برامج رواسخحديث الشبهات

حديث الشبهات الحلقة 15 (موريس بوكاي ورحلته بين الشرق والغرب)

حديث الشبهات

رحلة موريس بوكاي

هل العلم مع الإيمان أم ضد الإيمان؟

هل العلم والإيمان متناقضان أم متكاملان؟ أم أحدهما إذا حل رحل الآخر؟

كل فريق يطرح طرحاً ويتشبث بطرف لكي يعزز ما عنده ما إلحاد، وشك، ولا أدرية، أو إيمان، ويقين، والتفاف حول العقيدة.

سنناقش قضية العلم والإيمان من مدخل جديد، ربما يكون مسبوقاً، إلا أن الطريقة التي سوف نتناولها بها ستكون فيها إضافة بإذن الله…

سنتكلم عن رحلة عالم غربي، واسم كبير، حاز على جوائز علمية عديدة في أوروبا، وأمريكا…

لم تكن رحلته العلمية سنة، أو عشرة أو عشرين…

إنه العالم الفرنسي: موريس بوكاي، الطبيب الجراح المعروف، ورحلته بين الشرق والغرب، ومشروعه كبير جداً، لدرجة أن الأستاذ فاروق عبد العزيز جعل منه فيلماً وثائقياً، رصيناً، متكاملاً بعنوان: (موريس وفرعون)…

موضوع جاد، وموضوع شيق، لكنني لن أكون أنا الذي أسرد الموضوع، إنما الأستاذ أبو زيد المقرئ الإدريسي، أستاذ اللسانيات في جامعة الحسن الثاني في الدار البيضاء في المغرب، فقد جمعني به حوار مفعم بالفوائد والطرائف…

بدأته قائلاً:

من هو موريس بوكاي؟ ولماذا هذا النموذج بالذات دون غيره؟ بينما هناك نماذج كثر في التاريخ الغربي والشرقي، من الذين انتقلوا بالعلم إلى الإيمان؟!

هل لأنك من المغرب العربي؟ أم لأسباب أخرى؟

فقال:

صحيح ما تفضلت به من أن زبدة العقل الغربي آمنت وأسلمت، إن ظاهراً، وإن باطناً، إن إعلاناً وتحدياً، وإن سرّاً من أجل إتمام الحجة، وإقامة الدليل على المنكرين، والمكابرين، من أهل السياسة والكنيسة، فمنطق الأولية يقتضي أن نختار رجلاً ظاهر الحجة، قاهر الدليل، قاصد السير، عالي المستوى، أفنى عمراً يزيد على40 عاماً إفناءً يستحق أن يخص ويفرد بالذكر.

هذا الرجل يحكي هو عن سيرته: أنه كان وهو طفل يدرس في المرحلة الابتدائية عنده حيرة شديدة بين ما يسمعه في المدرسة من معارف أولية، وبين ما يسمعه في الكنيسة يوم الأحد، ومرة سأل أستاذه سؤالاً استشكالياً، فقال له الأستاذ: عندما تكون في المدرسة يجب عليك أن تنسى الكنيسة، وعندما تكون في الكنيسة يجب عليك أن تنسى المدرسة، وهكذا تحفظ عليك عقلك وقلبك، وإيمانك وعلمك، ودنياك وآخرتك، فقال له: هذا الذي أفعله.

فالقوم متأزمون في تجاوز هذا التناقض في دينهم الذي أبطله التحريف، وامتدت إليه أيدي التلاعب، {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلًا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون}، وبين حقائق العلم.

وقد أشار في مقدمة أحد كتبه إلى أن نابليون حاول في لحظة أن يحل إشكالاً بأن وضع قانوناً ينص على: منع تدريس التاريخ في مناهج الدراسة الفرنسية، اعتماداً على روايات التوراة والإنجيل! وأنه يجب الاعتماد على الأركيولوجيا، والأتروبولوجيا، والتاريخ، والمناهج التي تعطينا منفذاً إلى الحقائق العلمية والتاريخ.

