بينى وبينكم 2004 الحلقة السادسة عشر المعذبون في الارض
المعذبون فى الأرض
من هم المعذبون في الأرض؟
هم أولئك الأشخاص الذين يغرقون في همومهم الشخصية.
هم السواد الأعظم في هذه الأمّة، الذي يفكر الواحد منهم ليل نهار كيف يوفر لقمة العيش الكريمة لبيته.
هم تلك الفئة التي تحترق همًّا وغمًّا كيف تسدد ديونها المتراكمة؟
هم تلك المجموعة التي تسعى جاهدة للحصول على فرصة عمل لهذه البراعم النامية في البيوت؟
هم وهم وهم…
حديثي باختصار عن الهم الاجتماعي، ولا بد لنا أن نصحح المسير في فهم الدين نفسه، حيث أن كثيراً من الناس انصرفت أذهانهم في قضية الدين إلى أداء الشعائر التعبدية، فما دام أنه يصلي، ويصوم، ويحج، فلا علاقة له بشيء بعد ذلك! فهو ينسى أو يتناسى أن هذا الدين ينتظم جميع مناشط الإنسان، وحركته الشخصية، والجماعية، والأسرية، والعلاقات الاجتماعية الخارجية على مستوى الفرد، وعلى مستوى الدولة، والجانب الاقتصادي، والجانب الأخلاقي، وغير ذلك.
فالجانب الاجتماعي له اهتمام عظيم في دين الله سبحانه وتعالى، سواء أكان هذا الإنسان الذي تتحرك معه من أبناء عقيدتك، أو كان من ملة أخرى، فالناس كما لخص علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق.
فالكل يندرج في نهاية المطاف في مسمّى الإنسانية، ومن ثم فلهم حقوق، ووجب لهم النصح، والإفادة، والشفقة.
أقف أولاً مع بعض النصوص القرآنية، ومن ثم أميل إلى الواقع بشواهد أنقلها؛ لكي نحرك العواطف القلبية، ونحس بالواجب الملقى على عواتقنا، ولا ننتظر الآخرين ليأتوا ويطلبوا المعونة، وإنما نبحث نحن كمجتمع عن من يستحق المعونة، ومد اليد، والمساندة.
يقول الله تبارك وتعالى: {أرأيت الذي يكذب بالدين}، من هذا الذي يكذب بالدين يا رب؟ {فذلك الذي يدع اليتيم. ولا يحض على طعام المسكين. فويل للمصلين. الذين هم عن صلاتهم ساهون. الذين هم يراءون. ويمنعون الماعون}، آيات متكاملة تعطينا المعنى الاجتماعي من خلال صورة ذلك الإنسان المكذّب للدين، الذي أول صفاته بعد نفي العقيدة والتكذيب أنه: يدع اليتيم، قسوة على هذا اليتيم المستضعف.
ثم: ولا يحض على طعام المسكين، بخيل في العطاء والبذل.
ثم: فويل للمصلين: يؤدي صلاة شكلية، صلاة ليس فيها إلا القالب، أما القلب فهو بعيد عن هذه الصلاة، ويؤخرها عن وقتها.
ثم: الذين هم يراءون، فلا إخلاص، ولا تقوى.
وفوق ذلك كله: ويمنعون الماعون.
نموذج آخر من الآيات القرآنية: يتكلم الله تبارك وتعالى عن الذين يأخذون كتابهم بشمالهم، المسخوط عليهم يوم القيامة، والمغضوب عليهم عند الله عز وجل في المصير الأخير فيقول: {خذوه فغلوه. ثم الجحيم صلوه. ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه}، من هذا يا رب؟ الجواب: {إنه كان لا يؤمن بالله العظيم. ولا يحض على طعام المسكين}! ما هذا المجتمع؟ ما هذا الإنسان الذي يعيش في النعيم، ويرتع في الأكل، والشرب، والترف، بينما على بُعد خطوات قريبة منه هناك مسكين تلتهب أمعاؤه من الجوع، ويتيم لا يجد من يرحمه، وأرملة تبحث عن عون فلا تجد إلا ذئاب بشرية، كيف لهذا التناقض أن يكون في هذا المجتمع؟
ألست معي أخي القارئ كيف ترفع هذه الآيات من قدر السلوك والاهتمام الاجتماعي؟
ومن الشواهد الواقعية على هؤلاء المعذبين في الأرض، والذين يبحثون عن لقمة العيش الكريمة والشريفة:
امرأتان جلستا في حر الشمس الملتهبة، تبيعان ما تيسر من الملابس القديمة، وما يمكن أن يُباع! سألتهما عن السبب الذي دعاهما للجلوس في مثل هذا الوقت، والبيع بهذه الطريقة؟
أما الأولى فقالت: أنا أم لأرملة، لديها ١١ يتيمًا، فأبيع من أجل أن أنفق عليهم!!
