بينى وبينكم 2005 الحلقة الخامسة عشر الارهاب ج 2
الإرهاب ج2
بطبيعة الحال فإن هذا اللقاء، وهذا الحوار، اشتمل على قضايا كثيرة جدًّا، تحتاج إلى وقفات، وومضات، والتعليق على النقاط زيادة في الإيضاح.
ولذلك أقول:
لا شك أن هذا الموضوع وهو العمل المسلح، والتغيير من خلال الأعمال المادية، موضوع مليء بالشوك، والألغام، وهو مليء بالألغاز في الوقت ذاته، ولذلك فإنه من الصعب أن يطلق الإنسان كلمة الموضوعية أو الحياد في مثل هذا الموضوع؛ لأن هذا العمل يوجد تاريخياً، ويوجد جغرافياً على كل الأرض، فبما أن هناك إنسان، فهذا الإنسان له تاريخ منذ فجر التاريخ، ويوجد سلام، ويوجد عنف، وبما أن هناك أرض يسكنها الإنسان، ففي كل بقعة يوجد عمل مادي، إلا أن الشكل قد يكون واحداً، ولكن الدوافع، والأسباب، والمحركات تتنوع وتتعدد، فقد يكون المثير واحداً، ولكن النتيجة تأخذ طابعاً متلوناً متعدداً، وقد تكون المثيرات والأسباب متعددة، وتكون الصورة المنتجة واحدة! هكذا يقول لنا التاريخ والعلم، ولذلك فأنا أرصد الحدث من زاويتي، وأنت ترصده من زاويتك.
لماذا نقول: الموضوعية صعبة جداً؟
لأننا بشر تتحكم فينا انتماءاتنا، وثقافتنا، وتجاربنا الشخصية، والأيديولوجيات الفكرية التي ننطلق منها، بل وحتى التجربة الذاتية لها أثر في أحكامنا، وكذلك المصلحة لها أثر.
نحن اليوم أمام ظاهرة اجتماعية عالمية، فقد تكون في بلد عبارة عن مؤشرات، وفي آخر حالة، وفي ثالث ظاهرة، وفي رابع أزمة خطيرة جداً، وهكذا…
فتطبيق العلاجات، والفهم، والقالب المادي، والقياس البحت الجاف، على جميع الحالات بنفس المقياس، كلام خاطئ، فلكل منطقة حالتها الخاصة المستقلة، ولكن مع كل ذلك نقول: هناك قواسم مشتركة تجعل دوائر لهذه الاختلافات.
وحتى نؤكد أن عمليات العنف تاريخية، وأنها إنسانية كذلك، أضرب مثلاً بما حدث في الكويت في الستينات من عنف يساري (تفجير، تخريب، الخ..)، لماذا؟
لأنه كانت هناك مجموعة تنتمي إلى فكر خارجي، وظروف سياسية خارجية وداخلية، مع مجموعة لديها دوافع وأيدولوجية وقناعة معينة، مع وجود ظروف سياسية ضاغطة تتراكب، فحدث ظرف معين ولّد هذا العمل العنيف.
وفي الثمانينات حدث عندنا عنف تبناه بعض أبناء المذهب الشيعي، والسبب ظروف خارجية، كقيام الثورة في إيران، وظروف داخلية ارتبطت بقضية حرب الخليج، وانتماء، وتفاعل، ودوافع شخصية، وولاء، كل هذه المعطيات ولدت لدينا حالات من أعمال العنف المسلح التخريبي.
في التسعينات وبعد حرب الخليج الثانية كانت هناك ظروف خارجية، وانتماء داخلي، وتداخل في العلاقات، مما ولّد الإرهاب أو العنف السني من أبناء السنة.
إذن العنف ليس له جنسية، وليس له منهج، وإنما هي ظروف معينة يعيشها الإنسان، وكلمة ظروف هذه كلمة فضفاضة مطاطة، فيدخل فيها الانتماء الفلسفي، الفكري، العقدي، ويدخل فيها طبيعة الشخص نفسه، ويدخل فيها كذلك الظروف الخارجية، والظروف الداخلية، والضغوط، الخ… وكل ذلك يوّلد العمل، ويوسع الدوائر الخ..
