بيني وبينكم 2012

بينى وبينكم 2012 الحلقة السابعة والعشرون سيكولوجية الانسان الملحد ج 3

 

سيكولوجية الانسان الملحد ج3

قلتُ: دعنا نخوض غمار موضوع التعصب، انطلاقاً من كتابك: التربية الدينية في المجتمع السعودي، فالتعصب لا له جنسية على الإطلاق، فهو ليس سعودياً، ولا خليجياً، ولا عربياً، ولا أمريكياً….

وقد تكلمنا عن أثر التدين الخاطئ في إيجاد جيل متمرد على الدين، ليس لأن لديه موقفاً عدائياً من الدين، وإنما لموقفه من التدين الخاطئ، أو القاسي، أو الاختزالي، وقد تكلمت في كتابك عن عناصر كثيرة في مقومات التعصب، لكنك فاجأت القارئ بالحديث عن التعصب الإيجابي، في مقابل التعصب السلبي!!

فهؤلاء الذين تمردوا على الدين بالإلحاد، أو التشكيك، كانوا نتاج تعصب سلبي بلا شك، فما هو التعصب الإيجابي إذن؟

فقال: التعصب السلبي يكون ضد، والتعصب الإيجابي يكون مع، هذا باختصار شديد.

فكلمة إيجابي هنا ليست بالمعنى العربي الدارج بمعنى جيد، أو مقبول! وإنما بمعنى:(Positive)  بالإنجليزية، والسلبي بمعنى:negative) )، فالتعصب الإيجابي معناه أن أتعصب مع فلان، سواءً كان جيداً، أو غير جيد، والسلبي أن أتعصب ضد فلان، سواءً كان جيداً، أو غير جيد.

قلتُ: كلام جميل؛ وهذا موافق لما كنتُ قرأته كذلك في كتاب: علم النفس الاجتماعي، للدكتور حامد زهران.

بل إنني أذكر مثالاً على قضية التعصب ليس في زمننا هذا، بل في العصور السابقة، والقرون الماضية، فنجد أن ابن رشد الفيلسوف الكبير في دفاعه عن الفلاسفة اليونان، ضد أبي حامد الغزالي في كتابه (تهافت التهافت)، يتعصب لهم كتبرئة لهم مما وصفهم به أبو حامد الغزالي!! فجاء ابن تيمية في كتابه: (درأ تعارض العقل والنقل)، وقال: وابن رشد يتعصب للفلاسفة، فقوله عنهم في الإرادة كقوله عنهم في العلم….الخ ما قاله.

الشاهد أن التعصب وجد في عصر مبكر!!

والسؤال: أيهما أخطر؟! وهل هناك مقارنات بين التعصبين في النتيجة؟!

فقال: التعصب شيء مبكر منذ بداية الإنسان حينما خلق، وليس بطارئ في عهد فلان أو علان، إلا أن هذه المفردة بدأت تستخدم في وقتنا الحاضر بشكل أكبر؛ لكثرة وسائل الاتصال، وانتشارها، فبدأت المفردات التي تجد قبولاً الآن تنتشر أكثر.

الأمر الآخر: جاءت المفردة الدينية للتعصب بلفظ: التطرف، ويقصد بها الأخذ بالحد الأعلى، أو الغلو، الذي هو تدمير الآخر، فإذا جئنا للتعصب عند جولدن أوربرت، وجدنا لديه مقياساً للتعصب أو التطرف على خمس درجات، وقد يفاجئك هذا المقياس، ويضيق صدرك، ولا ينطلق لسانك به، كما ضاق صدري ولم ينطلق لساني به حينما قرأته أول مرة!!

جولدن أوربرت في عام 1962 وضع مقياساً للتعصب، على درجات:

الدرجة الأولى: الامتناع عن التعبير خارج الجماعة، فمثلاً: أنا متعصب لفلان، فأنا ﻻ أريد فلاناً، لكنني لا أتكلم عنهم.

الدرجة الثانية: أنني أبدأ تجنب أتباع فلان، وأفراده!

(عيال العوضي وهذه موجودة كثيرة، تبي تسافر مع واحد من جماعتك، وإﻻ واحد من عيال العوضي، واحد من شلتك أو فريقك وإﻻ واحد من كذا وكذا     .

