ما الذي يحدث للعالم، ولماذا يحدث؟ ما تلك الزلازل وما هذه الكوارث التي أنهكت الصغار قبل الكبار؟! هل هو يعلم بما يحدث؟ بلى هو عالمٌ بكل شيء.
إذن لِمَ لا يتدخل لمنع هذا وتخليص الأبرياء قبل المعاناة؟ هل هو عجزٌ منه؟ أم إنه إلهٌ شرير؟ حاشاه سبحانه هذا أو ذاك!
السبب الأول للإلحاد في العالم!
في فترات الحروب والأوبئة والكوارث، تتقافز الأسئلة الوجودية إلى ذهن الإنسان، وتُستحضَر الاستفهامات التي قد يغفل عنها في حياته الطبيعية، وهنا يأتي سؤال الشر بصفته الأكثر حضورًا على مر العصور. فقد يتذرع الملاحدة لإنكار الخالق بنظرية التطور تارة، وبفرضية الأكوان المتوازية تارة أخرى، أو بأي فرضيات علمية مغايرة، لكن غالبًا ما يبقى سؤال الشر قابعًا خلف أكثر تلك التبريرات ومستترًا بها.
وقد ذكر الأديب الأيرلندي سي إس لويس في كتابه (إبطال الإنسان): “أن مشكلة الشر التي قادته إلى الإلحاد في شبابه هي عينها التي أعادته إلى الإيمان، فقد وجد في قلب المشكلة الإيمان بالله تعالى”.
ويا للعجب! فالفكر المادي الذي ينكر وجود أي قيمة حقيقية أو موضوعية لمعايير الخير والشر هو نفسه ما جعل من وجود الشر سبيلًا لإنكار الخالق تعالى، حتى أصبحت هذه الحجة الأكثر شعبية والأكثر جدلًا في الحوارات الغربية.
يظهر ذلك بجلاء من كمية الدراسات التي دارت حولها، فقد أُحصي ما يقارب خمسة آلاف دراسة وبحث تناولت المشكلة، فقط في النصف الثاني من القرن العشرين، أي ما يعادل ألف بحث ومؤلَّف في العقد الواحد! مؤشر واضح على عمق الأزمة وشدة حضورها.
انفكاك الجهة
هل يعقل أن يكون طغيان وظلم قاضٍ في المحكمة دليلًا على عدم وجود المحكمة أساسًا؟ ما العلاقة بين القضيتين أصلًا؟!
هكذا يسوغ الملحد تبريره لينفي الخالق تعالى، وكل عاقل نبيه يعلم برسوخ أن المبحَثين معزولان، فأدلة وجود الخالق ثبتت بطرق عقلية تختلف من حيث الأصل عن مباحث الحكمة الإلهية، وطيّ الاثنين تحت بساط واحد لغو وباطل، فوجود الشر لا يقول أن الله غير موجود وإنما يطرح سؤالًا أصغر بكثير، وهو: لماذا سمح الله بوجود الشرور والآلام؟!
فساد المقدمات
تقوم الحجة على مقدمات ثلاث، صاغها أبيقور من القدماء، والفيلسوف الأسترالي جون ليزلي مكاي من المعاصرين، وهي: الله كلي القدرة، الله كلي الخيرية، الشر موجود.
هذه القضايا الثلاثة متناقضة بزعمهم، فإذا صدقت اثنتان كانت الثالثة كاذبة وهذا تناقض paradox، لكن هذه المقدمات تنطوي على فهم خاطئ متعلق بطبيعة صفات الله تعالى، تجعلها قائمة على ما يسمونه مغالطة القسمة الثنائية أو حصر الخيارات. فإن اختزال صفات الله تعالى بالخيرية والقدرة هو ادعاء لا يلتزمه المؤمن بالوحي الإلهي، فالذي أنبأنا عن عدالة الله ورحمته ولطفه هو نفسه الذي أعلمنا عن حكمته، ووعدَنا بنعيمه، وتوعدنا بعذابه.
فما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين مثله. فإذا قلنا أن وجود الله عند المؤمن ثبت بيقين عقلي محكم؛ فهل هناك ما يمنع عقلًا وجود حكمة خفية من وراء كل شر؟ فإن نفى المتشكك المنع سقط اعتراضه، وإن أثبت المانع طُلب منه الدليل، وهو أعجز من أن يقدمه.
وبإجمال: وجود الله قضية يقينية، ووجود شر بلا حكمة هو فرضية، ولا يمكن عند العقلاء أن يُقدَّم ما هو ظني على ما هو قطعي محكم.