ثم قال: ورغم هذا بقي البعض متعلقين بإيمانهم، ودينهم، ومقدساتهم، فبقي السؤال قائماً لم يحله نابليون إلا حلاً بقرار سياسي، لكن القرار السياسي لا يحل المشاكل الثقافية، والنفسية، والإيمانية.

هذه هي المحطة الأولى المتميزة عند بوكاي، بوكاي الطفل، بوكاي المتأمل، بوكاي المتسائل، بوكاي الجريء.

ثم يقول: بعد أن تعبت في البحث عن مضامن الحقيقة بين الدين والإيمان، ذهبت إلى القرآن، قال: ونحن تربينا على أن آخر كتاب يمكن أن نلجأ إليه هو القرآن!!

يقول: تعمقت في الإنجيل، وتعمقت في التوراة، وقرأت في الديانات الأخرى!

أقول: هذه العبارة تتكرر عند جميع هؤلاء المهتدين، فآخر شيء يلجؤون إليه هو القرآن الكريم!

قال وهذه كلمة مهمة: وأقبلت على القرآن، وعندي يقين جازم أن كاتبه محمّد! وأنه كتاب بشري، وأنه ملحون على الله!! هذا بحسب الثقافة التي نشأ عليها.

نقطة ثالثة تميز هذا الرجل، وتجعله يستحق الإشارة إلى سيرته العطرة، قوله: آمنت بعد مدة أنه لا جدوى من قراءة القرآن مترجماً إلى الفرنسية، ولا الإنجليزية، مع أنه يتقنهما معاً، قال: بدأت أتعلم العربية في سن 60!! فكان بعد تدريسه صباحاً في كلية الطب جامعة السوربون، وقيامه بجراحات مضنية في المستشفى المركزي في باريس، يأتي في المساء وهو الذي شاخ فيذهب إلى معهد لتعلم اللغة العربية! ويكابد تعلم لغة صعبة بالنسبة له، بل ومعقدة!

فإذا به يكتشف الحقائق الآتية:

أن قراءة القرآن بغير العربية لغته الأصلية لن يصل الإنسان إلى مكامن الإعجاز؛ لأنها لغة دقيقة، وضرب مثالاً واحداً على ذلك، التفت إليه لأنه طبيب، وهي: كلمة العلقة في سياق الآيات التي تشير إلى تطور خلق الله سبحانه وتعالى للجنين في بطن أمه، قال: العلقة لا تترجم في الفرنسية إلا بجملة كاملة أي: الشيء الذي يلصق في الجدار، قال: فالعلقة لا تفهم إلا هكذا، قال: ليس عندنا في اللغة الفرنسية، ولا في اللغة الإنجليزية مقابل لهذه اللفظة، قال: فمن أدرى محمّداً بهذه المرحلة التي كانت إلى عام 1950 مجهولة غير معروفة؟! إلى أن جاء الأطباء وشرّحوا ملايين الحيوانات في مراحل دقيقة من الحمل كل شهر، وكل سنة، وكل يوم، فوصلوا إلى أن هناك مرحلة تسمى العلقة.

قال: لا بد أن أعرف أسرار الإعجاز في القرآن في الجانب العلمي من اللغة العربية.

فكابد من أجل ذلك ودرس اللغة العربية سنتين كاملتين وهو رجل هرم!

قلتُ:

هناك من يقول: إنه آمن، ومنهم من قال: بل أخفى إيمانه، وآخرون يقولون: كان مجرد متعاطف مع القرآن؛ لأنه عالم، فما رأيك أنت؟

فقال:

كان أول لقاء به عندما استمعت إلى أول محاضرة له وكان عمري آنذاك 18 سنة، في المغرب في كلية الآداب، حيث جاءنا إلى الجامعة في مدرج ابن خلدون، وكان الحضور بالآلاف، فكان يتكلم بالفرنسية، وأنا اكتب وراءه بالعربية، وكنت أكتب وأنا أبكي، فلخصت محاضرته وترجمتها فوراً، ثم شاء الله تعالى أن يزورنا وحضرنا محاضراته وندواته، فالرجل إذا قرأت كتبه شممت منها رائحة الإيمان؛ لأنه يقدم القرآن على التوراة، ويقدم القرآن على العلم، ويخلص دائماً إلى أن القرآن يطابق العلم الحديث.

