مقالات

لماذا لا ندعو لغير المسلم بالرحمة مع أن رحمته وسعت كل شيء؟

في كل حادثة يموت فيها أحد المشاهير من غير المسلمين، خاصةً إن كان ذا أثرًا حميدًا في الدنيا..

تعج مواقع التواصل الاجتماعي بالنزاعات بين فريقين متباينين: أولهما فريق يحمد لهذا المتوفى صنيعه في الدنيا، أو يسكت عنه، لكنه يرفض الترحم عليه..

وفريق آخر لا يكتفي بالصنيع الأول، بل يشفعه بسيل من الدعوات والاستغفار والترحم على المتوفى، حتى وإن كان على غير دينهم..

وبين الفريقين تدور النقاشات كما يرى جميعنا ويسمع..

وفي حين يبرهن الفريق الأول على موقفه بالأدلة النصية من الكتاب والسنة، والتي تمنع الترحم على المشركين والكفّار مهما بلغت محاسنهم الدنيوية..

نرى الفريق الثاني وقد فسّر موقفه برؤية تسامحية..

شديدة الإغفال للحكم الشرعي ولا تعوّل عليه في موقفها..

فيقول القائل: كيف لهذا الطبيب الذي أنقذ ملايين الأرواح أن يكون من أهل النار؟!

أو كيف لذلك الممثل الذي كفل عشرات الأسر والأيتام ألا تدخل الجنة؟!

الأمر الذي يدفعنا لتناوله على عدد من المستويات..

أولها هو المحور الذي ترتكز عليه حجة كل من الفريقين..

ثم النظر فيما إن كان أحدهما يقع بدعوته في تناقض منطقي..

فإذا رسخ الدليل أعملنا عقولنا..

وحاولنا معرفة السبب الذي يقوّي موقف الفريق الصحيح..

فما هو تفصيل ذلك؟

  1. طلب مرفوض

في كتابه العزيز، يخبرنا الله تعالى عن رحمته، في الآية الكريمة من سورة الأعراف، فيقول سبحانه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}..

وبهذه الآية يحتج المستغفرون لغير المسلمين بجواز طلب الرحمة لهم كما نطلب الرحمة للمسلم، فكلهم داخلون تحت رحمة الله التي تسع كل شيء..

لكننا لا نحتاج لقلب صفحة المصحف، أو حتى الانتقال للآية التالية، لنرى كلام الله الذي يوضّح لنا: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}..

وحتى لا يجنح البعض لتأويل المعنى المقصود، تأتي الآية التالية لتبيّن ماهية هؤلاء الداخلين في رحمة الله، وهم {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}..

فأي الناس ينطبق عليه هذا الوصف غير المسلمين؟!

لقد حصرت الآية الرحمة على فئة واحدة من الناس: أتباع الرسول المؤمنون برسالته..

وهو ما نجده مُجملًا في آية “آل عمران”

: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}..

ولمزيد من التأكيد..

وحتى لا تتوه العقول في التأويل.. 

تأتي الآية 113 من سورة التوبة لتنهى وتزجر وتضع حدًا غليظًا لا يمكن تجاوزه.. فتقول:

{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}

ويخبرنا في الآية التالية عن استغفار إبراهيم لأبيه الوارد ذكره في سورة مريم، فيقول عز وجل: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} 

فإن كان مجال الاستغفار لا يتسع للأقربين إن هم ماتوا على غير الإسلام..

حتى وإن كانوا من رَحِم نبي أو أقربائه..

فأي إنسان بعد ذلك أولى؟!

بهذه النصوص، والتي لا يتسع المقام لذكرها كلها..

يمكننا الوقوف على حقيقة ثابتة..

وهي أن الله عز وجل قد منع على عباده المؤمنين الاستغفار لكل من مات على كفره..

لا فرق في ذلك بين قريب أو غريب..

