بينى وبينكم 2005 الحلقة الثامنة عشر التعايش ج 2
التعايش ج2
ننتقل إلى محور آخر من محاور موضوع التعصب، ألا وهو: أن التعصب أنواع:
فهناك تعصب عنصري.
وهناك تعصب طبقي.
وهناك تعصب ديني.
وهناك تعصب سياسي.
وغير ذلك كثير…
المشكلة أن الإنسان يتكيف مع النوع الذي تربى عليه، فنحن بشر، ولنا تحيزاتنا، ولا يوجد أحد موضوعياً مئة بالمئة، هذا كلام غير واقعي، بل نحن نحاول أن نقترب من الموضوعية، ونحاول أن نحقق مزيداً من الإنصاف للذين لا نتوافق معهم في الفكر، أو في المعتقد، أو في المنهج، أو غيره.
ومن المصائب التي ابتلي بها الناس، لأن البعض قد تربى بطريقة خاطئة، وهذا أمر اكتشفته من خلال الممارسة، ومن خلال حياتنا، عندما يصل التعصب إلى المنابر!! التي من المفروض أن تعلم الإنسان العقلانية، والانضباط، والإنصاف.
وأعني بالمنابر منابر العلم، والمعرفة، والأكاديمية!! مشكلة عويصة عندما تجد دكتوراً جامعياً، أو أستاذاً دكتوراً، أو عميد كلية، ويصنف الطلبة على حسب انتماءاتهم في قضية إعطاء حقوقهم في الدرجات!! هذا كلام لا يليق أبداً، ولا ينبغي أن يكون.
ولذلك فإنني في أول دراسي ألتقي فيه بالطلبة، أذكر لهم طرق النجاح، وهي ثلاثة:
أولاً: الاجتهاد.
ثانياً: الغش.
ثالثاً: الشفاعة، أي الواسطة.
أما الغش فمحرم بلا شك، وأما الواسطة فظلم ظاهر؛ لأنها تساوي المفرط والمستهتر بالمجتهد، بل ربما كان أفضل منه، أما الاجتهاد فمعناه: الحضور، ومعناه: الحل الجيد في الاختبارات النصفية والنهائية، ومعناه: البحث الجيد، ومعناه: المشاركة، وغير ذلك. لكن أن يكون الاجتهاد على خلفية قضية العرق، أو الدين، أو المذهب، أو الحزب، أو حتى الشكل الظاهري، فهذا مردود، وممجوج، فما دخل اللحية، والحجاب، والتدين، وعدم التدين في الدرجات؟!
أعجبني أحد الدكاترة، وهو صديق عزيز أن الذي حصل على المركز الأول ودرجة الامتياز في مادته هي طالبة مسيحية!! نعم هكذا يكون الإنصاف، وتكون العدالة.
ولذلك أوجه كلامي إلى كل أستاذ، ودكتور، ومدرس، في أي مرحلة من المراحل: عامل هؤلاء الطلبة على أنهم أبناؤك أولاً، ثم عاملهم بالعدل والإنصاف، بلا جور ولا إجحاف، وإياك من إقصاء الآخر، والحكم على الناس من انتماءاتها، وحرمانها درجاتها بسبب ذلك! فما علاقة الدرجات، وإعطاء الحقوق بقبيلة فلان، أو حزبه، أو مذهبه، أو طائفته، أو تياره، أو شكله، أو تدينه من عدم تدينه؟!! ليس لكل ذلك علاقة بما ذكرنا، لا من قريب ولا من بعيد.
كذلك من المحاور التي لا بد من الحديث عنها بعد مفهوم التعصب والانتماء وأنواعه، محور: هل التعصب فطره وغريزة، أم أنه سلوك مكتسب؟!
الدكتور حامد زهران خبير علم النفس الاجتماعي ذكر في كتابه: علم النفس الاجتماعي: أنه لا هناك دليل، ولا دراسة، تؤكد على أن التعصب فسيولوجي، والمقصود بـ: فسيولوجي أي وظائف الأعضاء، كما أنه لا يوجد دليل على أنه فطري، لكن هناك استعداد عند الإنسان لأن يكون متعصباً، بمعنى: أن الإنسان توجد لديه قابليات التلقي بالتشكل الثقافي عبر البيئة.
ولكن البيئة تحتمل أكثر من معنى، فهي تعني: الأسرة، والقبيلة، والشارع، والرفقة، والتيار، والانتماء العام، والخطاب الذي يتلقاه الإنسان على مدار الساعة، وغير ذلك، فهناك ركام متنوع يشكل هذه الثقافة، والسؤال:
ما هو أكثر شيء في البيئة يدخل في تشكيل تعصب الإنسان؟
قيل: الأسرة، فهناك دراسة تقول: إن 69 في المئة من أفراد عينة هذه الدراسة قررت أن التعصب مأخوذ ومكتسب من الوالدين مباشرة!!
هل تريدون مثالاً واقعياً على ذلك؟
المشهد الأول: يجلس الأب والأم (من السُّنَّة) أمام شاشة التلفاز، والقصف يتواصل على النجف، أو كربلاء، وهاتان المدينتان لهما خصوصية عند المذهب الاثني عشري الإمامي الشيعي، والأطفال يسألون: ما هذا؟ فيجيب الأب: زادهم الله قتلاً ودماراً!! هؤلاء مذهبهم فاسد، وعقيدتهم باطلة!!
المشهد الآخر: الفلوجة تقصف وتحرق، وهي كما نعلم منطقة سنية، والأب والأم (من الشيعة) جالسان مع أبنائهم، فيسأل الطفل: ما هذا؟ فيجيبه الأب: زادهم الله قتلاً، وسحقاً وتشريداً، هؤلاء هم أعداء آل البيت الأطهار!!
فهذا الطفل الغض الطري المسكين يتلقى هذه المعلومة إما بالتقليد، أو المشاعر، أو الانفعالات، ويخزنها في عقله الباطن؛ لأنه ليس لديه معايير، أو خبرة، أو تفكير مستنير، ومن ثم يبني عليها صروحاً من التعصب المقيت، فأنت أيها الأب، وأنتِ أيتها الأم، تجنيان على أبنائكما بذلك.
وقل مثل ذلك فيما يحدث من كوارث طبيعية، من فيضانات، وزلازل، وأعاصير، فتجد البعض ما إن يسمع بالخبر، حتى يبادر سائلاً: مسلمون أم غير مسلمين؟! فإن كان الجواب بالثاني حمد الله تعالى، ودعا عليهم بالمزيد!!
هذا لا ينبغي أن يكون، والمسلم رحيم بخلق الله تعالى جميعاً، لأن الله تعالى هو رب العالمين، وهو رحيم بالجميع، والعدالة فوق الانتماء، بل إن ديننا يأمرنا بالرحمة في الكلاب والقطط، وفي الحديث: (الخلق عيال الله، فأحب الخلق إلى الله من أحسن إلى عياله)، فأين الرحمة عند هؤلاء؟!
نحن في حاجة ماسة إلى إحياء ثقافة الوسطية، والعقلانية، والعدالة، والدفع بثقافة التعايش، فالتعصب ينمو مع الفرد، ويتدرج معه في الحياة أكثر وأكثر كلما كانت تيارات تشكيل ثقافته تعصبية.
ولكن ليس معنى ذلك أنه لا توجد اختلافات، بل الاختلافات موجودة، وهي واقع، والتعايش يدعو لإقرار الاختلافات، لكن كيفية التعامل معها كيف تكون؟ هذا هو المهم.
وإلا بماذا نفسر وضع ذلك الإنسان الذي هو عضو في أكبر شركات وأكاديميات العلوم الفلكية، ويتعامل مع نظرية نيوتن، ونظرية اينشتاين، وما بعد اينشتاين، ويشرف على إطلاق المركبات الفضائية، ويرصد امتداد الكون، ويرصد اكتشافات الأفلاك، هذا الرجل العلمي، والأكاديمي، والمفكر العالم، الذي يعتبر من أذكياء العالم، يؤمن في الوقت نفسه بعبادة البقر؛ لأنه ينتمي إلى بيئة شبة القارة الهندية، ونزح من هناك إلى كندا، وأمريكا، وأستراليا، ودخل في هذا المضمار وتعلم، وفي كل عام يذهب في إجازة إلى بلده الأصلي؛ لكي يقدم قداس العبودية لتلك البقرة الأنيقة؟!!
قولوا لي بالله عليكم: كيف نجمع بين عقلية شخص يعبد بقرة، وفي الوقت نفسه يعمل في ناسا؟ كيف جمع هذا الإنسان بين عقلية أكاديمية، علمية، رياضية، فيزيائية، نووية، وبين عقلية خرافية تعبد الحيوان، وتخضع للأساطير، وتستسلم للأوهام؟!
علماء التربية يفسرون لنا ذلك: بأن علم الفيزياء، والفلك، والعلوم الكونية قد أخذها بعقله الواعي، وبالتسلسل المنطقي، أخذها وهو يخاطبهم بالمفاهيم المجردة، فمن الطبيعي أن يكون عالماً، أما عبادة البقر فقد أخذها وهو طفل صغير، يرى الوالدين، والجد، والجدة، والقبيلة كلها، تجتمع وتقدس تلك البقرة في الشارع، وفي السوق، وفي الحقل، وفي يوم القداس تجتمع العائلة ويقدسون البقرة، ويرشون عليها الماء المقدس، ويضعون عليها الورد، ويسجدون لها، وغير ذلك، فتسربت تلك الخرافات إلى عقله الباطن، فصارت جزء من شخصيته وتكوينه، لا يستطيع أن ينفك عنها، ولذلك فهو بحاجة إلى موجة كبيرة من المنهج التربوي المتكامل من أجل أن تخلصه من تلك الخرافات.
وهذا الكلام ليس مقصوراً على عبدة البقر كما سلف، بل إن تلك الخرافات موجودة في بيئاتنا العربية، سواء عند المسلمين، أو عند المسيحيين، وهي أثر من آثار التربية والتنشئة الخاطئة.
كنت في زيارة لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبت إلى جبل أحد، وزرت الشهداء، فرأيت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي ترشد الناس في هذا المكان للسنة، والبعد عن البدعة، ثم ذهبنا إلى مقرهم، فأروني بعض الرسائل التي تلقى عند القبور، وإذا بشخص كتب رسالة إلى أحد الشهداء العظام من شهداء أحد رضي الله عنهم يقول له فيها: أنا مقبل على مناقشة رسالة دكتوراه! فيا سيدنا أرجوك أريد درجة الامتياز!!!
إن معنى أن يصل المرء إلى مرحلة الدكتوراه أن يكون قد تعلم منهجية التفكير، والسبيل الأسلم للوصول إلى الحقيقة وتحقيقها، والانتقال من التحقيق إلى التدقيق، فمن العجب أن يكون من هذه حاله طالباً من الأموات النجاح، والحصول على درجة الامتياز، لا بجهده، ولا بوعيه!! هذه مصيبة.
إن ما نراه من تعصب أكثره من التنشئة الاجتماعية، فعندما نربي أبناءنا على عدم المبالاة بالجثث، وموت مشاعرهم تجاه الغرقى، وعدم الحزن من رؤية الدم الذي ينزف من الإنسان أياً كان، فكيف لنا أن نخرج أجيالاً تستطيع أن تتوافق، وأن تتفاهم، وأن تقدم المشتركات على المختلف فيه، والمختلف عليه؟