إلا أن بعض الأصدقاء جلسوا معه جلسة حميمية مغلقة وسألوه هذا السؤال، فتبسم، وقال: تكتمون عني؟ قالوا: نعم، قال: أنا مسلم، ولكن لا أريد أن أعلن إسلامي؛ حتى لا يصم القوم آذانهم، ويغلقوا عيونهم عني، فأريد أن أبقى حجة عليهم بما أكتب ، وبما أحاضر به، وبما أقول، وبما أنشر؛ لأنهم بمجرد أن يعلموا أني أسلمت، ستنتهي قصة التسامح، والانفتاح، والاختلاف، والتعدد، والدليل، والعقل، والعلم، وتبدأ قصة التعصب!

قال: وانظروا إلى أيقونة فرنسا جارودي، إلى عقل فرنسا المبجل، كيف أصبح منبوذاً، ومحاصراً، ومتهماً بكل التهم، ومجرجراً إلى المحاكم، ومطروداً من30 أكاديمية دولية كان عضواً فيه؟!! لأنه أعلن إسلامه، وتحدّى الصهاينة!

ومع أن موريس بوكاي لم يعلن إسلامه، إلا أنهم سلّطوا عليه المأجورين المفتونين، كمحمد أركون، العلماني العربي، المدعي أنه يجدد القراءة في القرآن، وهو الذي كان يقول، وقد سمعته بالحرف: إن البوكائيين (نسبة إلى موريس بوكاي)، والجاروديين (نسبة إلى روجيه جارودي)، يخدرون شبابنا؛ لأنهم يخونون روح القرآن!! ويقول: هل يعرف جارودي الشافعي؟ هل يعرف بوكاي الجويني؟ ويتبجح بهذه الكتب، ويتهم القوم بأنهم يعرفونها!! فهم إذن لا يحق لهم أن يتكلموا!!

ولذلك فقد حوصر بوكاي بالرغم من أنه لم يعلن إسلامه؛ لأن القوم شعروا منه ذلك، وقام اليهود بطرده من محاضرة في المغرب في الدار البيضاء، بعد أن كانوا قد دعوه، وحاولوا أن يحاضرهم محاضرة مغلقة، وقالوا: نحن نعلم أن أصولك يهودية، وأن جدك الثالث يهودي، فنحن أولى بك، وأنت أولى بنا، فجلس إليهم، وظنوا أنهم إذا أغلقوا عليه القاعة سوف يجاملهم، فبدأ يقول لهم: إن القرآن حق، والقرآن صدق، والقرآن علم، والتوراة والإنجيل محرّفة، فطردوه، وهمّوا أن يؤذوه!!

وقد حدّث هو بذلك لبعض إخواننا الثقات.

قلتُ:

دعنا ننتقل إلى فكر بوكاي، ومراحله العلمية؟

فقال:

الرجل له ثلاثة مشاريع:

المشروع الأول: كتاب: الكتب السماوية في ضوء العلم، لأن هذا الكتاب يجيب على سؤاله الذي حيره في طفولته الأولى، وهذا الكتاب ترجم تحت عنوان: القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم، وهو مقارنة في عدد من القضايا الجيولوجية، والطبية، والفلكية، وغيرها من العلوم البحتة، بين الكتب الثلاثة: التوراة والإنجيل والقرآن، وما يقوله العلم، والكتاب يخلص بطريقة علمية، وباستدلالات مضنية، وبتأملات دقيقة لم يصل إليها أحد من المفكرين المسلمين المعاصرين للأسف إلى أن الرؤية القرآنية هي الأقرب إلى العلم، وأن العلم يصدق ما في القرآن، ويكذب كثيراً مما في التوراة والإنجيل!

هذا الرجل يبدي احتراماً كبيراً للكتابين المقدسين السابقين، ومع ذلك فإنه ينتقدهما لأنهما يتناقضان.