وأما الثانية فقالت: أنا أرملة، وعندي خمسة أيتام، فأنا أبيع، وأشتغل تحت الشمس، وفي الحر، من أجل أن أنفق عليهم.
يا الله كم هي قاسية هذه الحياة؟!
هذه مثال من بين عشرات الأمثلة التي رفضت الحديث، والتعبير عن مأساتها، ونحن نظن أن بعض هؤلاء غير محتاجين، ولكن اسمع ما يقول القرآن في أمثالهم: {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف لا يسألون الناس إلحافًا}.
فما هو واجبنا نحو هؤلاء؟
أولًا: أن تحس أن هناك أناسًا محتاجة.
ثانيًا: أن تتعرف على هذا الواقع.
ثالثًا: أن تسعى في إزالته عنهم، أو تخفيفه على أقل تقدير.
كذلك من الآيات التي تكلمت عن الجانب الاجتماعي، والإحساس بالمحتاجين، وبذل الجهد تجاه كل إنسان مثقل بالديون، قوله تبارك وتعالى: {فلا اقتحم العقبة}، فالإنسان المكلف العاقل لكي ينجو يجب أن يقتحم العقبات في هذه الدنيا: العقبات الشيطانية: عقبات نزغات النفس، وعقبات إغراءات الحياة، وعقبات الشهوات المتناثرة على قارعة الطريق، كان من المُتصور أن تكون أول عقبة هي الكفر؛ إلا أنها مسلّمة، فلا حاجة لذكرها، لكنه قال: {فلا اقتحم العقبة. وما أدراك ما العقبة. فك رقبة. أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيماً ذا مقربة. أو مسكيناً ذا متربة. ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة. أولئك أصحاب الميمنة}، فأهل اليمين في الآخرة، وأهل النجاة الذين تجاوزوا العقبة، هذه هي صفاتهم: {فك رقبة}، أي تحرير الإنسان من عبودية الإنسان، وهذه كانت عادة جاهلية، فجاء الإسلام لكي يُحرر الإنسانية من رق الإنسان، ويخضعهم لطريق العبودية لرب الإنسان والأكوان، {أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيماً ذا مقربة. أو مسكيناً ذا متربة}، وتعبير النص القرآني غريب وعجيب ومعجز ورائع عندما يقول: في يوم ذي مسغبة: فهل اليوم هو الموصوف بالمسغبة، أم أن المسكين هو الذي يعيش حالة بؤس ومسغبة؟
المفروض أن المساكين هم الذين يعانون، وليس اليوم؟ إلا أن التعبير القرآني جاء ووصف اليوم بأنه بائس، وشديد، وتعيس، ولم يصف المسكين بذلك، لماذا؟
لأن اليوم الذي يوجد فيه مسكين، ويتيم، وضائع، وفقير، لا يجد اليد الحانية، ولا القلب الرحيم، ولا العون من بني الإنسان، فهذا اليوم هو في حقيقته يوم بائس، فكأن البنوك المليئة بالأرصدة لا وجود لها، وكأن الحوانيت المليئة بالأطعمة قد فُرغت من هذه الأطعمة، وكأن هذه السماء، والأرض، والحياة، والزهر، والنور، والطير، والشجر، كل ذلك يعيش حياة بائسة كئيبة لا طعم لها، بل هي مظلمة، فهناك يتيم لا يجد من يدعمه، وفقير لا يجد من يعينه، أو يرحمه، أو يقيل عثرته، أبَعْد هذه الروعة روعة؟ أبَعْد هذا البيان بيان؟
ولذلك ورد عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أنه قال كلمة تدل على فقه في الدين، وعلى وعيه بمرادات الله سبحانه وتعالى، وعلى فهم لحقوق العباد، حيث قال: (الأفواه الجائعة أحق بالصدقات من بيت الله الحرام).