وأخطر ما في هذا الموضوع خاصة بعدما تفجرت الأوضاع الأخيرة في المنطقة كلها بأعمال التغيير بالعنف، أن تطرح دراسات، وتعقد مؤتمرات، وتكتب مقالات، وتلقي محاضرات، ويجتمع أناس في ورش عمل، وترفع مذكرات، ولكنها تكون عبارة عن تصفية حسابات لجهة معينة! فيكون التعميم الجائر، والإسقاط الظالم، وكيل التهم جزافاً بدون دليل، وتجفيف المنابع، ليس منابع الإرهاب، أو العنف، أو التغيير الخاطئ، بل الدعوة لتجفيف منابع الدين!! هذه نقطة.
أمر آخر: قد يأتي البعض ويريد أن يبين أنه وسطي، وأن الإسلام دين الوسطية، والسلام، والرحمة، وأنه ليس هناك جهاد، وأن جميع الناس على درجة واحدة، بل الكل سيكون من أهل الجنة!! وبالتالي يدين هذه الأعمال ليس من باب الإدانة الطبيعية، وإنما ردة فعل معاكسة، ولا شك أن ذلك يوقع الإنسان في أخطاء جسيمة، وتناقضات عظيمة، ولذا فالأصل الانطلاق من القناعات الذاتية، وما يراه الإنسان حقًّا.
أمر ثالث: البعض قد ينتفع من هذه الأحداث، فتكون له فرصة سانحة لبحوث، ودراسات، ولقاءات، وغير ذلك.
وأقول: قد تجتمع بعض العناصر في الإنسان كبشر، ولكن هذه مشكلة الكل سوف يتورط فيها، فعزل مجموعة عن مجموعة، والاستئثار بالحل، وأنني أنا الذي أمتلك الحقيقة كلها دون غيري، فهذا إشكال إنساني معقد متراكم متداخل يسمّى إشكالية، وليس أزمة أو مشكلة، ومعروف تعريف الإشكالية في علم الاجتماع، فهي تحتاج إلى جهد متواصل، وكامل، ومخلص، وصادق، ومتراكب بعيد عن الصراعات السياسية، وتصفية الحسابات، والصيد في الماء العكر.
ولذلك فإن كلامي هذا ما هو إلا محاولة للفهم من بعض الزوايا، وإلقاء الضوء على هذه المشكلة؛ لأنه قبل الحديث عن المشكلة لا بد من فهمها والاقتراب منها، والاقتراب منها يجعلنا نجزم أنها قضية اجتماعية، وليست قضية مادية.
الدكتور عبد الوهاب المسيري ركز على هذه القضية تحت عنوان: الاختزال والتركيب في أطروحات فهم المشكلات الاجتماعية، في كتابه: (دراسة في الحركات الهدامة والسرية)، فتكلم في الفصل الأخير عن هذا الموضوع بشيء مهم هو وغيره عن قضية الفرق بين الظاهرة الاجتماعية وبين الماديات، فقضية الظاهرة المادية تكون مساحة التعميم فيها أكبر، فالحديد مثلاً يتمدد بالحرارة؛ لأن في الحديد خصائص ذاتية تؤهله لذلك، فالذي يسلط التجربة على جزء من الحديد، ليخرج بحكم على الحديد كله، هذا غش في العمل، وقصور متعمد في الطريقة، للحصول على نتائج على هواه، وتناسب مقاسه!
هذا كتبسيط، فالمشاكل الاجتماعية ليست كذلك، نعم هناك أغلبية لكنها ليست دائمة ومطردة.
ثم إن القضايا المادية نتائجها سريعة وقريبة، بينما الظواهر الاجتماعية تختلف نتائجها وتتغير نتيجة البحث والاستمرار في التنقيب، فتتسع دائرة الفهم وتتغير القناعة، لماذا؟ لتدخل عنصر الزمان والمكان، بخلاف القضايا المادية.
كذلك مما تذكره البحوث الاجتماعية في الفرق بين القضية المادية، والظاهرة الاجتماعية: أنني في القضية المادية أستطيع أن أنتزع جزء أو جزيئاً من هذا الجين، أو من تلك الطبيعة الكيميائية، أو من هذا العنصر الخام المادي في التكوين الكوني، وأقوم بتجارب على هذه الجزئية من المادة، ومن ثم أخرج بنتيجة، في حين أن القضايا الاجتماعية ليست كذلك، فلا أستطيع أن آخذ دافعاً واحداً، أو محركاً كامناً، وأحكم من خلاله على الجميع، كلاّ، بل هنا دافع، وهناك سبب، وهناك حافز، وهكذا، فلا تستطيع أن تعزل دافعاً عن آخر، كذلك لا بد من مراعاة قضية الزمن، وتجربة الشخص نفسه، وثقافته وآيديولوجيته، وعمره العقلي، وعمره الزمني، وغير ذلك.
نقول هذا الكلام من أجل تجاوز الأطروحات الصحفية السريعة التي انتقدها بعنف الدكتور عبد الوهاب المسيري، والمحصورة بمقال يومي، أو بكتابة سريعة، فهذا حدث يقع هنا، وإذا بالصحافة والإعلام يريدان التعقيب عليه مباشرة وهو لما يكتمل بعد، ولم تتضح صورته، ولا القائم به، ولا الدافع وراءه، ولذلك يكون الكلام في ذلك غير دقيق، وتحوطه جملة من الانتقادات والتناقضات لأنه قام على أساس غير متين، ولا متكامل.
أعود مرة أخرى للحديث عن هذا اللقاء الذي جمعني مع أحد الكوادر الجهادية، والذي له باع طويل في هذه المسيرة، حيث لمستُ من خلال حديثي معه السجية في كلامه ومنطوقه! ولعل هذه النقطة هي مكمن القوة عند أنصار هذا التيار، فكما يقول الدكتور عبد الله النفيسي: إن المجموعات الجهادية هذه تكمن قوتها في بساطتها، وهذه البساطة تعطيها قوة داخلية، وتعطي معوقات لمن يريد أن يدخل معهم في حوار بسيط!!
وهذا كلام غاية في الدقة، فقد يقول لك أحدهم : قبل20 سنة أيام الحرب الأفغانية الأولى كنا نقوم بجمع التبرعات لإخواننا هناك، فنرى الجميع يشاركون ويبذلون ما يستطيعونه، ليس فقط من أناس عاديين، بل من شخصيات سياسية كبيرة، وكان ذلك نوع من المفاخر التي نرفع بها رؤوسنا.
وكان الواحد منا إذا أراد الذهاب لأرض الجهاد وجد التيسيرات الكثيرة، والأبواب المفتوحة، والترحيب على المستوى العائلي، والمجتمعي، والوطني، بل وحتى الدولي!! فالرئيس ريجن رئيس أمريكا الأسبق كان يسمّي الأفغان بالمجاهدين ولا يطلق عليهم إرهابيين!! وكان الذي يعود من أرض الجهاد يستقبل بالحفاوة والتكريم، بل حتى على مستوى سائق التاكسي الذي يعمل في المطار كان إذا علم أن هذا الشخص عائد من أرض الجهاد قام بتوصيله إلى أي مكان يريده بالمجان دون مقابل، من باب المشاركة المعنوية، وكسب الأجر!
هذا فضلاً عن فتاوى المشايخ التي كانت تؤيد هذا العمل، وتجعله من أعظم القربات إلى الله تعالى، وأنه باب العز والكرامة لهذه الأمة!!
فما الذي تغير عن الآن؟!!
الجواب بكل بساطة: أنتم الذين تغيرتم، أما نحن فلم نتغير، فنحن عندنا أرض مغتصبة من قِبَل عدو محتل، فنحن ثابتون على مبدئنا في السابق والآن، وهذا العدو سواء تغيرت جنسيته، أو تغيرت طبيعته، فكل ذلك لا يغير من حقيقة الأمر شيئاً.
لا شك أنه كلام واقعي، يحتاج منا إلى إجابة شافية كافية، فهذه البساطة وهذه التلقائية، كيف لنا أن تناقشها؟
أقول:
أولاً: لا بد أن نفهمها، فلا بد أن نراعي مسألة الزمان، والمكان، والتحولات السياسية، وفهم الجهاد الأول بملابساته السياسية، والجغرافية، ومقاصد الدول، فهل الذين يلومون هذا العمل يبرؤون الدول من المشاركة في الجرائم، والعدوان؟!
ليس كذلك أبداً، إذن لا بد من محاولة للفهم.
ثانياً: قضية العلم والعلماء، سمعنا في خطاب الأمس مع الأخ الذي حاورناه أنه أرسل رسالة إلى بوتين يقول له: تعال شوف المشايخ اللي كانوا يقولون: حربكم واجب أيام الجهاد الأول، والآن الحرب ضد الآخرين اللي نتردد نقول عنهم شوية، يمكن يخاف بالإشارة يسحبونك، الآخرين ﻻ ، جهاد اليوم ﻻﻻﻻ لأنه تغير نوع العدو، وتغير نوع المحتل، ايش الفرق يا ابا؟ كان يقولها بحرقة، وطبعاً كثير من الكلام قاله ولم نسجله لأنه يورطنا، ويورطكم، ويودينا في داهية، فهذه العقلية بطريقة التفكير هذه مع خلفيات كثيرة آيدولوجية. (الكلام غير مفهوم).
ثالثاً: من النقاط التي لا بد من الانتباه إليها، وحملها محمل الجد، ما تردد على لسان الأخ الجهادي في لقائي معه من أن الإنترنت أصبح وجهة كثير من الشباب، ومنه ينطلقون! فمن خلال هذه الوسيلة التي يظن البعض بساطتها وعدم جدواها، كما كنتُ أظن قبل هذا اللقاء، أقول: من خلال هذه الوسيلة يمكن أن يكون هناك ترتيب، وتخطيط، وتدريب، ولقاءات، واتفاقات، ومشاورات، وتنسيق أعمال، بل وأخذ فتاوى والانطلاق من خلالها وعلى ضوئها!! واتخاذ قرارات حاسمة آنية، وتاريخية، وعقائدية! كل ذلك يجري في غفلة عنا، وبعد عن الرقابة، لمعرفة ما يحدث في الخفاء، وما يتم تنسيقه، مما هو نفع أو ضرر على الشخص نفسه، أو على بلده وأمته.
ولذلك اكتشفنا فعلياً وهذا وقع حقيقة وليس خيالاً أن يجلس أحدهم على حاسوبه شهراً، أو شهرين، متقلباً بين المواقع، والمنتديات، والأخبار، وإذا به وبدون مقدمات أصبح في أرض الجهاد!
ولذلك فإن الإنترنت جهاز موجَّه وموجِّه في الوقت ذاته، ففي السابق كان الداعية والمفكر والأديب يجلس مع مجموعة ليقنعهم بفكره: يسار، أو إلحاد، أو إيمان، أو اشتراكي، أو مذهبي، أو طائفي، أما اليوم فقد تغيرت الصورة، فهو بضغطة زر يصل إلى ما يشاء!
أفلا يستحق هذا الموجه لوقفة طويلة جداً من التربويين، ومن الأمنيين، لتلك الاختراقات الكثيرة، ولمعرفة الصواب من الخطأ؟ وكيف يوجه الناس؟ وما هو الجهاد الصحيح؟ وما هو الخيط الرفيع الذي يفصل بين الجهاد في مكانه الصحيح، وبين العبث؟ ومن الذي يميز؟ ومن الذي يحكم؟ وكيف؟
أليست هذه إشكالية تحتاج منا إلى محاولة للفهم والاقتراب، فليست المشكلة كما يقال بهذه البساطة التي تطرح، فالموضوع ساخن، وليس سهلاً، وهو مسؤولية جماعية، وليست فردية.