المشروع الثاني: وهو كتاب: ما هو أصل الإنسان؟ المترجم تحت عنوان: أصل الإنسان بين العلم والكتب السماوية، وهو مرة أخرى يستعرض تصور الإنسان لأصله مقارنة بالتوراة والإنجيل، والعلم الحديث.

وهذا الكتاب مذبحة حقيقية لنظرية دارون، فهو أقوى من رد على دارون بعد هارون يحيى التركي، وفيه مزيد من أضعاف اليقين بالتوراة والإنجيل، والمزيد من تقدير القرآن، وتقوية اليقين به.

المشروع الثالث: وأنا أنصح بالاهتمام به أكثر من غيره، وهو المشروع الأخير، والأقوى، والأكثر نضجاً، وهو مشروع: موسى وفرعون، وهو الطريق إلى الإيمان أكثر من غيره؛ لأنه ختم به عمره.

قلتُ:

لماذا اهتم بوكاي بالمومياء؟ وكيف قادته هذه المومياء إلى الاقتراب من القرآن الكريم، والإيمان؟

فقال:

بدأت قصة موريس بوكاي مع المومياوات بقدر الله الذي يسمونه صدفة، ككل فرنسي أوروبي يحب السفر، وقضاء الإجازة في أماكن غير بلده، فذهب إلى مصر التي يشد الرحال إليها كل سياح العالم، وكان وقتها شاباً، فأخذت مصر بلبّه، وسحرته، وفتن بها، فجلس لمدة 35 عاماً يقضي 11شهر في عمله كأستاذ في كلية الطب، وكجراح، وفي شهر إجازته يسافر إلى مصر، ينقب في كل المومياوات، وينقب في كل المتاحف، وينقب في كل القبور، وينقب في كل الأهرامات، وفي المسلات، وفي الآثار، وفي الحفريات، فصارت عشقه الأبدي، وهكذا صار بوكاي طبيباً وأستاذاً بكلية الطب، وعالماً من علماء التاريخ المصري، لأنه فرغ نفسه فقط لعلم تاريخ الفراعنة المصريين، ولهذا كانت رحلته مع هذا التخصص التي أثمرت هذا الكتاب العلمي الذي هو مومياءات الفراعنة، وقصته مع الرئيس أنور السادات عجيبة، فقد كان الرئيس أنور السادات يعلم بتردده على مصر، وكان أحياناً يستقبله ويكرمه، وسأله أن يجري جراحة لأخيه عصمت السادات الذي كان في حالة خطيرة، فاعتذر منه، وقال له: لقد كبرت في السن، وارتعشت يداي، وتركت الجراحة منذ زمن، وأنا أشتغل الآن بالتدريس!

فقال له: أنا لا أستأمن على أخي سواك! فقام بوكاي وتوضأ سراً وصلى ركعتين، ودعا الله عز وجل، ثم أجرى العملية لعصمت السادات، وكانت نسبة نجاحها واحد في المئة!! فشفاه الله تعالى، فاستبشر السادات، وقال له: اطلب ما شئت.

فقال له: أريد أن تسمح لي أن اطلع على المومياوات التي حذفت من المتحف لتهالكها، وأخرجت من النور، ومن النفس البشري، وحفظت في ثلاجات!

فقال له: هذا أمر صعب، ولكنه استثناء لك أنت!

فبدأ يبحث إلى أن وقع على المومياء المرشحة أن تكون مومياء فرعون الغريق، فألف كتابه: موسى وفرعون، العبريون بمصر، ما هي التطابقات بين الكتب المقدسة والتاريخ؟

وبعد أن أخذ الإذن من السادات ذهب إلى فرنسا، وجاء بفريق بحث علمي مكون من خمسة: هو الجراح، وآخر مختص في التشريح الضوئي، وثالث مختص في العلم التاريخي الفرعوني أكثر منه، ومقرر،….، واشتغلوا في تلك الجثامين المخبأة خمس سنوات، ليخلص إلى أن أحد هذه المومياوات هي جثة فرعون الغريق، فصورها، وشرحها جيداً، وبيّن أن فيها أثراً للغرق عن طريق إمساك الصخر به، ففيه تكسير من الأضلاع الأمامية، وفيه ثقب من الخلف، وأذكر أنه في محاضرة له في المغرب ذكر حديثاً نبوياً، ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم كيف أن فرعون استل من بين الصخر الذي أمسكه، وخرج إلى السطح من جديد، وقذف به البحر، فلهذا رجّح أن تلك الجثة هي الأقرب أن تكون لفرعون!