هذا هو الفقه، وهذه هي النظرة الواعية.
دعونا نتعرف أين تصرف الصدقة؟ وأين يصرف الدينار؟
فهذا شخص يريد أن يبني مسجدًا، وذلك يريد أن ينشر كتابًا، وثالث يطمع في الازدياد من الحج التطوع والعمرة، ورابع، وخامس،…، وكله ذلك طيب وحسن ولكن…
لنبحث عن الأولويات! فالأولويات هم هؤلاء الناس، وهؤلاء العباد الذين ينبغي أن نشعر بهم، وأن نحقق لهم حياة كريمة، وأن نذهب إلى لجان الخير، وبيت الزكاة، ومؤسسات العطاء، ورجال الأعمال، والتجار، ونقول لهم: هناك من لا يعلم أحد عن أحوالهم شيئًا، فهذه فرصتكم، وأنتم الذين عودتم البلاد والعباد في الداخل والخارج على العطاء، فيجب أن نلتفت إلى هذه الشرائح، حتى نضع الصدقة، والفضل، والعطاء، والخير، في المكان الصحيح، فالأفواه الجائعة أحق بالصدقات من بيت الله الحرام.
أما النموذج الأخير من هذه الآيات فهو قول الله تبارك وتعالى: {إن الإنسان خُلق هلوعاً. إذا مسه الشر جزوعاً. وإذا مسه الخير منوعاً. إلا المصلين. الذين هم على صلاتهم دائمون. والذين في أموالهم حق معلوم. للسائل والمحروم. والذين يصدقون بيوم الدين. والذين هم من عذاب ربهم مشفقون. إن عذاب ربهم غير مأمون}، إلى آخر الآيات..
لاحظ الصفة التي كانت في هذا الإنسان أنه خُلق هلوعاً، كيف؟ إذا مسه الشر جزوعاً، أي يتبرم، ويتسخط لوقوع الشر عليه، وإذا مسه الخير منوعاً، أي شح، وبخل بما لديه، فما الذي يهذب هذا الإنسان إذن؟ إنها الصلاة، {إلا المصلين}، ولكن أي نوع من المصلين؟
الصلاة إن كانت حقيقية، فهي صلة بين العبد وربه سبحانه وتعالى كما قال الحسن البصري: (من أراد أن يُكلم الله فليدخل في الصلاة، ومن أراد أن يكلمه الله فليقرأ القرآن)، فالصلاة رسالة الله إليك، فمن هم المصلون؟ {الذين هم على صلاتهم دائمون}، أي محافظون، وماذا يترتب على ذلك؟ ذهاب الجشع والبخل، {والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم}، فهناك سائل يطلب من تلقاء نفسه، وهناك محروم يجب أن تحس فيه، وتبحث عنه، فالراحمون كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن)، وقال: (من لا يَرحم لا يُرحم)، وقال: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء)، وقال: (لا تُنزع الرحمة إلا من شقي).
فإذا أردنا الحصول على الرحمة، فلنرحم عباد الله، وإذا أردت أن ترحم عباد الله، فلا تسأل من هذا المسكين المنكوب، لا تسأل عن دينه، ولا عن مذهبه، ولا عن جنسيته، ولا عن انتمائه؛ ولكن انظر إلى حاله: هل يستحق، أو لا يستحق؟ فان استحق، فلتخرج منك هذه إليه، واعلم أن المال أولاً وأخيراً هو للحق سبحانه وتعالى، فلنحقق العبودية الاجتماعية في حياتنا من خلال تفريج كربات المكروبين، لعل وعسى أن يشملنا الله سبحانه وتعالى وإياكم برحمته.