ودون اعتبار لوزن أعمالهم في الدنيا أو حسناتهم في حق الناس، ما داموا لم يشهدوا لله بالوحدانية ولرسوله بالصدق والنبوة..

ومن هنا يمكننا ملاحظة مفارقة منطقية عجيبة..

فلو أن طفلًا نهته أمه عن تناول الطعام في فراشه..

فلم ينتهِ..

ولم يعبأ بنهيها..

بل وحمل الطعام إلى فراشه ظنًا منه بأن ذلك سيرضيها..

ولم يكتفِ بهذا، فتوسّل إليها بهذا الفعل لتأتيه بهدية جزاءً على عصيانه!

ما كنت لتقول عن هذا؟

هل تخيلت غرابة الأمر؟!

ولله المثل الأعلى..

تخيّل أن ربّك ينهاك عن طلب الرحمة لعبادٍ كفروا به..

وجحدوه..

بل ويخبرك أنه فعل يكرهه ويبغضه..

وأن هؤلاء مطرودون من رحمته حتى لو كانوا من رحم نبي يحبه..

ثم تأتي أنت لتطلب أعظم عطاياه: رضاه ورحمته لهؤلاء العباد..

فتطلب الهدية الأعظم، بفعل منبوذ مرفوض..

فماذا نقول عن هذا؟!

إن الداعي لفعل كهذا، إنما يقع في خطأ منطقي جسيم..

وليس خطأً شرعيًا فقط..

إذ كيف يطلب المرء الشيء ممن نهاه عنه؟ بل والأعتى من ذلك، يتحجج في ذلك بتكذيب آيات صاحب الرحمة نفسه، أو في أفضل الأحوال إغفالها أو ليّ عنقها بما لا تحتمله؟!

  1. صفر بلا واحد

دعونا أن نتخيل طالبًا ذهب إلى كُبرى جامعات العالم..

ثم بدلًا من الالتحاق بصفوفها، قرر أن يقتني الكتب ويبحث عن الشروحات عبر الإنترنت واليوتيوب.. حتى أتقن المنهج وأحكمه كأنبغ طالب في الجامعة..

وهكذا هو حاله طيلة سنين الجامعة..

فهل سيحصل على شهادة التخرج من هذه الجامعة؟

وهل يمكن الاعتراف به كمعيد فيها على الرغم مما حصله من العلوم؟ 

بالطبع ستكون الإجابة لا..

وكذلك الحال لمن قرر أن يعمل عملًا تطوعيًا في مصنع هو غير مسجل بكشوفات موظفيه..

فسيجد نفسه في نهاية الشهر غير مستحق لأي مال..

لأن إدارة المصنع لا تعترف به..

وغاية ما سيناله هو شكر العمال الذين ساعدهم..

وبين الحالتين نجد العامل المشترك:

وهو عدم استحقاق المرء للدرجة أو المكافأة التي ينالها أقرانه، لا لأنه قعد عن العمل الجيد أو فعل الفعل القبيح.. بل لأنه لم يتبع الشرط الوحيد الذي وضعته الجامعة أو المؤسسة لنيل الثواب المطلوب..

هل أحسن؟ 

ربما..

لكنه انشغل عن الفعل الأهم:

أن يتبع القاعدة التي سيثاب على إثرها..

في سياق آخر..

ومع الفارق في القياس..

إلا أن هذا هو شأن العمل في الدنيا..

فمن فتح المستشفيات، وأنقذ الأرواح، وكفل اليتامى، وأفاد البشرية بعلوم جمة..

هو فعل ذلك لأجل البشرية..

أو لأجل إله آخر غير الله الذي يعبده المسلمون..

فلماذ ننتظر ثوابه من الله وقد وهب هذا العبد عمله لغير الله؟!

إما للبشرية أو لإله آخر مع الله، أو لإله غيره بالكلية..

لهذا، سيكون من العدل أن ينال هذا المخلوق ثوابه من البشرية بالتقدير والثناء والحمد..

وليذهب بعدها إلى إلهه الذي عبده ليثيبه بجنته..

ما شأن الجنة التي يطلبها المسلمون بذلك؟!

هو نفسه لم يطلبها، ولم يطلب رحمة الله من الأصل..

بل ولم يؤمن به نفسه..

فإمّا أشرك به، وإمّا أنكره..

فأين المنطق في طلب المغفرة له؟

وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله في أسرى بدر “لو كانَ المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي في هَؤُلَاءِ النَّتْنَى؛ لَتَرَكْتُهُمْ له”، وذلك تقديرًا لموقفه النبيل حين أجار النبي صلى الله عليه وسلم وحماه..

ولكنه لم يستغفر له ولم يطلب له الرحمة، كونه مات على شركه..

وأكبر من ذلك عمّه أبو طالب الذي كرّس عمره للدفاع عن الرسول ودعوته، ورغم ذلك أخبر الله أنه جعله أقل أهل النار عذابًا كرامةً لموقفه..

فإن كان حماية الإسلام ورسوله لم تشفع للمرء في كفره..

فكيف بما دون ذلك؟!

إنها حسبة رياضية بسيطة..

فالإيمان بالله هو الرقم واحد..

وكل فعل حسن بعد ذلك هو صفر على اليمين يثقل من ميزان العبد وحسناته..

فإن أدى فرائضه زاد صفرًا على اليمين..

وإن تطوع بالنوافل زاد صفرًا..

وإن تطوع بأعمال الخير زاد صفرًا..

وكل ذلك يضع في حسابه رقمًا يتزايد مع كل عمل خير..

وذلك كله لأنه امتلك الواحد “الوحيد” في هذا العدد، إنه الإيمان بالله وتوحيده دون تحريف أو زيغ..

فلو سقط منه ذلك حُرِم الواحد الذي يجعل لأصفاره قيمةً..

وهذا الواحد أكبر مما يظنه المعترضون

  1. الحقيقة الوحيدة

تخيل أن أبًا وأمًا أتيا بولدهما إلى الحياة..

ثم سهرا على رعايته وتحملا في تنشئته الصعاب..

وهما مع ذلك أحسنا إليه في كل شيء ولم يقترفا في حقه ظلمًا ولا هضمًا..

ثم كبر بعد ذلك بفضلهما وفضل ما وهباه إيه..

وبدلًا من حفظ جميلهما وبرهما عليه..

إذا به يتنكّر لهما ويكفر بما قدماه ويجحده..

فبماذا سنسمي هذا الفعل؟!

على قياس أوسع..

ولله المثل الأعلى..

بماذا نسمّي من خلقه الله..

فسواه فعدله..

ثم رزقه ورعاه..

ووهب له من النعم والهبات ما لا يحصيه إنسان ولا يحصره..

ثم هو بعد ذلك كله يكفر بهذا الخالق وينكر فضله..

بل وينكر وجوده ويكذبه ويهين رسالاته ورسله ولا يعبأ بها..

ترى أي فعل حسن قد يمحو قبحًا كهذا؟!

إن الخطأ الأول الذي يتسبب في معضلة الاستغفار للكافر هي غفلة كثير منا عن قدر الله وجنابه العظيم..

فيجعل حق العبد أكبر من حق الإله..

ويجعل سقاية عبد وعلاجه حُسنًا يمحو قبح الكفر بالخالق المجيد الجليل..

إنها مركزية الإنسان التي ألقتها الحداثة في حِجر البشرية وغلّبتها على كل شيء..

فصارت تُعِدّ الشذوذ حقًا..

والانحلال حريةً..

فقط لأن هناك إنسانًا يتبناه..

وبهذا المنطق يرى البعض أن الإحسان للبشرية هو فعلٍ كافٍ لنيل ثواب الله..

حتى لو كفر هذا الإنسان بالله نفسه أو اشرك به ونسب له الصاحبة والولد وكذب برسوله وقرآنه..