والمعروف أن كتب التاريخ الأوروبية كانت متأثرة بالمركزية الإنجيلية والتوراة، فلم تفكر قط في البحث في هذه المومياوات، رغم أن الفرنسيين والإنجليز احتلوا مصر طويلاً، لأن الفكرة التي كانت عندهم أن فرعون قد غرق، ثم ذاب في البحر وتلاشى، والقرآن وحده هو الذي قال: {فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية}، وهذه النقطة هي التي قرعت عقل، وسمع، وذهن، وبصر، موريس بوكاي قرعاً، ففكر أن تكون مدخلاً لأن يصبح هذا الكتاب العلمي، الإيماني أن تطبق نتائج هذا الكتاب هنا، كيف؟

بدأ الرجل يقرأ في النقوش، والمسلات، وقرأ حجر رشيد مرة ثانية وهو الحجر الذي استطاع العالم الفرنسي شامبليون من خلاله أن يفك الشفرة، لأنه وجد النص الإغريقي مقابل النص الهيروغليفي، فأعاد قراءة التاريخ الفرعوني مرة أخرى، وبدأ يقرأ في الهيروغليفية، ويتعلمها، ويقرأ الإغريقية واللاتينية، يتعب نفسه من أجل أن يمسك بهذا التاريخ، فأنتج هذا العمل الذي أوصله إلى حقيقة مذهلة وهي: أن الرواية القرآنية لقصة فرعون، ولقصة العبريين بني إسرائيل في مصر دقيقة جدًّا، ومذهلة، ومتطابقة مع وقائع التاريخ الحديث التي بدأت مع حملة نابليون وما بعدها، في حين أن روايات الإنجيل والتوراة خصوصاً التوراة؛ لأن الإنجيل لا يكاد يذكر شيئاً في هذا الموضوع، فرواية الإنجيل فيها تناقض صريح، ولعلي أقف قليلاً لتوضيح وبيان معنى أن الرواية القرآنية مذهلة في دقتها؟ في حين أن الرواية الإنجيلية والتوراتية مهلهلة؟

سوف أعطي مثالاً واحداً، وأقرأه من النص:

ففي صفحة 245 يقول: نظرة عامة عن التاريخ والأبحاث وعن نتائجه، ثم يذهب إلى القسم الأول في هذه النتائج ليبين أن التوراة أخطأت في كثير مما جاءت به من تاريخ الفراعنة، وتاريخ المصريين بالمقارنة مع العلم الحديث، ما هي التطابقات التي بين التوراة، وبين الحقائق العلمية الحديثة في تاريخ الفراعنة؟ فإذا بها تطابقات هزيلة تملأ صفحتين ونصف، وهو ما تبقى من الحقيقة من التوراة الأصلية التي أوحى الله تعالى بها إلى موسى بعد أن طالتها يد التحريف.

أما في استنتاجات بوكاي فيخصص فصلاً بعنوان خصوصيات السرد القرآني، فيعطي أمثلة ويقول: بعيداً عن مبالغات التوراة في عدد اليهود الذين خرجوا مع موسى في التأكيدات التوراتية التي لا يمكن أن تقبل فيما يتعلق بزمن ظهور يوسف، استعمال الجِمال في النقل، اسم ملك المصريين في ذلك الزمان، وكلها أخطاء شنيعة؛ لأنها تناقض العلم، يقول بالمقابل: أما في القرآن فهناك تجنب لهذه الأخطاء، وهناك ذكر لحقائق مذهلة!

