البجعةُ السوداء، ومشكلة الاستقراء العلمي – محمد أمين خلال
«إذا قمنا بتعريض قطعة حديد لدرجة معينة من الحرارة، فإنها تتمدد.»
نقوم بتكرار هذه العملية على قطعة أخرى، فتتمدد مجددًا، ثم على مئات القطع، فتتمدد مجددًا، فنستنتج أن: الحديد يتمدد بالحرارة.
هذه تسمى نتيجة علمية تجريبية، حصلنا عليها بواسطة الملاحظة والتجربة، أو بالأحرى: بواسطة الاستقراء العلمي.
والاستقراء ينبني على بناء حكمٍ كلي وتعميمه، بناءً على ثبوت ذلك الحكم في جزئيات ذلك الكلي.
فنحن لم نُخضِع جميع الحديد الموجود في الكون للملاحظة والتجربة، لكننا مع ذلك نعرف أنه يتمدد، بناءً على ثبوت هذه النتيجة (التمدد) في جزئيات الأمر المدروس (بعض قطع الحديد المعرض للحرارة).
وهذا هو المنهج الذي جاء به (فرانسيس بيكون) في القرن السابع عشر وتأسس عليه منهج العلم التجريبي، إذ الطريقة التي كانت مُتبعة قبل فرانسيس بيكون، هي الطريقة الاستنباطية المنطقية، وصورتها كالآتي:
• كل الحديد يتمدد بالحرارة
• المسدس حديد
• إذن، المسدس يتمدد بالحرارة
والفرق بين هذه النتيجة والنتيجة الاستقرائية أننا توصلنا للأولى عن طريق الملاحظة الجزئية ثم قمنا بتعميم الحكم، بينما في الطريقة المنطقية (القياسية) انطلقنا أصلًا من مقدمة تسليمية، والنتيجة التي حصلناها كانت أصلا مُضَمَّنة في النتيجة، فهي لا تقدم جديدًا أصلًا، لكنها تضمن صحة النتيجة إذا كانت مقدمتها صحيحة.
ومن هنا وجه فرانسيس بيكون نقده اللاذع للاستنباط المنطقي، وكذلك فعل الفيلسوف الفرنسي (رينيه ديكارت) وكذلك (جون سيوارت مل)، وغيره من التجريبيين.
وقد تنبه الفيلسوف (برتراند راسل) لهذا الصراع المرير الذي احتدم ساعتها بين الاستنباط المنطقي والاستقراء التجريبي، فقال قولته الشهيرة:
“لم يكن الصراع بين (غاليليو) ومحاكم التفتيش صراعًا بين الفكر الحر والتعصب، أو بين العلم والدين، بل كان صراعًا بين الاستنباط والاستقراء”.
لكن ما مدى قوة هذا المنهج الاستقرائي؟ هل هو فعلًا يقوم مقام الاستنباط المنطقي؟ وهل هو تجريبي محض؟ وهل نتائجه قطعية الصحة؟
الحقيقة أن الاستقراء كغيره من مناهج البحث والاستنتاج، لا ينفرد عنها بعصمةٍ ولا كمال، ويمكننا نقده من وجوه عديدة، نذكر منها ثلاثًا في هذا المقال:
• أولًا:
أن الاستقراء ليس منهجًا تجريبيًا محضًا، بل يقوم بعد الملاحظة على التعميم، ثم على افتراض الاطراد في الطبيعة، أي أننا بعد أن نلاحظ أن هذه القطع من الحديد تمددت بفعل الحرارة، نقوم بتعميم ذلك على كل قطع الحديد في الكون، ثم نفترض اطراد هذه الخاصية على كل قطع الحديد في الماضي والمستقبل، ومن الواضح أن هذا تسليمٌ غيبي، وافتراضٌ عقلي بعيد عن التجربة والاختبار الحِسِّيَّين، ولا يوجد لازم يقول بضرورة حدوث هذا الاطراد في الطبيعة، بل يُشَبِه (برتراند راسل) اعتقاد هؤلاء الاستقرائيين بدجاجةٍ تعتقد أن مُربِّيها جاء اليوم ليطعمها، لأنه يفعل ذلك كل يوم، فظنت أن فعله هذا سيطَّرد، بينما قد جاء اليوم ليذبحها!
• ثانيًا:
أن هذا التعميم الاستقرائي سهل النقد والنقض، إذ النتيجة التي تقول إن كل البجع أبيض، يكفي فيها ظهور بجعة واحدة سوداء لنقضها، وقد حصل هذا فعلًا.
• ثالثًا: أن من بين الفلاسفة مثل (بير دوهيم)، و(ديفيد هيوم)، من يطعن ويشكك في هذا المنهج لقصوره، خصوصًا بعض المُحدَثين من فلاسفة العلم مثل (باول فيرابند)، و(كارل بوبر) الذي ينتقد الاستقراء باعتباره هو المنهج التجريبي المزعوم، ويعتبر أنه لا يوجد شيء أصلًا يبدأ من الملاحظة في المنهج التجريبي، بل (الافتراض العقلي) هو الأساس، يقول في ذلك: “المذهب السائد هذه الأيام، والقائل إن الاستدلال الاستقرائي يمكن أن يصل لدرجة ما من الموثوقية، أمر شائع في الآونة الأخيرة، رغم أنه ليس صحيحا تمامًا”.
والخلاصة أن الاستقراء نافع في بعض الأبواب، قاصر في أخرى، شأنه في ذلك شأن الاستنباط المنطقي، وشأن الخبر الغيبي، إذ مناهج الحصول على الحقائق متعددة ومتنوعة، ولكل منها مجاله وحدوده، وليست مقصورة ولا محصورة في المنهج الاستقراء كما زعم غلاة المنهج العلمي.
تجدر الإشارة في الأخير إلى ملحوظتين:
• أولًا:
ليس (فرانسيس بيكون) أول من أسس للمنهج الاستقرائي كما هو شائع، بل كان موجودًا في جل العصور والحضارات، لكنه لم يكن بدرجة قُوَّته في عهد بيكون، خصوصًا مع اقترانه بنهضة العلوم التجريبية.
• ثانيًا:
ليس بيكون ولا ديكارت أول من نقد المنطق الأرسطي والاستنباط القياسي نقدا علميًا، بل المُسلِمون أول من فعل، كنقد (السهروردي) له، وكذلك نقد (ابن تيمية الحرَّاني) له، وكُتبه شاهدة على ذلك، والتي من أشهرها “الرد على المنطقيين”.
بقلم/ محمد أمين خلال