العالم المستحيل
عالمنا عالم مفهوم مدرك؛ لأنه قائم على الثنائيات التي تلتقطها عقولنا وتفرزها وتقيس عليها. هذه الأضداد شرط لقيام عالم التكليف والابتلاء الذي قدره الله: خالق ومخلوق، ليل ونهار، صحة ومرض، غلظة وليونة، صفح وانتقام، فالإنسان يفهم المعاني بأضدادها، وانعدامها يعني استحالة قيام العقل التكليفي؛ لأنها تعني وحدة الخالق والمخلوق، ليس ثَمَّ حسن وقبيح، أو افعل ولا تفعل. فمطالبة الملحد بكَوْنٍ فيه تكليف مع خلوّه من هذه الثنائيات هي مطالبة بعالم مستحيل. ولو أمعنّا النظر فيه سيكون قريبًا من العدم.
وعود زائفة
مع سحب البساط عن قدمي الدين شيئًا فشيئًا بدأت التيارات الربوبية تعلو مع عصور النهضة الأوروبية وما بعدها، وبات الدين مضيقًا عليه مطرودًا هنا وهناك. كان الإيمان بالله لا يزال متماسكًا، لكنه فقد الكثير من بريقه وغائيته، وتحول الخالق في نظرهم إلى إله زائف، مجرد سبب أول أو محرك أول كما قال أرسطو، ولكنه محرك لا يتحرك ولا يهتم بشأن العالم أو الإنسان.
وما هي حتى قطع ديفيد هيوم وإيمانويل كانط أي علاقة بين البشر وبين الإله والاتصال بالسماء، ليأتي نيتشه أخيرًا ويعلن موت الإله! فلم تعد ثمة حاجة للإله عندهم، بعدما سد العلم -بزعمهم- كل الثغرات التي كان يستغلها المؤمنون ليُقحموا فيها الإله.
وهذا التحول هو ما رفع من مستوى الحساسية للألم لدى البشرية إلى مستوى مفرط، فالإنسان صار أكثر ترفًا ورفاهية وسلطة وتمكينًا، لكن أيضًا أصبح أكثر تذمرًا وسخطًا بعد أن باتت دورة الحياة الإنسانية في ثلاث مراحل: إنتاج في المصنع، استهلاك في السوق، واللذة في ملهى ليلي أو أي معادل آخر.
إنسان اللذة المخمور، و أسوار العقل
حاول جورج كانتور -الفيلسوف وعالم الرياضيات المرموق- طوال سنوات تحليل مفهوم (اللانهاية) وبذل مجهودًا كبيرًا في سبيل ذلك، فكان يقول أحيانًا بأن اللانهاية هي الله، وتأزمت حالته مع عجزه عن إيجاد الصيغة الكاملة لها، فكان يصاب بالهوس والاكتئاب وينقل إلى مستشفى للأمراض النفسية.
كيف لهذا الإنسان إذن أن يزعم إحاطته بكل شيء علمًا؟! كيف له أن يقول بأن عدم إدراكه لأوجه الحكمة من بعض الشرور تخدش الحكمة الإلهية؟ أطّلع الغيب؟ أم اتخذ عند الرحمن عهدًا؟ من منا لم يسمع بقاعدة (عدم الوجدان لا يعني عدم الوجود؟) هل استطاع أن يعادل المسافة بين علمه وعقله المحدود وبين علم الله اللامحدود ليدّعي غياب الحكمة؟
رجل القش مجددًا
يدعي الملحد أو المتشكك أن العالَم الذي يأتي به الله مطلق القدرة والعلم ينبغي أن يكون كاملًا بلا عيوب، أو أن الأديان تدعي ذلك! بينما نحن لا نرى إلا كونًا فيه ما فيه من الشرور الأخلاقية والطبيعية وحتى المجانية.
وعند التحقيق، لا نجد هذا الكلام إلا تقوّلا منه، فلم يدعي الوحي الإلهي أن الدنيا خالية من الشرور والمصائب، بل إن جوهر الدين الحنيف يدور حول قضية الابتلاء والصبر والمصابرة أو الجزع والكفران. خُلق الإنسان ليكابد ويجاهد، والمؤمن لا يرى في ذلك أي غرابة، لا يتمعر وجهه أو يسخط حينما تدور الدنيا عليه، فهو متيقن أن الحكيم تبارك وتعالى لن يدخر لعبده إلا الخير إما في دنياه أو موصولًا في أخراه.
وتعزيزًا لهذا المعنى نجد الآيات القرآنية تتناول ثنائية الإيمان بالله واليوم الآخر بصورة مطردة في بيان جلي لمركزية هذا الركن الذي يكاد يُنسى في الأديان الأخرى -حتى السماوية منها-، الإسلام أعاد الاعتبار للقيمة الفلسفية المترتبة على الإيمان بمبدأ التعويض الإلهي، بينما في الديانة اليهودية -التي يفترض أنها سماوية- بات الوعد الإلهي متعلقًا بالتمكين الأرضي بعد ما نالها من التحريف ما نالها. ففي بعض الرسائل التي كان يبعثها بكر نجل الرئيس البوسني الأسبق علي عزت بيجوفيتش إلى والده في السجن يقول: “هل تعرف أحدًا يمكنني أن أستعير منه نسخة مختلفة من التوراة؟ فإنني أشك في العهد القديم، أو بالأحرى أشك في مصدره، وأخشى أن يكون الناس قد حرفوه بدرجة كبيرة، فلا يذكر فيها فضيلة التسامح، وليس هناك أي ذكر للعالم الآخر! فيا ضيعة الأمل!”
ماذا عن الشر المجاني؟
قد علمنا اندراج ابتلاءات المُكلفين تحت خانة الاختبار، فماذا عن الزلازل والكوارث التي تصيب الأطفال غير المكلفين أصلًا وتقتلهم، ما ذنب طفلة في الخامسة من عمرها أن يتهدم فوقها بناء ضخم يقتلها في الحال؟!
يمكن إدراج الإجابة السابقة في إمكان وجود حكمة متجاوزة لمداركنا، وإن كان العقل لا يحيط بذلك، ونستطيع أن نقول أن الاطراد السنني شرط ليكون العالم مسرحًا أخلاقيًا للتفاضل، وقد يقال أن في ذلك بلاء لآبائهم، وفي طبيعة الحال العالم الإلحادي لا يتمخض عنه اعتراض من هذا القبيل؛ لأنه عبثي لا اكتراثي من حيث الأصل.
لكن من منظور إسلامي: فليس هناك شر مجانًا، بل الصحيح أنه خير مجانًا! فغير المكلف من أطفال المسلمين وغير المسلمين هو من أهل الجنة خالدين فيها أبدًا، كما نقل الإمام ابن حزم أن ذلك هو قول جمهور العلماء، والتعويض الإلهي يقوّض أي أساس للشر في هذا العالم المتناهي.
بل إن النظر إلى الوجود ككيان ممتد لا ينتهي بانقضاء الموت ولا حياة آخرة بعده سيضعنا في كون يتساوى فيه القاتل والمقتول، والمغتصِب والمغتصَب، والمبتلى والمعافى، وكذا الظالم والمظلوم. فالجلاد والضحية سيان في المآل والمصير، فأي معنى للعدالة الإلهية سيبقى في هذا الكون؟!
تلك الرؤية الربوبية المختزلة هي رأس الاستشكال ووقود الارتياب الذي يدفع البعض للكفر بهذا الإله، فهو قد ينكر وجود الله إما سخطًا و تمردًا على هذا الإله غير العادل، أو لانعدام أي معنى أو باعث يدفعه للإيمان به، فكأن إقراره به من عدمه لن يغير شيئًا من حقيقة الشرور التي تجتاح العالم، لأنه عاجز عن تقديم أي إجابة شافية، فلا غرابة أن يخبو الإيمان و يتلاشى.
“كيف يمكن لله أن يأذن بمعاناة الأبرياء في هذا العالم؟” هكذا سأل الدبلوماسي السويسري المسلم (تشارلز لي غاي إيتون) نفسه؟ فكانت إجابته الجميلة اختصارًا لكل شيء:
“استيقظ شخص ما من كابوس مليء بالرعب والعذاب ليجد نفسه في منزله إلى جانب أحبابه، وأشعة الشمس مشرقة عبر النافذة، ولا زال أمامه أيام مشرقة يعيشها ويُشبع فيها أعمق رغباته، فكم من الوقت سيتذكر فيه ألم حلمه؟ بالمقابل إنْ أوقِظ من حلم سعيد مليء بالبهجة والسرور ليجد نفسه في زنزانة سجنٍ مألوفة له، ينتظر الحصة التالية من العذاب على أيدي مُستجوبِين عديمي الرحمة دون أدنى أمل، فهنا ستذوب وتتبدد سعادة الحلم في لحظات. سواء كان الحلم حُلوًا أم مرًّا، تظل الحقيقة مقدمة على الحلم، والحقيقة الأعظم مقدمة على الأدنى منها”.