وسآخذ من بوكاي ثلاث حقائق هائلة:

الأولى: أن القرآن الكريم يسمي ملك المصريين زمن يوسف ملكاً، ويسمي ملك المصريين زمن موسى فرعون، ويذكر موسى وفرعون 68 مرة، ويذكر الملك ويوسف حوالي 15 مرة، قال: أنا ما انتبهت إلى هذا، حتى جاء قسيس حاقد في محاضرة لي: وقام وسألني: لماذا القرآن يقول الملك ويوسف، ويقول: فرعون وموسى، وهو تاريخ واحد؟

فلما عاد يقرأ حجر رشيد، ويقرأ الكورونولوجيا ليعيد ترتيب الأحداث، وهو فرع من التاريخ وجد أن يوسف عليه السلام بكل دقة كان زمن الهكسوس، والهكسوس ملوك أبوا أن يتسموا بالفراعنة؛ لأنهم أجانب سطوا على مصر من العراق، واستعمروها، فتميزوا ورفضوا أن يسموا أنفسهم بالفراعنة، وفي المقابل فإن الشعب المصري رفضاً للاحتلال، رفض أن يسميهم فراعنة؛ لأن هذا اسم لملوكهم الوطنيين!

القرآن الكريم وهو يتحدث عن يوسف، لم يخطئ ولا مرة واحدة، وحاشاه من ذلك، فليس في القرآن: فرعون ويوسف أبداً، وعندما حكى عن موسى الذي جاء بعد يوسف بـ 400 سنة، وقد انتفض المصريون، وحرروا بلادهم، وطردوا الهكسوس، وفرّ الهكسوس إلى العراق من جديد، وعاد الفراعنة يحكمون مصر مرة أخرى، ونقلوا عاصمتهم من طيبة إلى منفيس، عاد القرآن يقول في 68 موضعاً: موسى وفرعون، فعندما تقرأ القرآن تجد قصة موسى وفرعون، وقصة يوسف والملك، فهذه هزت بوكاي هزًّا، ورجّته رجًّا، حتى قال: إنه بفضل القرآن أعدنا التحقيب الذي هو الكورونولوجيا، أي وضع الحقب، وصححنا موقعه، وكانت كتب التاريخ لنقص المعلومات قد انزلقت بتتابع المراحل، وتتابع المحطات انزلاقاً، هذه الحقيقة الأولى.

الثانية: أن القرآن الكريم ينفرد عن بقية الكتب السماوية بالإشارة إلى أن الله تعالى أخرج فرعون إخراجاً من الماء، ونبذه في العراء، وأبقى جثته ليكون لمن خلفه آية.

هل كان المفسرون المسلمون الكرام، وهم يفسرون القرآن قبل ظهور علم الفرعونيات والمومياوات يتوقعون أن الله يقصد بقوله {لمن خلفك}، كل هذه القرون إلى اليوم؟! وأن يأتي بوكاي، ويؤلف كتاباً، ويصور صورة الفرعون، ويصور ما عليه من كسور، وآثار الغرق، وآثار المياه المالحة، ويحللها تحليلاً بالمختبرات العلمية، وبالتصوير الإلكتروني؟!

هل كان يتصور أن {لمن خلفك آية}، تخرج في كتب، وتخرج في أفلام، وصور، وتوثيقات، فيقول بخلاف كل تفاسير التوراة التي تزايدت من عند العبريين، والحاخامات أن الله بدد جسد فرعون، وفتت عظامه، ولحمه في الماء، وذاب، وأكله الحيتان؟ والقرآن يقول: نحن نخرجك، ونخلدك! فهذه أيضاً هزّته هزًّا.

الثالثة: أنه لا توجد أدنى إشارة إلى هامان في التوراة، ولا في الإنجيل أبداً! فالتوراة التي تدعي أنها مختصة في تاريخ اليهود، وهذا تاريخهم وهم أولى به، ومع ذلك لا تذكر هامان!!

بوكاي وقف علمياً بالتحليل الهيروغليفي على وظيفة واضحة لرجل مميز، هو الرجل الثاني في هرم السلطة قبل السحرة، وقبل الكهنة، وبعد الفرعون، فوجده هامان، وقام بتحليل معنى اسمه إلى أنه وزير أشغال، أو وزير منشآت، الذي يبني الأهرامات، والمسلات، وغيرها!! والقرآن يقول: {وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب. أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى}، بمعنى أن وظيفة هامان كانت وزارة المنشآت!! أما هذه الشخصية فلا وجود لها في التوراة!! فالقرآن وحده يشير إليها، والحفريات والنقوش تؤكدها، فقال: يستحيل أن يكون هذا الكلام من عند محمّد!

والأجمل من كل هذا أنه يقف وقوفاً طويلاً، وعميقاً، على حقيقة، يقول فيها: قد  يقال: إن المعلومات زمن نزول التوراة كانت ناقصة، وقد تطور العلم في زمن محمّد، وقدم معطيات، فاستفاد منها محمّد في القرآن، فيأتي بوكاي بأطروحة لعالم تخصص في الفراعنة زمن البطالمة والرومان البيزنطية، وهذا الرجل عندما كتب هذه الأطروحة كان يكتب كتباً في التاريخ، وليس له شغل أن يثبت القرآن، أو ﻻ يثبت، فيلخص بوكاي هذه الأطروحة في صفحات مركزة ليقول بكل دقة: إنه بالعكس فني التاريخ ونسي، وفي زمن نزول القرآن أصبح الجهل بشيء اسمه تاريخ الفراعنة مطبق في الحضارة الإنسانية، بسبب انتقال الرومان إلى المسيحية، مما جعل لديهم عقيدة تطهرية، جعلتهم يهدمون ما استطاعوا من الأصنام، ويتخذون القرار بإغلاق كل المعابد، وإغلاق الأهرامات. ثم يقول: في بيزنطة سنة391 ميلادية أصدر الإمبراطور ثيودور الأول فرماناً سامياً بإغلاق جميع المعابد الفرعونية، ويقول بالحرف: بفضل هذه الأطروحة عرفنا أنه زمن نزول القرآن دخلت البشرية في جهل عميق بتاريخ الفراعنة، في حين أنه في زمن نزول التوراة كان التاريخ الفرعوني حياً، ومكتوباً بلغتين!!

ثم يذكر مثالاً آخر هائلاً جداً، فيقول عن حريق مكتبة الإسكندرية، الذي نسبه المستشرقون والحاقدون إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والذي ثبت علمياً أنه وقع سنة 47 قبل الميلاد، أي قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرون، قال: في حريق مكتبة الإسكندرية الذي اتخذت بأمر من الإمبراطور ضاعت كل كتب تاريخ الفراعنة، ومنها تاريخ لمؤرخ كتب كتاباً من ثلاثين مجلد عن تاريخ مصر، اسمه مانطا، وقال: ضاعت كل المكتبات التي كانت مكتوبة بالإغريقية، والفرعونية، كتبها متأخر الفراعنة الذين هم البطالمة البطليموس الذين انتقلوا من الإغريق إلى بلاد مصر، واعجبوا ببلاد مصر، وكتبوا تاريخاً مزدوجاً بين الإغريقية والمصرية.

قلتُ:

أليس هنالك من تحفظات على كلام بوكاي، فمهما كان فجهده جهد بشر؟

فقال:

صدقتَ، ونحن مبدأنا في الإسلام تقدير الرجال، وليس تقديس الرجال، فنحن نستفيد من علمهم، ونزداد به إيماناً؛ لأن الله تعالى جعله بيّنة، وآية، وحجة على القوم الذين قد يقولون: القرآن نزل بالعربية، وتذوقه العرب بالعربية، ونحن ضحايا العجمة، فإذا بالقوم يؤلفون لهم كتباً بلغاتهم من داخل فكرهم، ومن داخل منطقهم، بمفاتيح عقولهم، لا مغاليقها، لكي يوصلوهم ويوصلونا معهم إلى مزيد من الإيمان وإقامة الحجة.

