بينى وبينكم 2005 الحلقة التاسعة عشر التعايش ج 3
التعايش ج3
لا بد أن يكون للعقلاء من كل طائفة، وفرقة، ومنهج، دور بارز وواضح في محاصرة هذا الموضوع الخطير الذي يعصف بمكونات الأمة بأجمعها، وإن لم يكن حلاً جذرياً لأصل هذه المأساة، حتى لا نكون مثاليين كثيراً في تنظيرنا، فلا أقل من التخفيف منها، وجعلها طارئة، ومنزوية، فلا تكون هي الأصل، والشغل الشاغل، وتهلكنا، وتهلك الجميع.
ومن الشواهد الواقعية على ذلك:
جلسة ووليمة كبيرة، يأتي إليها المدعوون، والمعارف، والجيران، والأصحاب في العمل، باختلاف مشاربهم، وتعدد توجهاتهم، فهذا له انتماء فكري معين، والثاني له انتماء حزبي سياسي، والثالث له عقيدة معينة، والرابع غير مبالٍ، والخامس…. يجتمعون، ويتناولون الطعام، ومن بعده الشاي، ويتخلل ذلك أحاديث ودية، ومشاعر أخوية، إلا أن البعض من الناس لربما لخطأ في تربيته، وخلل في تصوره، لا يعجبه هذا التوافق والانسجام، فيحاول بحسن نية أو سوئها تعكير هذا الصفو، وإفساد هذا الوداد، وإذا بأحد هؤلاء يقول: إنه يوجد بيننا فلان المستشار في وزارة الأوقاف، وكذلك الشيخ فلان من المذهب الاثني عشري الجعفري، فلماذا لا يدور بينهما حوار في بعض القضايا العالقة: كقضية العصمة، وقضية الإمامة نصاً، وغير ذلك!! وإذا بالأخ المستشار يقطع الطريق على هذا الفضولي، ويقول: نعم، الحوار هو الحل في كل مشاكلنا، وعلى الأقل إن لم نصل من خلاله إلى نتيجة، فلا أقل من أن تفهم وجهة نظري بشكل صحيح، لأنه في كثير من الأحيان يكون أساس الإشكال ناتجاً عن سوء فهم، فالخروج من الحوار بوصولنا إلى فهم بعضنا البعض، هذه بحد ذاتها نعمة عظيمة؛ لأنك إن فهمتني فهماً صحيحاً، وتصورتني تصوراً واضحاً، فإن حكمك وتعاملك معي سيكون غير السابق، ولكن لا بد لهذا الحوار من قواعد، وضوابط، ليخرج بفائدته، ومن ذلك:
أولاً: حتى يكون الحوار ناجحاً لا بد أن يكون في مكان فيه مكتبة ضخمة، تحوي مراجع الكتب لكلا المذهبين السني والشيعي، وفيها أيضاً الطبعات المعتمدة.
ثانياً: لا ينبغي لمثل هذه الحوارات أو النقاشات أن يحضرها عامة الناس، أو الأطفال الصغار، فما دخل هؤلاء في مجلس يتكلم في دقائق الأمور العقائدية، والتاريخية، والقضايا الملتبسة، التي قد تسبب لهم تشويشاً، وتحدث عندهم إشكالات هم في غنى عنها، ولن يُسألوا عنها، وقد جاء في الأثر: ما أنت بمحدثٍ الناسَ بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة، وفي الأثر الآخر: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟!
ثالثاً: يمنع بتاتاً تسجيل الحوار، حتى لا يصبح مباراة، وانتصاراً للنفس.
رابعاً: أي سب، أو جرح، أو شتم، أو تنقص، أو طعن، من أي طرف من الجالسين من أي انتماء لأي رمز تاريخي أو معاصر، فإن باب الحوار يقفل مباشرة؛ لأننا أتينا لنتحاور، لا لنتشاتم، كما يحدث في بعض الفضائيات.
خامساً: كل واحد من المتحاورين يساعده اثنان من مذهبه من طلبة العلم؛ لأنه قد يستشهد غلطاً، وقد يسهو، وقد يحتاج إلى مساعدة، فعقل الواحد ليس كعقول ثلاثة، والتفكير الجمعي غير التفكير الفردي.
إلى غير ذلك من الشروط، والضوابط التي وضعها الشيخ، والتي جعلت الحوار يثمر، ويخرج بنتائج طيبة.
أقول: إذا كان رب العالمين جل جلاله يرشدنا بقوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن}، ولاحظ كلمة أحسن، على وزن أفعل، وليس حسن، أي بأفضل ما تملك من أسلوب، وأدب، ورقة، ومنطق، تستخدمه في الجدال مع الذي يخالفك في الدين، ويناقضك في أصل الاعتقاد، فكيف الحال مع أبناء الدين الواحد، والملة الواحدة؟!
مثل آخر: الحوار السلفي الصوفي؛ لأنه مدرستان متناقضتان، نأخذ نموذجاً عليه للإمام ابن قيم الجوزية، لنرى ماذا يقول عن شطحات الصوفية في كتابه: (مدارك السالكين)؟!
قال: وهذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين من الناس:
إحداهما: حجبت بها عن محاسن هذه الطائفة، ولطف نفوسهم، وصدق معاملتهم، فأهدروها لأجل هذه الشطحات، وأنكروها غاية الإنكار، وأساءوا الظن بهم مطلقاً، وهذا عدوان وإسراف. فلو كان كل من أخطأ، أو غلط، تُرِك جملة، وأهدرت محاسنه، لفسدت العلوم والصناعات، والحكم، وتعطلت معالمها.
والطائفة الثانية: حجبوا بما رأوه من محاسن القوم، وصفاء قلوبهم، وصحة عزائمهم، وحسن معاملاتهم عن رؤية عيوب شطحاتهم، ونقصانها، فسحبوا عليها ذيل المحاسن، وأجروا عليها حكم القبول والانتصار لها، واستظهروا بها في سلوكه، وهؤلاء أيضاً معتدون مفرطون.
والطائفة الثالثة: – وهم أهل العدل والإنصاف – الذين أعطوا كل ذي حق حقه، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته، فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول، ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح. بل قبلوا ما يقبل. وردوا ما يرد.
هكذا ينبغي لنا أن نتعلم الإنصاف في الحكم على الناس.
وتعالوا بنا لنستمع لرجل عاقل ومنصف، نختلف معه في الانتماء والعقائد، ولكننا نتفق معه في قضية العدل، والإنصاف، وفهم الواقع، إنه الأب الدكتور جورج داود، من منطقة الضنية في بيروت، التي عرف عنها الإرهاب، والتضليل، والقتل، والسحل، فكيف حال غير المسلمين في هذه البيئة؟
يقول جورج داود معرِّفاً بنفسه: أنا الأب الدكتور جورج داود من بلدة حقل العزيمة الضنية، قضاء طرابلس، أحمل دكتوراه في اللغة العربية وآدابها، وأحمل دكتوراه في اللاهوت، وأعتز بانتمائي إلى هذه المنطقة التي أقول عنها منطقة أبية، تعيش التعايش بكل أبعاده، منطقة الضنية تتألف من مسلمين ومسيحيين، سكانها المسلمون يشكلون أكثر من 70 في المئة في الجبل والساحل، وهم يطلقون علي: كاهن الضنية، وليس كاهن المسيحيين في الضنية.
قلتُ له:
هذا التعريف يثير تساؤلاً بأن الضنية عرفت عبر الإعلام العربي عموماً أنها منطقة احتقان، وأن فيها أصولية مسلمة، فكيف يكون التعايش رغم هذا الجو العام الذي يوحي بعدم إمكان التعايش بين الطوائف؟
فقال لي:
كإعلاميين عرب أتيتم من الكويت نقول لكم، ولكل العالم العربي، والإسلامي، والعالمي: إن الضنية ما كانت يوماً ضنية يعيش فيها الأصوليون، وتحتقن فيها الآراء المذهبية، لكن ولسوء حظ إعلامنا، ونرجو ألا تكونوا كذلك فإن الإعلام استعمل كلمة الضنية كورقة يعيش عليها السياسيون في بلادنا، وفي غير بلادنا، نحن نعرف شيئاً واحداً: أن الضنية ليس فيها أصوليون، لا مسلمون ولا مسيحيون، وأنا أنتمي بكهنوتي إلى رجال الضنية المسلمون الكبار مشايخ الضنية، فليس عندنا أحزاب متطرفة، نعيش أتراحهم، ويعيشون أتراحنا، نشاركهم الأفراح، ويشاركوننا الأفراح، في كل مناسبة تجدون الكل كواحد، والواحد كالكل.
وأقول معلقاً على هذا الكلام الجميل الذي صدر من الأب جورج داود:
إن الإعلام العربي صوّر لنا الضنية كمنطقة إرهاب، ودماء، وأن فيها أناساً متوحشون، فلو أنني ذكرتُ للناس أن هذه المنطقة ليس فيها شيء مما ذكر، وأن كل ذلك ما هو إلا دعاية إعلامية، وأن القضية وراءها خلفيات سياسية مع الأسف، فمن الممكن أن يأتيك أحد المتفذلكين ويقول: إن هذا الشيخ يريد أن يلطف صورة الإرهابيين!!
ولكن عندما تأتي هذه الشهادة من الأب الدكتور جورج داود، من أبناء تلك المنطقة، ويبين أنه لا يوجد في المنطقة لا أصولية إسلامية، ولا أصولية مسيحية، فأظن أن هذه الشهادة يكون لها طعم آخر.
ثم يكمل الأب جورج داود كلامه قائلاً:
إنني قد عشت التجربة العراقية المرة شخصياً، حيث أنني لم أرتدِ ثياب النوم ل 15 يوماً متتالية، في سنة 1975، حيث كان هناك شحن إعلامي أن مدًّا إسلامياً سيقتل المسيحيين في منطقة ما، ولكن كان العكس هو الصحيح.
وهذا كما حصل في لبنان من تفجير للكنائس، وتهديم للمساجد، فتبين بعد الخبرة، أن هناك أنظمة عالمية ربما كانت من الصهيونية العالمية، أو من غير الصهيونية العالمية، تريد أن تعيث خراباً وفساداً ليس في لبنان فحسب، بل في العالم العربي القريب من إسرائيل، فهناك فكر متطرف يدخل العالم الإسلامي في الأرض العربية، ليدمر الإسلام! كيف نجيز لأنفسنا أن ندمر كنيسة، وهي بيت عبادة؟! كيف نجيز لأنفسنا أن ندمر مسجداً؟! كيف نجيز لأنفسنا أن نقتل رجلاً يذهب صباحاً ليعود بربطة خبز إلى عائلته؟! أهكذا فعل عمر، أو أبو بكر، أو عثمان، أو الصالحون القدامى؟! أهكذا فعل تلاميذ السيد المسيح؟! كلا.
ولذلك أقول: احذروا من لبننة العراق، ومن لبننة البلاد العربية كلها، والإسلامية، وإن كانت في مطارف الدنيا، ولذلك نقول للمثقف والإعلامي: تكلم ولكن لا تكن طائفياً، تكلم ولا تكن مذهبياً، تكلم ولا تكن حتى قطرياً، وأذكرك ببيت شعر لشاعر كبير في عالمنا العربي يقول في نهايته:
ليس الصليب حديداً كان أم خشباً
الصليب لا يقاتل، والقرآن لا يقاتل، والإنجيل لا يقاتل.
عندما نقول: إن التطرف من الدين، فهذا تعبير خاطئ، فالدين لا يدعو إلى التطرف، والفكر الثقافي العالمي لا يدعو إلى التطرف؛ لأن الإنسان أخو الإنسان، شاء أم أبى، لكن ويا للأسف هناك جماعات تتاجر بالأديان، فنحن بحاجة إلى توعية كبرى إن كان هناك خطأ، يتولاها كبار القوم من المسلمين، أو من المسيحيين، فيجب تقويم الاعوجاج، قال عمر رضي الله عنه: (إن وجدتم فيّ اعوجاجاً فقوموه بحد سيوفكم).
أقول:
لا شك أن هذا كلام منطقي، فالكل يترقب وينظر متحفزاً بريبة وخوف مما يحدث، فالدكتور الأب ركز على الكبار والرعاة، وركز على الجماعات، وركز على القوى الخارجية، وذكر تحديداً دور الصهيونية، وأنا لا أريد أن أدخل في قضية ما يعرف بنظرية المؤامرة، وأن كل ما يحدث لنا هو نتيجة مؤامرة عالمية للقضاء علينا، لا يهمني الحديث في ذلك، بقدر ما يهمني أن تلك المؤامرات، والأنظمة المشبوهة ما كان لها أن تعمل عملها، وتثمر ثمرات فاسدة، لولا أنها راهنت على أغبياء، أو متمصلحين، أو على أناس عملاء، أو على هؤلاء الذين ليست لهم لا قيم، ولا مبادئ، فضلاً عن دين.
ومن هنا يأتي دور العقلاء في كل طائفة بأن يحاصروا الأمور، وألا يكونوا ضحايا إعلام عربي فاسد سياسياً، وفاسد أخلاقياً، وفاسد بكل ما نعلم من أنواع الفساد، ليحقق مصالحه الشخصية وانتماءاته على حساب الشعوب المسكينة الضعيفة.