ﻻء… واحد من فريقي ليس لأنك تحبه، ولكن لأنك متعصب له)

الدرجة الثالثة: التمييز. فلو كنتُ موظفاً حكومياً، وجاءني شخص ممن أتعصب له، وآخر ممن أبغضه، فلا شك أنني أقدم الذي أحبه، وأتعصب له، على الآخر، ولو كان الحق للآخر!!

هذه ثلاث درجات موجودة في المجتمع العربي تحديداً بشكل كامل!

الدرجة الرابعة: الهجوم الجسماني، أي أن أهجم على غيري.

الدرجة الخامسة: الإثناء والإبادة.

إذن الشاب المتطرف الذي يحمل فكراً خاطئاً توجد لديه الدرجات الخمس، أما بقية الناس فلديهم ثلاث من خمس درجات كحد أدنى، وقد ترتفع إلى أربع درجات، هذا في الإنسان الطبيعي، وأما الإنسان المتطرف فلديه الدرجات الخمس كاملة!

ولذلك أقول للسياسيين في الخليج: إن الشعب الخليجي يحمل أربع درجات من التعصب في أغلب أحواله من خمسة، فهي إذن تركة واحدة، أن يكون متطرفاً، هذا الكلام من الرؤية النفسية.

ولذلك لزاماً علينا أن نعيد الإنسان الخليجي لأنه ربما الأقرب في محط حوارنا قرب هذا الكتاب وأن ننزل في عملية التعصب، ويجب أن نقوم بعملية تطهير من المناصب والمواقع لأي مسؤول يقوم بتمييز قومه وجماعته عن غيرهم، حتى نخفف الدرجة الثالثة.

وأما الامتناع عن التعبير خارج الجماعة، فإننا إذا استطعنا أن نخلط مجتمعاتنا بغيرها، وأن نفرق الأسرة عن بعضها في التعيين والمسؤوليات؛ فهذا أمر حسن مطلوب، لأن الأصل في الإنسان أن ينتمي إلى وطنه، ولكن لماذا ﻻ ينتمي الناس لأوطانها بمقدار انتمائهم لقبائلهم؟

الجواب: لأن القبيلة، أو المنطقة، أو العرق، أو غيره، أقوى في حسه من الوطن، ولذا لزاماً على السياسيين أن يرفعوا حس الوطن فوق القبيلة، وتبقى القبيلة باحترامها؛ ولكن ﻻ تكون لها القداسة، بل تكون القداسة للدين، والوطن، وبهذا يجتمع الناس، وبهذا نقضي على بعض درجات مقياس جولدن أوربرت في مسألة التطرف والتعصب.

قلتُ: ونحن نتكلم عن المواقف العنيفة ضد الدين: نعلم ونوقن أن التعصب مفردة التصقت بالدين أكثر، ونبت منها كلمة التطرف، ولكن لم يكن متوقعاً أن يوجد تعصب علمي، وتعصب علماني، وتعصب ليبرالي شرس…

سؤالي: لماذا يكون الموقف من الدين أعنف في مجتمعات دينية متعصبة، أو بيئات دينية متعصبة أكثر من الإلحاد في بيئة منفتحة، فالإلحاد الذي يصدر من شخص كان من أسرة متعصبة، أو من قرية متعصبة، أو من مدينة متعصبة، يكون شرساً!! كيف تفسر هذا؟

فقال: هذا أمر بسيط جداً، فإذا جئت إلى الأبحاث العلمية التي تحدثت عن التعصب، وعلاقته بالدين،   نجدها انقسمت إلى ثلاث مجموعات:

المجموعة الأولى: قالت: إن الدين يؤدي إلى التعصب بطبعه، فالمتدينون يقودهم دينهم إلى التعصب!

المجموعة الثانية: عكس الفرضية الأولى، فالذين لديهم قابلية للتعصب هؤﻻء هم الذين يتجهون إلى الدين أي.

المجموعة الثالثة: تقول: إن التعصب والتدين هما نسقان مختلفان، استجابة لأنساق مجتمعية مختلفة.