كثيرون ردّوا على موريس بوكاي وناقشوه، وأنا وقفت معه على بعض الحقائق التي لا تمس جوهر الرجل، وجوهر عمله، فقد وقع في بعض الأخطاء بسبب جهله بالعلم الحديث، أخطاء بسبب أنه لم يتقن العربية، فقد قرأها سنتين فقط، وهذا ليس كافياً لكي يصبح عالم لغة، فهو لم يكن عالم لغة، ولا ادعى ذلك لنفسه، أخطاء بسبب تأثير الموروث الغربي السابق، فأحيانا يقع له استشكال لأنه يحتاج إلى معلومة بسيطة، فالرجل تعب تعباً شديداً؛ لأنه وجد أن من الأخطاء الفاضحة والفادحة في التوراة أنه في زمن تدبير سيدنا يوسف للجفاف، وتوزيعه للقمح على الناس، كانوا ينقلون الميرة على الجِمال!! وهذا غير موجود أبداً، ولا أثر له في النقوش، فلما جاء ووجد في القرآن التعبير بالعير في قوله تعالى: {فلما فصلت العير}، تاه وتعب! لأن معنى ذلك أن في القرآن خطأ أيضاً!! إلى أن اكتشف حقيقة بسيطة هي: أن العير لا تعني في اللغة العربية قافلة الجمال فقط، ولكنها تعني كل الدواب: فقافلة البغال عير، وقافله الخيل عير، وهكذا، ففرح فرحاً شديداً.

وبغض النظر عن كل هذا، وبدون تعصب لهؤلاء الرجال، وبدون تقديس له مع الاستفادة منه، أحب أن أشير إلى أنه لم يكن وحده في هذه المعاناة، بل هناك مدرسة كاملة من الذين رحلوا إلى ربهم وكدحوا إليه كدحاً {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه}، ملاقيه في الآخرة للحساب، لكنه ملاقيه في الدنيا للإيمان!

نحن كمسلمين وجدنا إيماناً جاهزاً، واتصالاً مباشراً بالقرآن، وطريق اللغة العربية التي ورثناها بغير جهد منا ولا فضل، في حين أن آخرين كروجيه جارودي فيلسوف فرنسا الأكبر، وليو بورد فايس اليهودي النمساوي الكبير، ومارجرت ماركوس اليهودية الأمريكية، ويلديو صاحب أعظم كتاب في تاريخ الحضارة في 50 مجلد، ويلديو على قلة ما خصص للمسلمين لأنه كان يعاني من المركزية الغربية، حيث أرخ لتاريخ الغربيين أكثر من غيرهم، ومع ذلك كيف أنصف الحضارة الإسلامية، والتاريخ الإسلامي، وإنجازات المسلمين في مجال الأخلاق، والتشريع، والرحمة بالآخرين.

وكذلك إسرائيل شحاق وقد مات يهودياً، وكان أستاذ في كليه العلوم بجامعة تل أبيب، عندما وصل إلى نقطة يتباكى عليها كل اليهود، وهي قضية اضطهاد اليهود والهولوكوست، قال: إن المسلمين يستحيل أن يفعلوا ذلك؛ لأن شريعتهم تمنعهم من الظلم، وتحرم عليهم أن يؤذوا الآخرين لاختلاف الدين!!

هؤﻻء العمالقة الذين كانوا مؤمنين، وكانوا يحبون المسيح، وكانوا متعصبين لدينهم اليهودي، كيف عادوا بعد رحلة طويلة؟! كيف بدأوا بالشك والإلحاد، وانتهوا إلى الإيمان بعد 20 أو 30 أو40 سنة؟!

جارودي بقي 40 سنة حتى أسلم، ﻻجيبتولوجيه 35 سنة، مارجريت ماركوس كتبت عن حيرتها وعذابها، رغم أنها أسلمت شابة، ولكن بعد سنوات من المعاناة، وامني براملت التي كتبت كتاب: إني آمنت بربكم فاسمعون. فهؤلاء جميعاً يمثلون زبدة العقل الغربي، ونخبة العقل الغربي.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى