بينى وبينكم 2006 الحلقة التاسعة عشر مشاهد من اليوم الاخر ج 1
مشاهد من اليوم الآخر ج1
جاءني اتصال من فتاة: السلام عليكم.
قلت: وعليكم السلام.
فقالت: عندي حلم أريد أن تفسره لي.
فقلت: اسمحي لي يا أختي فأنا لا أفهم في تفسير الأحلام، بل أفهم في أحكام الأحلام، وكيف نتعامل مع الرؤيا التي تُفرح النفس، أو التي ينقبض منها القلب.
فقالت: لا تفسر فقط أريدك أن تسمعني!
على ماذا يدل هذا الكلام؟
إنه يدل على أنه يوجد في نفس الإنسان شيء يقول له: إن البشرية، والطبع الإنساني، لا يقف عند هذا الجسد، وليست حدوده هذه الدائرة الضيقة من الماديات، والمحسوسات، وإنما هناك رحابة، واتساع، وأفق واسع جداً في قضية الأرواح، والنفس، والقوى الباطنة، سواء أكانت قوى عقلية، أو قوى نفسية.
فهذا الإنسان بما أنه جسد، وروح، فهو إذن مشاعر، ووجدانات، وفكر، ومفاهيم، فالجسد يُشبعه الطعام والشراب، والعقل غذاؤه المفاهيم والعقائد والأفكار، أما النفس فما هو غذاؤها؟ إنها تحتاج إلى غذاء خاص بها، ولكن إذا كانت النفس التي هي محطة المشاعر تتغذى بغذاء تحتاجه، من غير سند عقلي يضبط هذه المشاعر، فعندها تتولد الخرافة! ولذلك رأينا في كثير من الأمم مثقفًا، وطبيبًا، وأستاذًا جامعيًّا، ومع ذلك يؤمن ببعض الخرافات، والأساطير، والأوهام!! لماذا؟
لأنه تربى على شحن نفسي، غير مؤصل عقلياً، أو ليس مقومًا عقلياً، ومن هنا قلنا: لا بد من إشباع الجانب النفسي، والجانب العقلي، بمعيار آخر هو المعيار العقدي الديني، ألا وهو الغيب، فالغيب حاجة نفسية، فإذا لم تشبعها بطريقة صحيحة، فإنها سوف تُشبع بطريقة خاطئة، فالأديان التي تنتشر الآن في الولايات المتحدة الأمريكية، مليئة بالخرافات، مثل قراءة الكف، والنجوم، والطاقة، وغيرها، بل كان في أسرة ريجن قارئة الفنجال، والمستقبل، والسحر!!
ويجب أن نلاحظ أن الغرب عندما آمن بالغيب، فإنه آمن بالغيب الذي يتفق مع فلسفته، وعقيدته العلمانية الباراجماتية، وهو غيب ليست فيه مسؤولية أخلاقية، أما المسلم، أو حتى العقائدي المسيحي، أو اليهودي، فإنه إذا آمن بالغيب، فإنه يتوجب عليه التزامات دينية، فهو لا يشرب الخمر؛ لأنه يؤمن بأن هناك إلهًا يُحرم عليه الخمر، ولا يهتك العرض، ولا يزني، ولا يأكل أموال الناس بالباطل، ولكن عندما جاءت الحداثة، وجاء التطور، والعلمنة، قال لك: إننا لا نستطيع أن نناقشكم؟ قلنا: ولماذا؟ قالوا: أنتم أُناس غيبيون، ونحن اُناس علميون! وهذا بلا شك تهرب من الحقيقة.
فأقول لهذا العلماني الذي لا يؤمن بالغيب: أنت متناقض في رأيك! فأنت تقول: أصل الإنسان قرد، فقد آمنت بأصل الإنسان على غيبيات دارون، ثم بعد ذلك تأتي وتنكر علينا الإيمان على غيبيات محمد صلى الله عليه وسلم، والقرآن، بل والإنجيل، والتوراة، أن هناك أبًا للبشرية!
فلماذا آمنت بالغيب الدارويني بأن جدّك قرد، ولم تؤمن بغيبنا نحن بأن جدّنا آدم، وحواء؟!
وجاء العلم الآن ليقول لنا: إن نظرية دارون هذه أصبحت خرافة تافهة، يجب أن تُمحى من المناهج، وقد نقضتها الدارونية الجديدة، ثم جاءت بعد ذلك نظريات نسفتها نسفاً في حفريات، وغيرها.
إننا في حديثنا عن الغيب، نريد أن نتكلم عن التوازن النفسي، فالإنسان ليس عقلًا مجردًا، وليس نفسًا مستقلة؛ ولكنه عقل نفساني، أو نفس عاقلة، فهو يحتاج إلى انفعال عقلي، أو عقل منفعل.
نتكلم عن أهمية الغيب، وعقيدة الغيب في الارتقاء بالنفس، وتربية المشاعر، وضبط السلوك، والاستعانة بهذه الإيمانيات في إثراء الحياة.
نتكلم عن مشاهد من اليوم الآخر، هذا اليوم الآخر الذي يؤمن به العقائديون، والذي يجحده الملحدون، والذي لا يهتم به ما يُسمّى عصرياً: بالإلحاد العملي، فلا يكترث بوجود جنة، أو نار، فهذا لا يهمه أبدًا، وبالتالي فهو لا يُنكر، ولا يثبت، بل مشغول بحساباته الدنيوية، وبنشاطه اليومي.
أما نحن فنقول: هذه قضية مصيرية، خطيرة، وجوهرية؛ لأن الله تعالى قال: {الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب}.
فهذه مشاهد منتقاة لليوم الآخر، بعضها من آي الذكر الحكيم، وبعضها الآخر من الهدي النبوي الكريم.