وهذا الذي أؤمن به، في طريقة تشكل الإنسان. فطريقة التدين عند الإنسان هي انصياع لنسق مجتمعي، فطريقة تربية والداي لي، وكذا طريقة تديني، أو حياتي، هي انسياق لطبيعة ذلك المجتمع أو حياته.

إذن ليس عامل أن هذا سبباً، وهذا أثر أو هذا سبباً وذلك أثر هذه الأبحاث نقدها الباحثون لماذا؟

لأن هذه الأبحاث أغلبها قامت على ديانة واحدة، ألا وهي الديانة المسيحية، ولم تقم على بقية الديانات: كالهندوسية، والبوذية، والإسلامية، ولذلك انتقادها ربما ينفع لشيء، ولكنها ﻻ تنفع لشيء آخر، ومع أن الذي قام بهذه الأبحاث مجموعة من الباحثين المميزين في هذا الشأن، إلا أنها كانت مسيسة بعض الشيء.

إذا جئنا إلى الإلحاد: كيف لإنسان في بيئة متعصبة دينياً يكون شرساً في الإلحاد؟!!

من وجهة نظري أن الذي نشأ في بيئة متعصبة دينياً يجب أن يكون شرساً إذا ألحد، وأن ﻻ يكون هيناً، هذا هو الأصل! بخلاف لو كان من مجتمع متدين تديناً راقياً محترماً، وهذا الإنسان لم يعجبه الدين، فإنه إذا ألحد، فإنه يكون ناعماً في إلحاده، وليس صدامياً!!

ومن هنا أقول: إذا جاءني إنسان ملحد، أو قابلته، فيجب أن أفرق بين نوعين:

النوع الأول: ذلك الإنسان الذي يتكلم عن فكرته، ويقول رأيه بلا انفعال، أو صدام.

النوع الثاني: أن يكون شرساً وهو يتكلم بفكرته.

الإشكالية في مشايخنا ودعاتنا الكرام أنهم يعاملون الأول والثاني بالطريقة نفسها، وهذا خطأ بلا شك، فما كان لهذا أن يعامل بذات الطريقة التي يعامل بها ذاك؛ لأن الأول فكرة، والثاني انفعال! هذا أولاً.

ثانياً: أن ما صدر منه كان انفعالاً له حاجة نفسية لم تُعبأ بطريقة صحيحة، فقام بتعبئتها عن طريق معارضة الدين من حيث ﻻ يشعر ذلك الإنسان، ولذا كان لزاماً علينا أن نعبئ انفعالاته، ولذلك تجد بعض الملحدين في الجلسات الطيبة، والحديث الودي، ودون الدخول معه في نقاش حول فكرته، إذا به يسكن، ويهدأ، ويبدأ يزورك كثيراً؛ لأن هذا من النوع الانفعالي!

أما النوع الفكري فلو مارست معه كل أنواع الحب، والتلطف، واللين، فإنه ﻻ يتقدم ولا يتأخر، ولا يكون ذلك إلا بالحوار!

إذن يجب أن نفرق بين هذا، وذاك، حتى على مستوى مفكّرينا ودعاتنا!

فالواجب على الدعاة، وأصحاب النفوس الطيبة، أن يختلطوا بالنوع الانفعالي، لكنهم ﻻ يحاورونهم! وإنما من باب المؤانسة، والراحة، ثم يأتي دور أطباء النفس في تحديد أسباب ذلك الانفعال، ومعالجة أسبابه.

أما النوع الفكري فلا مكان للطبيب النفسي فيه، لأنه خلل فكري في طريقة تناول المشكلة، وهذا دور المفكر الإسلامي، فهي منطقته، وليست منطقتي كطبيب نفسي.

قلتُ: لا شك أن هذا التقسيم منطقي جدًّا، ولا بد من التفريق بين النوعين في التعامل، لأن فكر الأول يختلف عن فكر الثاني.

فقال: هذه الإشكالية جاءت من بنية الإنسان العربي، فهو في الغالب يلجأ إلى أسلوب العموميات؛ كي يتخلص من الآخر، لأن أسلوب التصنيفات يطلب منه عقلاً تصنيفياً، ويطلب منه علماً قد يفتقده هو، فيلجأ إلى العموميات لكي يسقط الآخر.

قلتُ:    ولذلك فهذه العموميات وقعت من العقل الإسلامي، والعقل الليبرالي، والعقل العلماني، والعقل الإلحادي في العالم العربي. أي أنها أخذت السمة نفسها، ولكنها تنوعت في قضية محتويات الانتماءات الفكرية لهذا وذاك.

فقال: ولذلك فكثير ممن يسمونهم علمانيين، هم في نظري ليسوا بعلمانيين، وكثير ممن يسمونهم متطرفين، هم ليسوا متطرفين.

ومن وجهة نظري أن العلماني الحقيقي نادر في الخليج!! وأما البقية ممن يُسمَّون علمانيين هم في الحقيقة غير متدينين، لكنهم لمّا لم يجدوا لهم تصنيفاً، سموهم علمانيين! فلأنه صريح السؤال، صريح النقد، سموه علمانياً! بل المتطرفون نادرون كذلك، فهم في أكثر أحوالهم متدينون يغارون على الدين جداً، ولذلك يخافون جدًّا، ولا يعرف الواحد منهم كيف يقدم طريقة الخوف، فظنوهم الناس حينما يدافعون ويشاتمون أنهم متطرفين، وليسوا من التطرف في شيء، والصواب أنه يجهل الآلة، ويجهل الوسيلة، ويجهل طريقة التفكير!

كان لزاماً على مناهج التعليم وغيرها، والمدربين وغيرهم، والوعاظ والمشايخ، بما فيهم أطباء النفس-إن كانوا مؤهلين- أن يتعاملوا مع هذا الفئة بالطريقة المثلى، ولذلك فإنني أؤكد وأقول: إنه ﻻ يصح لشيخ غير مؤهل أن يجلس مع شباب إرهابيين، ﻻ يجوز من وجهة نظر نفسية أن يجلس أمامهم إن لم يكن مؤهلاً في سيكولوجية الغلو؛ لأن بعضهم يذهب واعظاً لهم، ويكون تطرف الشخص الذي أمامه فكرياً، ولا ينفع الوعظ مع التطرف الفكري، وكذلك لا يصح لطبيب نفسي، لم يعرف سيكولوجية المراهقة، وليس له أبحاث ودراسات في سيكولوجية التطرف، أن يجلس ويناصح شباب الإرهاب.

قلتُ: هذا أمر مهم للغاية أن نحترم التخصص، خاصة في عصر التعقيد النفسي، وشبكة العلاقات المتراكمة، المتداخلة الغامضة، التي تتسرب في قاع النفس، وتحتاج من يستخرجها، فيظن البعض أنه قد حاز العلوم كلها، وأنه يحسن الكلام في كل فن، وهذه كارثة بحد ذاتها.

وها هنا تعليق على أمور ذكرتَها:

الأمر الأول: عندما تحدثتَ عن وصف فلان أنه علماني؛ لأنه غير متدين مثلاً، أو لأن لديه موقفاً معيناً، هذا خطأ، وكذلك وصف فلان أنه متطرف؛ لأن لديه بعض الحماس للدفاع عن دينه، وهذا خطأ كذلك، وفي رأيي أنه في كثير من الأحيان يكون لفلان موقف خاص من تيار إسلامي معين، أو من رمز إسلامي معين، فنبدأ الهجوم حتى نخرجه من دائرة الحياد، إلى أن نضطره بموقفه النفسي للانتماء إلى تيار معين،  ويصبح خصماً رسمياً، بعد أن كان مخالفاً طبيعياً.

فقال: الإشكالية التي لا يلتفت لها الكثيرون هي في التصدر لريادة الناس، وهذه الريادة لها مطالب، فمن مطالب الريادة وعي مهارة التعامل مع الضغوط، فمثلاً: لنفرض أنني قلتُ فكرة جريئة، لم الشيخ الفلاني التقليدي مثلاً، فإذا افترضت في نفسي أنني رائد، فالواجب علي أن يكون لدي مهارة في التعامل مع الضغوط، فإذا شتمني فلان، أو انتقدني نقداً لاذعاً، فإنني بفن التعامل مع النقد الشديد، أستطيع أن أتعامل معه، وامتصاص غضبه.

فالريادة متطلب، وليست قلماً يكتب عموداً في صحيفة، وإنما الريادة هي إعداد نفسي، ولذلك من أراد أن يتصدر للناس، عليه أن يهيئ نفسه لتبعات ذلك.

الإشكالية حينما يهاجم الناس فلاناً، ذلك الإنسان عليه أن يختار إما أن ينتصر لنفسه، وإما أن ينتصر لمبدئه، فإذا انتصر لنفسه، وكله الله تعالى إليها، وإذا انتصر لمبدئه انتصر الله سبحانه وتعالى له.

الإشكالية التي تظهر واضحة عند الدعاة حينما تصدر منهم هفوات بسيطة، فإنهم ينتصرون لأنفسهم! ليس لأنهم غير مخلصين، بل لأنهم يجهلون قوانين الانتصار للمبادئ، مقارنة بقوانين الانتصار للأنفس، ففي لحظات الضعف البشري قد تتبعثر عند الإنسان مهارات التعامل مع الضغوط، ومن هنا يسقط في الطريق دعاة ومفكرون، كانوا يحملون فكراً ودعوة، ربما أكثر من أولئك الذين عاشوا فترة أطول منهم، ولكن أولئك يحملون مهارات أعلى.

قلتُ:  هذا كلام دقيق جدًّا.

الأمر الآخر الذي أودّ التعليق عليه: أنك ذكرتَ أنواع الملحدين، فمنهم من يكون إلحاده انفعالياً نفسياً، يعامل معاملة خاصة، ومنهم من يكون إلحاده فكرياً، له خطابه الخاص كذلك.

وهذا تقسيم جميل، ويمكن تقسيم الملحدين كذلك إلى أنواع:

  • هناك ملحد مشكلته مع الذات الإلهية والوجود.
  • هناك ملحد مشكلته مع الأفعال الإلهية، لماذا وجدت؟
  • هناك ملحد مشكلته مع الصفات الإلهية.
  • هناك ملحد مشكلته مع الأحكام الإلهية.
  • هناك ملحد مشكلة مع الجزاءات الإلهية.
  • هناك ملحد مشكلته مع مفهوم الكمال.

بمعنى أنهم ليسوا على قدم واحدة، وهم كذلك يتفاوتون في حساسيتهم النفسية، وأمزجتهم في الموقف الواحد، فكلما كان تشخيصنا أدق، كانت معرفتنا أشمل، إﻻ أن ثمة نوع من الإلحاد بدأ يظهر وينتشر، لا يجدي معه الحوار الجاد، أراه إلحاداً اختزالياً، سهلاً تافهاً جريئاً، عالي الصوت، ليس فيه أرضية مشتركة، تأتي تحاول محاورته في المقدمات العقلية، فإما أنه ﻻ يصبر على فهم المقدمات، وإما أنه يريد أن يصدك، وتسمع منه فقط، وهذا أصبحتُ أجده في أجيال صاعدة، وقد فسرتُ ذلك بأن جيل اﻻستهلاك، وجيل الشهوات، وجيل اللامسؤولية، وجيل ما يسميهم هابر ماس: بمدرسة البعد الواحد، فالألمان الذين نقدوا الرأسمالية، والمجتمع الصناعي الحديث، الذي يخرج إنساناً مرشداً موجهاً، يعيش قصة يومه الصغيرة، يستهلك وينتج، ويفكر في مادياته، هذا الإنسان الذي كان اقتصادياً، ثم صار جسمياً، ثم صار إنسان الأجهزة التناسلية، فلو أنه ألحد، فلا مشكلة في ذلك؛ لأنه مفرغ في الأصل ليس من القيم الدينية فحسب، وإنما من القيم الإنسانية كذلك، ويعيش لحظات يومه الغريزية، التافهة الصغيرة، ماذا تقول في هذا الكلام؟

فقال: في رأيي أﻻ نضيق الإلحاد فقط لأنه جاء لون جديد من الإلحاد بدأنا نضيق بهذا اللون، هذا لون من ألوان الإلحاد، لكنه أسهلها، فلو ملأنا شهوة هذا الشاب بزواج، أو بمتع مادية، فلربما يرجع عن إلحاده، ويصبح عابداً لله بطريقة أو بأخرى.

فالإلحاد ربما يكون في السلوك، وربما يكون في الفكر، وأحياناً  يكون في المشاعر!! وهذا يعتمد على طبيعة بنيتك النفسية، كما هو الحال في التدين، فقد يكون فكرياً، أو مشاعرياً، أو سلوكياً، فالإلحاد عبارة عن انتماء، كما هو التدين، فلذلك فيه بعد واسع، فتتغير مظاهر الإلحاد، ومظاهر ظهوره في المجتمعات، بحسب تحركاتها فيتشكل كذلك.

والإلحاد في باطنه واحد، ولكنه يختلف في طريقة التعبير عنه، كاختلاف الناس في طريقة اللبس، فهناك تغير في مفردة اللغة، وهناك تغير حضاري، أما بنية الإلحاد فهي واحدة، وهي البنية الثلاثية.

قلتُ: من خلال تخصصك الواقعي العملي، عندما يأتيني شاب لجوج جدلي، يحب الإطالة، والاستفاضة في الجدل، وﻻ يمرر الأمور بسهولة، ليس من باب العلم، وإنما لأن طبيعته جدلية، فمثل هذا الشاب المتدفق المتحمس، ما هي الطريقة المثلى في استيعابه؟

فقال: التقييم نوعان:

تقييم عرضي.

وتقييم طولي.

فالتقييم العرضي: مثاله: أنني أقابل فلاناً، ويبدو لي أنه كذا وكذا، ويده كذا، وقلمه كذا، وكتبه كذا، هذا التقييم العرضي، يمكن تسميته اللحظي، إن صحت العبارة.

وأما التقييم الطولي: ففلان كيف كان منذ سنوات؟ وما طريقة كلامه؟ وما طريقة تفكيره؟  وماطريقة تعاطيه مع الأمور؟ وكيف تعامله مع والديه، ومع أوﻻده، ومع الناس؟ وهكذا

فالمفكر يحتاج إلى التقييم الطولي ضرورياً في تعامله مع الشباب الملحدين أو غيرهم، لماذا؟!

لأنه يريد تقييم إلحاد ذلك الشخص، هل هو إلحاد من نوع الفكرة الطارئة؟ أم أنه مخزون ومركب نفسي عنده؟!!

ولذلك لو قابلتَ شاباً طبيعته هادئة، ساكناً، وفجأة بدأ يتكلم كثيراً، وينتقد كل شيء، فهذا ربما يكون مصاباً بحالة هوس! وهو نوع من الأمراض النفسية!

لأن صاحب إلحاد الفكرة الثابتة ﻻ يزيد كلامه، وﻻ اللجاجة! لماذا؟

لأن إلحاده عبارة عن فكرة مقتنع بها قناعة تامة!

فاحتمالية المرض النفسي في مثل حالة ذلك الشاب كمرض عابر عارض موجود وبقوة، وقد رأيت من هؤلاء الكثير. هذا نوع.

نوع آخر من هؤلاء: تجد في طفولته إشكاليات، لأسباب كثيرة مختلفة، فيكون متوتراً، مضطرباً مع نفسه، ومع زملائه، ومع مجتمعه، ثم تدريجياً بدأ يتبني فكر الإلحاد، فهذا يجب أن تعالج تفاعلاته النفسية.

نوع ثالث: ذاك الشاب المعتدل، والمعروف بعقله، وحكمته، ولكن بدأت تظهر لديه أفكار غريبة، هذه الأفكار ﻻ نقيمها بمعزل عن تصرفاته الحياتية الأخرى، طالما كانت سوية.

إذن هذا إلحاد فكرة، ومكانه مع المفكرين، وليس مع الأطباء النفسيين وغيرهم، يحاورونهم بلغة جدلية، كالتي كان يعيش عليها أئمة السلف، والحقيقة أن حوار أئمة السلف في السابق كان حواراً جدﻻً فكرياً، ولم يكن جدﻻً نفسياً، مع أن بعض الملحدين ربما كان يعاني من اضطراب نفسي، وهذا لا ينفعه الحوار الجدلي العقلي.

وأضرب على ذلك مثالاً يوضح المقصود:

فالنبي صل الله عليه وسلم أخبر أن ثلاثين من أمته سوف يدعون النبوة. والذين ادعوا النبوة عبر التاريخ كثر، قابلتُ من هؤلاء ما يزيد على الـ 300!! فهؤلاء أجزم أنهم كانوا من المرضى النفسيين، كالهوس، والبارانويا، وغيرها، وأما الثلاثون الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم فهؤلاء ادعاؤهم ادعاءً فكرياً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غلّظ القول عليهم.

إذن هنالك خلل فكري في طريقة التفكير يحاسب الإنسان عليه، وهناك مرض نفسي يصل بأثره إلى العقل، فلا يحاسب الإنسان عليه، ولو تبنى فكراً إلحادياً!! لأنه فكر مؤقت.

قلتُ: البعض من الشباب لا يشبع نهمته، ولا يروي ظمأه إلا الجدل العلمي المطول، وسوف أقرأ عليك نصاً لشيخ الإسلام في كتابه: الرد على المنطقيين يوضح فيه أن أمثال هؤلاء  لا يفيد معهم إلا التفصيل والشرح والبيان المستطرد، وهذا يبين أن علماءنا السابقين كانوا يتعاملون بالجانب العقلي، فيقول: المقدمات الخفية قد تنفع بعض الناس وفي المناظرة، ومع هذا فلما كان الجلاء والخفاء من الأمور النسبية، فقد ينتفع بالدليل الخفي، والحد الخفي، بعض الناس، وكثير من الناس إذا ذكر له الواضح لم يعبأ به، وقد لا يسلمه، حتى يذكر له دليل مستلزم ثبوته، فإنه يسلمه، وكذلك إذا ذكر له حد يميزه، وهذا في الغالب يكون من معاند، أو ممن تعودت نفسه أنها لا تعلم إلا ما تعنت عليه، وفكرت فيه، وانتقلت فيه من مقدمة إلى مقدمة، فإن العادة طبيعة ثانية، فكثير ممن تعود البحث والنظر، صارت عادة نفسه كالطبيعة له، لا يعرف، ولا يقبل، ولا يسلم، إلا ما حصل له بعد بحث ونظر، بل وجدل ومنع ومعارضة، فحينئذ يعرف به، ويقبله ويسلمه، وإن كان عند أكثر الناس من الأمور الواضحة البينة، لا تحتاج إلى بحث ونظر، فالطريق الطويلة، والمقدمات الخفية، التي يذكرها كثير من النظار تنفع لمثل هؤلاء في النظر، وتنفع في المناظرة، لقطع المعاند، وتبكيت الجاحد.

تعليقك على ذلك.

فقال: هذا مما يؤيد أن البعد النفسي الذي يتكلم به يصف سمات الشخصية القلقة، أو الشخصية الوسواسية، وكأنه يقرأ حرفياً في كتب الطب النفسي، فالشخصية الدقيقة جداً، التي تريد توضيحاً لكل شيء، وتتردد في فهم الأشياء، وعندها البطء الوسواسي، فهذه الشخصية تريد تفصيلاً، وتحتاج إلى المقدمات الطويلة، والتفصيل، هذا رأي الشيخ.

إلا أنني لا أوافق على ذلك!! لماذا؟

لأنك إن كنت صاحب شخصية دقيقة تفصيلية، وكان الذي يناقشك دقيقاً تفصيلياً كذلك، فإنه لن يشفي قلبك، بل إنه ربما يزيدني حيرة وشكًّا، لأن هذه الشخصية تتسم بعدم القدرة على اتخاذ القرار، والمناقِش له يتسم بعدم القدرة على اتخاذ القرار كذلك، والنتيجة بعثرَتُه بصورة أكبر، والصحيح من وجهة نظري أننا نحتاج إلى شخصيات أخرى تختلف في صفاتها وطبيعتها عن هذه الشخصية.

فأنا أختلف مع رأي الشيخ من البعد النفسي في آلية العلاج لمثل هذه الشخصية.

قلتُ: وهذا ما صنعه أرسطو في بداية حواره مع السفسطائيين الجدليين، الذين تخصصوا في المغالطة، فأسس علم المنطق.

فقال: من العجب أن ترى أناساً يقبلون المنطق من أرسطو، وﻻ يقبلون الدين من الله سبحانه وتعالى.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى