السيرة الإعجازية
أبو سفيان ..
صخر بن حرب ..
يحكى أنه وقف ذات يوم موقفًا مهيبًا بين يدي هرقل.. قيصر الروم.. كان يسأله عن ذلك النبي الذي ظهر في جزيرة العرب..
فكان مما قال له قيصر:
“وسألتك.. هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟!.. فذكرت أنْ لا.. فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله”!
إن الكذب على الناس قد يقع مرة أو مرتين، أما الذي يكذب على الله بادعاء النبوة فيحتاج إلى أن يكذب في اليوم مائة مرة!
يقول ابن أبي العز الحنفي: “النبوة إنما يدّعيها أصدق الصادقين، أو أكذب الكاذبين، ولا يلتبس هذا بهذا إلا على أجهل الجاهلين”!
يقول مارتن لوثر: “إن الكذب ككرة الثلج.. تكبر كلما دحرجتها”.
إن كرة صفات النبي -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله وأحواله ظلت تتدحرج بعد إرساله على أرض الزمان أكثر من عشرين سنة، فلم تزدد في أعين من حوله إلا نقاءً وجمالًا وصدقًا.. أصحابه وأهله وأعدائه كذلك.
1- التحول المُعجِز
لقد مكث النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة أربعين عامًا يتقلب في حياة هانئة.. لا يفتقر إلى مال.. ولا ينقصه شرف ولا حسب.. وكان مع ذلك رجلًا بسيطًا معروفًا بالصدق والأمانة ومكارم الأخلاق.. راعي غنم ثم تاجر.. لا يُعرف بالشعر أو الخطابة.. ولا دراية له بعلوم أهل الكتاب أو حكمة فارس والروم.. ولا باع له في السياسة وأمور الحرب.. وإنما كان يميل إلى العزلة والهدوء.
ثم بين ليلة وضحاها.. أخبر قومه أن الله أوحى إليه برسالة من السماء.. جاءهم بقرآن سبى عقولهم وغزا قلوبهم.. ربّى أجيالًا وغيّر نفوسًا وعقولًا.. أتى بأعظم التشريعات وأحكمها.. فتح البلاد والأفئدة.. آمن به وخضع له ألوف كثيرة من أعقل الخلق وأعرفهم بمعادن الناس.. على اختلاف مشاربهم وتنوع ثقافاتهم وتباين طبائعهم.
2- لماذا يكذب الرجل؟!
إن سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وشمائله وأحواله من أعظم الأدلة على صدقه وثبوت نبوته..
لماذا يدّعي رجلٌ ما النبوة؟!
أيدعي الرجل النبوة لأجل المال؟!
لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أزهد الناس في الدنيا وزينتها.. كان أجود الخلق بكل ما في يديه.. كان يُعطي عطاء من لا يخشى الفقر على الرغم من غرقه فيه.. كان يُرى وهو يلتوي من الجوع.. وكان يُرى وهو يقترض.. ربط على بطنه من الجوع حجرًا وهو يقاتل حاملًا لواء رسالته.. كانت تمر الأهلة وليس في بيوته كلها إلا الماء والتمر.. لم يترك لأهله بعد مماته شيئًا.. بل قُبض ودرعه مرهونة عند يهودي من أجل شعير يُطعم به أهله.. كان ينام على وسادة حشوها ليف.. وعلى حصير يؤثر في جنبه..
ولما تأسف عمر -رضي الله عنه- لحاله وقارنه بحال كسرى وقيصر قال له: “يا ابن الخطاب .. أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟!”
أيدعي الرجل النبوة لأجل السلطان والمُلك؟!
لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أخفض الناس جناحًا وأسمحهم نفسًا وأشدهم تواضعًا..
يقول لأصحابه: “لا تُطرُوني كما أطرَتِ النَّصارى عيسى ابنَ مريمَ.. فإنَّما أنا عبدٌ.. فقولوا: عبدُ اللهِ ورسولُه”.
هابه رجلٌ يومًا، فقال له: “هَوِّنْ عليك.. فإني لستُ بملِكٍ.. إنما أنا ابنُ امرأةٍ من قريشٍ كانت تأكلُ القَديدَ”.
كان يلاعب الصبيان ويمشي مع الناس في حوائجهم.. يجالس المساكين ويصاحب المستضعفين.. كان يخدم أهله ونفسه بنفسه.. يخصف النعل ويرقع الثوب ويحلب الشاة ويعلف البعير..
يأتيه أعرابي فيجذبه من ردائه بشدة حتى يؤثر الثوب في جسده ويقول له: “يا محمَّد! مُرْ لي مِن مال الله الذي عندك!”.. فيضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- ويعطيه مالًا!
يأتيه أعرابيٌ آخر ويطلب دينًا له عنده ويُغلظ في الكلام.. فيهم به أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-.. فيقول: “دعوه، فإن لصاحب الحق مقالًا!”
وحشي بن حرب.. قاتل عمه حمزة الذي كان أحب الناس إليه.. يأتيه تائبًا مسلمًا.. فلا يملك أن ينتقم منه أو أن يرد إسلامه على ما في قلبه من ألم.
أيدعي الرجل النبوة لأجل الراحة والسلام وكسب الناس؟!
لقد عادى النبي -صلى الله عليه وسلم- بدعوته العرب والعجم.. أهل الكتاب وعُبّاد الأصنام وأصحاب الملل وذوي النفوذ والمصالح السياسية.. رماه الجميع عن قوسٍ واحدة.. قاطعه قومه وحاربوه.. حُوصر هو وأهله وأصحابه حتى افترشوا التراب وأكلوا الحصى وورق الشجر.. عُذّب أتباعه وأحباؤه أمام عينيه أشد التعذيب.. طُلّقت ابنتاه.. قوتل وأوذي وسال الدم على جسده أكثر من مرة..
كان يتّبع الناس في مجامعهم ويقول لهم: “من يُؤويني من ينصُرني حتى أُبَلِّغَ رسالةَ ربي وله الجنةُ”.. فلا يجد أحدًا.. بل كان قومه يتهمونه بأشنع التهم ويشيرون إليه بالأصابع وهو يسير بين رحالهم ..
أُخرج من بلاده التي هي أحب بلاد الله إلى قلبه..
لم يكن عليه إلا أن يتراجع ولو خطوة واحدة ليُعامل بالنقيض تمامًا..
عاش حياته يجاهد نهارًا ثم يصلي إذا جن الليل حتى تتفطر قدماه..
3- أصدق الصادقين
لقد جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- من معاني الإخلاص والصدق والشرف والنُبل والمروءة والشجاعة والكرم والحلم والحياء والتواضع والتأييد الإلهي ما يستحيل معه أن يكون أكذب الكاذبين، وما يُتيقن معه أنه أصدق الصادقين..
ما أصدق كلمة ذلك المستشرق المعاصر غير المسلم.. بوسورث سميث.. إذ يقول عن النبي -صلى الله عليه وسلم-:
“لقد كان قيصر والبابا معًا.. لكنه كان البابا دون دعاوى البابا.. وكان قيصر دون فيالق قيصر.. ودون جيشه المتأهب، ودون حرسه، ودون قصره، ودون راتبه الثابت.. وإذا حُق لأي أحد أن يحكم بالحق الإلهي فسيكون محمدًا.. لأنه كان يملك كل السلطة دون أدواتها ولا معوناتها”.