وأبدأ مع هذا الموقف:
تعالوا بنا نقرأ هذا المشهد العجيب الذي يرويه لنا الإمام مسلم عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” آخر من يدخل الجنة رجل، فهو يمشي مرة، ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا ما جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئًا ما أعطاه أحدًا من الأولين والآخرين، فترفع له شجرة، فيقول: أي رب، أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها، وأشرب من مائها، فيقول الله عز وجل: يا ابن آدم، لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها، فيقول: لا، يا رب، ويعاهده أن لا يسأله غيرها، وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول: أي رب، أدنني من هذه لأشرب من مائها، وأستظل بظلها، لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها، فيقول: لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها، فيعاهده أن لا يسأله غيرها، وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين، فيقول: أي رب، أدنني من هذه لأستظل بظلها، وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها، قال: بلى يا رب، هذه، لا أسألك غيرها، وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليها، فيدنيه منها، فإذا أدناه منها فيسمع أصوات أهل الجنة، فيقول: أي رب، أدخلنيها، فيقول: يا ابن آدم ما يصريني منك؟ أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ قال: يا رب، أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟ “، فضحك ابن مسعود، فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ فقالوا: مم تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: ” من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر.
فهذا عطاء أقل أهل الجنة، وآخر من يخرج من النار، فكيف بعطائه سبحانه لمن هو أعظم منه بدرجات؟ كما سأل في رواية أخرى قال: رب، فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم ترَ عينٌ، ولم تسمع أذنٌ، ولم يخطر على قلب بشر.
المشهد الآخر:
كلنا يعلم أن الرياء كله حرام، والرياء أن تريد بعملك أحداً مع الله تعالى، فلا بد من تجريد النية، وإخلاصها لله، وهذه مسألة تحتاج إلى مجاهدة، وإسقاط الأغيار، والاعتماد على الواحد القهار؛ ولكن هل هناك رياء حلال؟
نعم!! ولكن متى؟
عندما يأتي الرجل الصالح يوم القيامة، ويقف في أرض المحشر، وقد نُودي على الراسبين، فأُعطوا صحائفهم بشمالهم، ونُودي على الناجحين الفائزين، فأُعطوا كتبهم بأيمانهم، ففرح الذي فاز يوم القيامة، وخاب وندم من فشل في ذلك اليوم العظيم، هذا الذي فاز، وفرح، يقف متهللاً فرحاً، وكتابه بيده، ويصيح على الملأ: {هاؤم اقرؤوا كتابيه. إني ظننت أني ملاق حسابيه}، يقول: أيها الناس اقرؤوا كتابيه، ها أنا ذا أرائي هنا، أبيّن ما هو موجود في هذا الكتاب، فماذا في كتابه؟
في كتابه أشياء كثيرة:
في كتابه صلاة لله سبحانه وتعالى.
في كتابه دمعات خشية ما رآها أحد، سالت على خده حباً للواحد القهار.
في كتابه صدقات خفية تصدق بها عن حسن نية، وحب، وشفقة، فلم تعلم شماله ما أنفقت يمينه.
في كتابه خطوات إلى بيوت الله تعالى.
في كتابه تقبيل رأس الوالدة، واحترام الوالد، فلا يقول لهما إلا: لبيك.
في كتابه أعمال البر، وأعمال الخير، وأعمال العطاء الخفية، التي لا يعلمها كثير من الناس.
كان يؤمل بهذه الأعمال رحمة الله سبحانه وتعالى أن تُنجيه، فانظروا ماذا في كتابي من نور، ومن عمل، ومن صلاح.
ثم ينطلق يبحث عن سيد الخلق، وحبيب الحق محمد صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أنا أحد أتباعك، أنا الذي آمنت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، انظر إلى كتابي، فيه هديك، وفيه سنتك، قاومني الناس لأني اتبعت هديك، وسنتك، وعابوني لأني سرت على خطاك، وسخروا مني وانتقصوني لأنني أحببت السنن التي جئت بها، فيفرح عليه الصلاة والسلام بنجاة عبد من عباد الله من أتباعه في هذه الساعة العصيبة على أرض المحشر.
أيحق لهذا الإنسان أن يرائي؟ نعم، من حقه أن يرائي.
وإذا به بعد ذلك يجد حشداً كبيراً من الناس، كلهم من الذين يراؤون بأعمالهم يوم القيامة التي نجحوا بها، وأخلصوا بها، صحائفهم ما هي إلا عدل، وخير، وصدقة، وكلمة طيبة، وبر والدين، وإنفاق على الناس، وأخذ بيد المسكين، فيجتمع هؤلاء الأخيار أصحاب الصحائف النورانية في أرض المحشر، ويدخلون الجنة سالمين.
وعلى الطرف الآخر: إنسان كئيب الوجه، مظلم القلب، يده اليمنى خلف ظهره لا يستطيع أن يُخرجها، اليد الآثمة، اليد التي طالما اعتدت على حقوق الناس، وإذا به يقول: {يا ليتني لم أوت كتابيه. ولم أدر ما حسابيه. يا ليتها كانت القاضية. ما أغنى عني ماليه. هلك عني سلطانيه}، أين مالي؟ أين جاهي؟ أين قصري؟ أين حشمي؟ أين سلطاني؟ كل هذا انتهى، لأن كتابه ليس فيه إلا الزنا، والخمر، والفجور، وغيبة الناس، والتجسس على أعراض الخلق، وأكل حقوق العمال، والمساكين، ليس في صحيفته إلا ضلال وإضلال، ومنكر، وإجرام، وخطايا، فلا يستقبله عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كما قال عليه الصلاة والسلام: (ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك).