عواقب!
في 1952 كتب الأديب الأمريكي (راي برادبوري) قصة شهيرة بعنوان (صوت الرعد)، فيه تحكي عن التقدم التكنولوجي في 2055 حيث يصبح السفر عبر الزمن ممكنًا، فتعود مجموعة من الصيادين إلى عصر الديناصورات على أمل اصطياد التي ركس الشهير. ولكن عند عودة البعثة بعد أن باءت بالفشل يكتشفون التغيرات التي حدثت في عالمهم، لم يعد الناس يتصرفون بذات الطريقة أو يتحدثون ذات اللغة، بل وتغيرت القيادة السياسية في البلد، وبات كل شيء مختلفًا، وحينها يرفع أحدهم حذاءه ليكتشف أنه دهس عن غير قصد في رحلته فراشة كانت تعيش من ملايين السنين!
من الصعب تخيل أن موت فراشة من عدة ملايين من السنين سوف يؤدي إلى اختلاف في طبائع أو لغة الناس في العصر الحالي، ولكن (برادبوري) لم يكن أحمق تمامًا، فيعرف علماء الفيزياء مصطلح (تأثير الفراشة) والذي يحكي عن حساسية وأهمية حدث ما في الظروف الأولية المحيطة به، وهي أحد التطبيقات المهمة لنظرية الفوضى Chaos Theory وبرغم أن المجال الأساسي لها يتعلق بحركة المناخ إلا أن أكبر أمثلتها التطبيقية تكون في مجال الاقتصاد والأسهم والأموال كالعادة.
لفهم ذلك يمكن النظر إلى هذا المثال التقريبي: تخيل أنك على قمة أحد الجبال وقمت بدحرجة كرتين، وأنت على هذه القمة ربما لن يختلف كثيرًا دحرجتك للكرة الأولى في الاتجاه الرأسي تمامًا (عند رأس الساعة 12 مثلًا) والثانية بشكل يميل قليلًا على يمين الاتجاه الرأسي (عند رأس الساعة 1 مثلًا). الفرق هنا ليس كبيرًا، مجرد بضعة سنتيمترات. ولكن ما إن تصل الكرتان إلى سفح الجبل يمكنك أن تلاحظ الفرق الكبير بينهما، يمكن لواحدة أن تذهب إلى مدينة والأخرى في مدينة ثانية!
لا يمكن التنبؤ بسلسلة العواقب لحدث ما في لحظة زمنية ابتدائية، ولا يوجد فعل لا تنبني عليه عواقبه، وإذا ظننتَ أن هذا الفعل أبتر عن العواقب فأنت لم تنظر بعد في نفسك أنت!
كم مرة شعرت من داخلك ببوصلة داخلية تخبرك بالاتجاه الشعوري أو القِيَمي للكيفية التي ترى أنها يجب أن تسير بها الأمور؟! إن جميعنا يحكم بسهولة على كل أحداث الحياة بنظرة ذاتية خاصة، ولكن من أين أتت؟ وكيف تكونت لدينا هذه الملكة وهذه القدرة على وزن كل الأمور السائلة في معيار نظن أنه دقيق تمامًا ولكنه يبقى دائمًا وأبدًا مرهونًا بنظرتنا الداخلية، ويستمد توازنه من إبهامنا المتمركز على رمانته!
الله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا، فكيف لنا بكل هذه الصوائبية المزعومة وحكمنا الرائع على أفعالنا وأفعال الآخرين!
ربما أفعالنا التي قمنا بها على مدار سنين حياتنا المنقضية لم تكن خالية من العواقب، ربما كانت تترسب كل هذه العواقب في قرارة أنفسنا صانعة الإناء الذي سوف تتشكل به الروح والقالب الذي سوف نتقولب به إلى أن يشاء الله!
كان عملاق التحليل النفسي (كارل يونج) يقول: “أعمالنا وأفكارنا ونياتنا الخاطئة سوف ترد بانتقامها على أرواحنا في النهاية”، وربما لذلك قال (شداد): “إذا رأيتَ الرجل في طاعة الله فاعلَم أنَّ عنده أخَواتِها، وإذا رأيتَ الرجل في معصية الله فاعلم أن عنده أخواتِها”، وأجمل من كل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: “فإن الصدق يَهدي إلى البر، وإن البرَّ يَهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يَصدُق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صدِّيقًا”.
من جديد تعود وتسأل نفسك: أين ذهبت كل هذه العواقب على أفعالي الشريرة؟ الكرات التي دحرجتها من قمة الجبل في صباح اليوم ومنذ شهور ومنذ عدة سنين وفي ذلك اليوم البعيد الذي عصيت الله فيه وأنا بعد لا أزال صغيرًا. أين سأجد هذه الكرات؟ ما تأثير قتلي للفراشة؟ وما يا ترى كان سيكون حال إيماني ونقاء قلبي وحسن سريرتي وانصلاح حالي وسواء نفسي وانشراح صدري لو لم تكن حياتي مليئة بالكرات المدحرجة في كل مكان من عواقب أفعالي التي عادت ووجدت طريقًا للانتقام من روحي بطريقة ما؟
هنا يأتيك اسم الله العفوّ ليخبرك بأنه ليس عليك أن تقلق من كل هذا!
العفوّ ليس هو من يستر الذنب أو يمنع عنك عقوبته فحسب، ولكنه يمحوه تمامًا، وبذات الطريقة التي تعفو بها الرياح أثر الأقدام على الرمال فيذهب أي دليل عليها!
العفوّ لا يمحو ذنبك من صحيفتك فحسب ولكنه يمحوه من تاريخك بأكمله، تختفي الكرة قبل أن تكمل تدحرجها، وترفع قدمك فلا ترى أي أثر لفراشة دهستها وتتعذب بعواقبها دون أن تدري.
العفوّ يريد لك أن تعيش في كل يوم وفي كل ليلة حياة جديدة وكأنك وُلِدتَ توًا، وأن تخرج من القطار المتجه رغمًا عنك إلى محطة لا تريدها، ولكنك قطعت تذكرته في لحظة غفلة لم تعد تريد الآن التقيد بمصيرها.
العفوّ لا يريد منك أن تتألم أو تتعذب بذنبك لا في دنيا ولا في آخرة، لا مزيد من نغزات الصدور الغامضة التي تقرصك في ليلة هادئة فلا تدري من أي باب انفتح عليك به كل هذا الحزن، لا مزيد من قولبة الروح في إطارات مادية ضيقة تشكلت في كل إرادة دنيا أتبعت هواك فيها، لا مزيد من كل هذا إن نالك من عفو الله ما يمحو الله به ذنبك ويمحو معه كل العواقب.
وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها، قالَتْ: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، أرَأيْتَ إنْ عَلِمْتُ أيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، مَا أقُولُ فِيها؟ قَالَ: “قُولي: اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي”.