعلم هذا السلوك. ولن تساعد الجينات على اكتساب السلوك X إلا عندما يريد الإنسان كذلك، فليس للجينات وحدها أي مصلحة مادية أو بيولوجية في ذلك[9].
الجينات إذن محدودة العدد، تؤثر فيها القرارات الواعية للإنسان، والبيئة المحيطة به، والحالة النفسية والجسمانية له، إنها فاعل كما هي مفعول به، وبسبب توالي الاكتشافات العلمية في كيفية إدارة الكود الجيني لأجسامنا، تراجع المؤمنين علنًا بالحتمية الجينية[10]. فحرية الإرادة الإنسانية واقعة وحقيقية، ولا يمكن اختزالها في مجرد عناصر كيميائية تتأثر بالسلوك الإنساني ومحيطه الاجتماعي.
[1] Buchen , L. 2012 . Biology and Ideology: The Anatomy of Politics . Nature, 490 : 466 – 468 . [2] Ronald, Angelica; Hoekstra, Rosa A. (April 2011). “Autism spectrum disorders and autistic traits: A decade of new twin studies”. American Journal of Medical Genetics Part B. 156 (3): 255–274 [3] عمرو شريف، أنا تتحدث عن نفسها، ص 109, [4] عمرو شريف، أنا تتحدث عن نفسها، ص 112. [5] Denis Alexander, Genes, Determinism and God, P. 86. [6] Denis Alexander, Genes, Determinism and God, P. 75-76. [7] Relman , D. A. 2012 . Microbiology: Learning About Who We Are . Nature, 486 : 194– 5 . [8] Schmidt , C. 2015 . Mental Health: Thinking from the Gut . Nature, 518 : S12– 5 . [9] Michael Gazzaniga, Who’s in Charge? Free Will and the Science of the Brain, Chapter 5. [10] Denis Alexander, Genes, Determinism and God, Preface.
قلتم ان المشكلة فلسفية ودخلتو في العلم ، لا مشكلة في ذلك لكن من الذي خلق افعالنا ؟ آرى انه لا مشكلة ان نقول مصادر كل شيء من واحد احد صمد وهو الله سبحانه ، الله جل جلاله متكبر ان يعطيك علم غيبيات تسيير القدر, وسيكون هذا النقاش الى يوم القيامة وينتهي في علم الله اللانهائي المتعالي، خلق الكافر وخلق مقعده في جهنم وخلق الزمن وهو لا يطرئ له زمن وخلق الاشياء كلها وهو ليس بمثلة شيء وخلق الشر والخير .
ووجود الله من ضروريات العقل اذن كل شيء اوجده الله مسير وميسر لا مجبر، والطيور على اشكالها تقع.