فالإنسان هنا هو المركز، ولأجله يُطلَب كل شيء..

لكن..

دعونا ننظر نظرةً بسيطة على أحد الجوانب..

لندرك مدى فداحة الكفر..

وكيف أنه لا يصلح معه شيء عند الله..

ولنتأمل عقاب الله تعالى لعصاة المؤمنين في النار..

فالله يخبرنا أنه لن يترك في النار عبدًا آمن به، حتى لو عذبه بها، فلن يكتب له الخلود فيها..

بل لن يترك فيها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان..

هل تدرك حجم الذرة؟

هذه الذرة من الإيمان تشفع لصاحبها عند الله..

فأي ذنب يقترفه العبد وقد خلا قلبه من هذه الذرة؟

ذرة واحدة لا تراها عينك ولا يشعر بها إدراكك..

ذرة واحدة من الإيمان ستشفع لصاحبها..

فأي نكران هذا وأي جحود؟!

وأي حسنة تلك التي قد توازي هذا الجحود وهذا النكران؟!

إن المؤمن لا يفوته معنى كهذا..

وإن فاته فهو يتوقف عنده إذا علمه وانتبه إليه..

فليس شيئًا أعظم قدرًا من الله حتى يعلو حقه حق الله جل وعلى..

وليس في الأرض ولا في السماء مخلوقًا يشفع الإحسان له إذا ما اقترن بجحود لله سبحانه وتعالى..

ولو علمنا هذا وترسخ في قلوبنا، لاستبدلنا عاطفتنا تجاه الكافر بحزن لموته على الشرك..

فحينها لن تدفعنا العاطفة للمكابرة ومعاندة أمر الله..

وإنما ستحدونا إلى الشفقة عليه مما أهلك به نفسه.. وإلى الخوف من الله أن نموت على مثل هذا.. ومن ثم سيجعلنا ذلك أنشط في الطاعة وأكثر استمساكًا بالإيمان، وفوق ذلك: أشد دعوةً إليه لإنقاذ الناس.. 

مقالات ذات صلة

‫8 تعليقات

  1. جزاكم الله خيراً على هذا المقال الرائع، إنني فرح جداً بانطلاق موقع رواسخ، بارك الله فيكم

  2. يبدو أن كاتب المقال قد خلط بين مفهومين متباينين، الأول الرحمة، والثاني الاستغفار
    انما جاء النهي للنبي صلى الله عليه وسلم عن الاستغفار وليس عن الترحم
    لأن مقتضى الاستغفار هو مغفرة الذنوب، مما يعني دخول الجنة
    ولا يقتضي الترحم ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأبي طالب فيخفف الله عنه من العذاب كما في صريح الحديث عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذُكر عنده عمه أبو طالب، فقال: “لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه”.
    فالنهي القرآني صريح في الاستغفار ولا يوجد نص صريح في الترحم، بل على العكس ينص اللفظ القرآني أن الرحمة وسعت كل شيء،….. أما التخصيص بالآية فهو غير محصور بما ذكره في الآية التي بعدها بدليل حديث النبي في عذاب عمه أبي طالب….

    1. يعني الآية تقول ” وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ” وأنتَ تقول رحمة الله قد تسع غير المسلمين؟؟ مالكم كيف تحكمون!

  3. I have to express some thanks to you just for rescuing me from this matter. As a result of searching throughout the the net and finding views that were not productive, I figured my life was well over. Existing without the answers to the issues you have sorted out as a result of your entire post is a crucial case, and ones which could have in a negative way damaged my entire career if I hadn’t discovered the blog. That training and kindness in dealing with a lot of stuff was very helpful. I don’t know what I would’ve done if I had not discovered such a solution like this. I can at this point look forward to my future. Thanks a lot very much for the professional and effective guide. I will not hesitate to suggest your web sites to any individual who ought to have support on this situation.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى