بينى وبينكم 2006 الحلقة التاسعة من حكم ال البيت ج 2
(من حكم آل البيت)
في كل يوم، وفي كل صلاة نقول: (اللهم صلِ على محمّد، وعلى آل محمّد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل ابراهيم، وبارك على محمّد، وعلى آل محمّد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل ابراهيم، إنك حميد مجيد).
هذه الصلاة الإبراهيمية: هي إقرار، ويقين باعترافنا، وحبنا، ووﻻئنا، وانتمائنا لمحمّد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وللدين الحنيف الذي أتى به الأنبياء كلهم، وهو توحيد الله سبحانه وتعالى، وإخلاص العبادة له.
وكل واحد منا يحب أصحاب المعادن الطيبة، والمقامات العالية، والأخيار من الناس، ولو كان هذا الفاضل من غير بيئتك، أو إقليمك، أو عرقك الذي تنتمي إليه، بل هو الانتماء العقدي، والارتباط الديني، فكيف إذا كان هذا الصالح الفاضل من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الذين يجمعون بين شرف النسب، وشرف الرتب، وشرف العبادة؟!
إنهم آل البيت الكرام، الذين أوصانا الرسول صلى الله عليه وسلم بهم كثيراً، فحبهم دين، وعقيدة، وموالاتهم دليل صدق الإيمان.
لن أتكلم عن آل البيت باعتبار شخصية معينة، ولا عن الحقوق الواجبة لهم، بل سأتكلم عن قيم، وأخلاقيات، وحكم، وسلوكيات، لهؤﻻء الأكارم، نأخذ مشهداً من هنا، وموقفاً من هناك، نرطب بها القلوب، ونقدم نموذجاً عملياً ذا رسالة وهدف، في عصر النماذج العملية التي تُقدَّم للناس، من مطربين، وفنانين، وعارضي أزياء، وغيرها، حتى غدت هذه النماذج هي التي تُبرَز، وتُشهَر، ويُصنع منها الأبطال، والنجومية!! وقد ترتبط بسلعة تجارية، الهدف منها الربح المادي، والكسب السريع، على حساب أذواق، وعقول، بل ودين المشاهدين، والمتابعين!!
وأنا دائماً أقول: إن الإنسان ضحية دعاية، وهو في الأغلب ضعيف، وأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما قال: الناس ثلاثة: عالم، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، لم يكن مخطئاً؛ لأنه يصف واقع أكثر الناس الذين يخضعون للقيل، والقال، ولثقافة الصحافة، وللإشاعات!
وإلا فمن يصدق أن مثل مارادونا، ومن منا لا يعرف مارادونا؟!، هذا النجم الذي يعرفه الناس أكثر من أي مثقف، وأي عبقري، وأي فيلسوف، وأي مفكر، بل وأي علم ، أو داعية، أقول: من منا يعرف أن هذا الرجل له ولد من الحرام؟!! أي علاقات محرمة، وأنه مدمن مخدرات، وأنه يتعالج، ويدفع آلاف الدولارات، بل ملايين الدولارات، وأنه دخل في برنامج طويل، ورعاية سياسية، ورعاية اقتصادية، لعلاج نفسه!!
بل إنه عُرف عنه عدم احترام القانون العام، ففي إحدى الدورات الرياضية العالمية، نشرت الصحف أنه جاء إلى اﻻستاذ الرياضي، وقد تجاوز الإشارات الحمراء، وتجاوز قوانين المرور! وفوق هذا كله شوهد في المنصة يدخن!!
ومع كل هذه الانتهاكات والانتكاسات استطاعت الدعاية، والإعلان، أن تصنع منه بطلاً، وأن تروج لبعض السلع التجارية بقيام هذا النكرة بأكلها، أو شربها، أو حتى الظهور بجانبها، فتجد الكبير قبل الصغير يتنافسون، ويتسابقون إلى هذا المشروب الغازي، أو قطعة الشوكولاتة؛ لأن مارادونا شرب هذا المشروب، وأكل هذه القطعة من الشوكولاتة!!
إنها الأضواء الخادعة، والرموز التي تُروَّج للناس مع الأسف.
نحن في هذا المقام سنطرح البديل، سنطرح آل البيت في رمزيتهم الإيمانية، والأخلاقية، والسلوكية.
هناك أناس يملكون، وأناس ﻻ يملكون، ومتى ما قسى المالك على الذي ﻻ يملك، ونسيه، حصلت الفجوة الاجتماعية.
إلا أن الموقف الذي سوف أسرده، موقف تربوي، إيماني، يذكّر الإنسان بالتوازن بين ما يملك، وبين واجباته، فإذا كان لديك خير، ونعمة، فلا مانع أن تستمتع به، ولكن بما لا يؤذي الآخرين، وبما لا يخالف المنظومة القيمية الشرعية التي تنتمي إليها.
كما أن المال، والملك، يشغلان الإنسان عن كثير من واجباته.
إليكم هذه القصة:
جاء رجل إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليكتب له عقداً لمسكن اشتراه، فلما رأى الإمام – وهو صاحب الفراسة، والبصر، والبصيرة -، عظيم سرور الرجل، أراد أن يذكِّره ويعظه بأن ما يملك لا يعدو أن يكون عرضاً زائلاً، فشرع يكتب: اشترى ميت من ميت داراً، في بلد المذنبين، وسكة الغافلين، لها أربعة حدود: الحد الأول ينتهي إلى الموت، والثاني إلى القبر، والثالث إلى الحساب، والرابع إما إلى الجنة، وإما إلى النار!!
فنظر الرجل إلى عقد الشراء فحزن، وبكى بكاء مريراً، وعلم أن الإمام أراد به خيراً، وأراد أن يكشف عنه حجب الغفلة، فقال: يا إمام جئت إليك لتكتب لي عقد شراء دار، فكتبتَ لي عقد شراء مقبرة!!!
فالتفت إليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وقال له:
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها
ﻻ دار للمرء بعد الموت يسكنها إﻻ التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
أين الملوك التي كانت مسلطنة حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها وبيوتنا لخراب الدهر نبنيها
كم من مدائن في الآفاق قد بنيت أمست خراباً وأفنى الموت أهليها
ﻻ تركنن إلى الدنيا وما فيها فالموت ﻻ شك يفنينا ويفنيها
واعمل لدار غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن ناشيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
من يشترِ الدار في الفردوس يعمرها بركعة في ظلام الليل يحييها
فقال الرجل: أفعل يا إمام، أفعل يا إمام.
ثم قال: إنني قد تصدقتُ بداري على الفقراء والمساكين!!
أقول: أليس كل واحد منا بحاجة أن يلتفت إلى نفسه قليلاً، لينفض عن نفسه غبار الغفلة، وينظر إلى هذه الروح المشتتة في القيل، والقال، والجري هنا وهناك بلا طائل، أو منفعة، دينية أو دنيوية!
تعالوا نربي أنفسنا قليلاً على تلك المفاهيم، والأخلاق، والمواعظ، فهؤلاء قوم إذا قالوا عملوا وطبّقوا، أما نحن فكثيراً ما نغفل، وكثيراً ما ننسى، ونتجاهل!
دخل الأشتر النخعي على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهو قائم يصلي بالليل، فقال له: يا أمير المؤمنين، صوم بالنهار وسهر بالليل، وتعب فيما بين!!
فلما فرغ علي من صلاته، قال له: سفر الآخرة طويل، فيحتاج إلى قطعه بسير الليل.
فالسير إلى الآخرة يحتاج إلى عمل، ويحتاج إلى سير حثيث.
في تفسير قول الله تعالى: (فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين)، أن رجلاً سأل علياً رضي الله عنه، فقال: هل تبكي السماء والأرض على أحد؟ فقال: إنه ليس من عبدٍ إلا له مصلى في الأرض، ومصعد عمله في السماء، وإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض، ولا مصعد في السماء.
أي أن السماء والأرض تبكي على ذلك الصالح الذي انقطع عمله بموته، نعم؛ انقطع صعود العمل الصالح، انقطعت التسبيحات، والذكر، والصلاة، والصدقة، وبر الوالدين، انقطع ذلك السجود، والتبتل، والخشوع.
هل دخلت مرة على مسؤول؟ وكان في يقينك أن هذا المسؤول ساخط عليك، وقد استدعاك وهو يمتلئ غيظاً، فماذا يكون شعورك في تلك اللحظة؟
لا شك أن كثيراً منّا سيداخله الهم، والغم، وربما شعر بالخوف، فكيف إذا استدعاك، وألقى عليك القبض، وجاء بك وأنت مقيد بالحديد؟!!
هذا هو الموقف الذي وقع لأبي الحسن العسكري.
وهو علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا إلى أن يصل نسبه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وسمي بالعسكري: لأنه سكن سامراء 20 سنة وبضعة شهور، ومات فيها، و قد سميت هذه المنطقة بالعسكر، عندما انتقل إليها المعتصم بعساكره، فسمي أبو الحسن العسكري بها.
كان الخلفاء، والأمراء من بني العباس أولاد عمومة آل البيت، وكانوا يخافون من التفاف الناس حولهم؛ لصلاحهم، وورعهم، وأحقيتهم في كثير من الأمور، وكان الوشاة المنافقون من أجل التقرب للسلطان ينقلون أخبارهم أولاً بأول.
وفي يوم من أيام جاءت إخبارية للخليفة المتوكل: بأن أبا الحسن العسكري تأتيه رسائل من أنصاره، ومن شيعته، وأنهم يتوافدون عليه، للخروج على الخليفة، وأن لديهم السلاح، بل إن السلاح موجود في دار أبي حسن العسكري!!
فأرسل المتوكل إليه جنداً من الأتراك باغتوه ليلاً، ودخلوا عليه من غير علم، فألقوا القبض عليه، إلا أنهم وجدوه يلبس ثياباً خشنة، ويطأطأ رأسه إلى الأرض، ويقرأ آيات في الوعد والوعيد، على أرض ليس فيها حصير إﻻ التراب، والحصى، فذهلوا من هذا الشيء!!
أين الرسائل؟ أين السلاح؟ أين الأنصار؟ لا شيء!
فحمل على هيئته إلى الخليفة إلى المتوكل، فلما أدخل عليه، رأى فيه نور الجلال، ورأى فيه جمال الوقار، ورأى فيه الهيبة، فأجلسه بجواره، وجعل يتأمله، وكان بيد المتوكل كأس خمر، فقدمه إليه، وقال له: اشرب!
فقال: يا أمير المؤمنين، والله ما خامر لحمي ودمي قط، فأعفني منه.
فأعفاه، وقال: أنشدني شعراً أستحسنه.
فقال: إني لقليل الرواية للشعر.
فقال: لابد أن تنشدني: فأنشده:
باتوا على قُلَلِ الأَجبال تحرسهمْ … غُلْبُ الرِّجَال فَمَا أغنتهمُ القُلَلُ
واستُنزلوا بعد عِزٍّ من معاقلهم … فأُودعوا حُفَراً يَا بئسَ مَا نزلُوا
ناداهمُ صارخٌ من بعدِ مَا قُبِروا … أَيْن الأَسرّة والتيجان والحُلَلُ
أَيْن الْوُجُوه الَّتِي كَانَت منعَّمةً … من دونهَا تُضربُ الأَستار والكِلَلُ
فأفصح الْقَبْر عَنْهُم حِين ساءلهمْ … تِلْكَ الْوُجُوه عَلَيْهَا الدُّود يَقْتَتِلُ
قد طَال دهراً مَا أكلُوا وَمَا شربوا … فَأَصْبحُوا بعد طول الْأكل قد أُكلوا
فأشفق من حضر على علي، وخافوا أن بادرة تبدر إليه، فبكى المتوكل بكاء طويلاً، حتى بلت دموعه لحيته، وبكى من حضره، ثم أمر برفع الشراب، وقال: يا أبا الحسن؛ أعليك دين؟ قال: نعم، أربعة آلاف دينار.
فأمر بدفعها إليه، ورده إلى منزله مكرماً.
لم يخش هذا الإمام في الله لومة لائم، بل قال كلمة الحق، ونطق بالصدق، ولو كان مآل تلك الكلمة الموت!
ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيد الشهداء حمزة، ورجل قال كلمة حق عند سلطان جائر فقتله؟!
لقد تمثل هذا الإمام بهذا الحديث، وسار على خطى حمزة، فالملك لا يدوم.
وعندما كان شاه إيران في قصر عابدين في القاهرة، وجاء ملك الموت، فإنه لم يستأذنه؛ لأنه ملك وزعيم كبير.
وقال الشيخ عبد الحميد كشك في ذلك الموقف كلمته الخالدة: أرسل الملِك( يقصد الله جل جلاله )، الملَك (يعني ملك الموت)، إلى قصر عابدين، فقبض روح الملِك، فمن الملِك؟ فصاح الناس الله.
هكذا كانت وصايا هؤلاء الأئمة، فلا تزلف، ولا نفاق، ولا مجاملة، بل نصح للخليفة، وتذكير له، وترغيب وترهيب، وهذا أنفع للحاكم، ولولي الأمر، وللمسؤول الكبير، من النفاق، والكذب، والمدح الزائف.
هكذا كانت سيرتهم.
ونحن نطالب العلماء، والفقهاء، وأصحاب الرأي المسموع ألا يكون أحدهم قطب رحى ينفّذ به الظلمة ظلمهم، أو جسراً يعبرون عليه لشهواتهم.
هكذا كانت أخلاق آل البيت.
ويستمر مسلسل مواقف آل البيت الأطهار، وأخلاقهم، وتعاملهم.
هذا الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الذي يجهله الكثيرون، والذي يلقب بالحسن المثنى، من أهل الفضل المتقدمين في أهل البيت.
يروي الإمام ابن عساكر في كتابه: تاريخ دمشق: عن الأصمعي الأديب الأريب يقول:
دخلت في الطواف عند السحر، فإذا أنا بغلام شاب، حسن الوجه، حسن القامة، عليه شملة – أي كساء يشتمل به -، وله ذؤابتان – أي الناصية أو منبتها من الرأس -، وهو متعلق بأستار الكعبة، يقول:
ألا أيها المأمول في كل ساعة * شكوت إليك الضر فارحم شكايتي
ألا يا رجائي أنت كاشف كربتي * وهب لي ذنوبي كلها واقض حاجتي
فزادي قليل ما أراه مبلغي * أللزاد أبكي أم لبعد مسافتي
أتيت بأعمال قباح ردية * فما لي الورى خلق جنى كجنايتي
أتحرقني بالنار يا غاية المنى * فأين رجائي ثم أين مخافتي
انظر إلى روعة هذا الكلام! انظر إلى الاستعانة بالله، والتبتل، والخشوع!
قال الأصمعي: فتقدمت إليه، وكشفت عن وجهه، فإذا به الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، فقلت: يا سيدي، مثلك من يقول هذه المقالة، وأنت من أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة؟!
فقال: هيهات يا أصمعي، إن الله خلق الجنة لمن أطاعه، وإن كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه، وإن كان ولداً قرشياً، أما سمعت قول الله عز وجل: { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون}، الآيتين.
علو مقامه، وقربه من الشجرة المباركة، وزهده العظيم، وتبتله، وخضوعه، لم يجعله يغتر ويأمن من مكر الله تعالى، وإنما جعل مقامه طلب الزيادة في هذه العبادة التي جمع فيها بين الرجاء والخشية، وهو التوازن الصحيح الذي ينطلق فيه الإنسان إلى الله عز وجل، فالمؤمن يخاف ذنوبه، ويرجو رحمة ربه، رزقنا الله، وإياكم الرحمة والقبول.
ننتقل للحديث عن خلق التواضع، هذا الخلق الجميل الذي يزيدك في قلوب الناس محبة وقبولاً، لا سيما إن كان التواضع سمة فيك، وطبعاً، ورياضة روحية، تطبعت فيها، لا أنك تتواضع عند الجبابرة، وأهل الدنيا، أما عند الفقراء، فإنك ترفع عقيرتك، وتغتر، ويعلو صوتك، وتتكبر، وتتجبر!
جاء في كتب السير والتراجم أن الحسن بن علي رضي الله عنهما: مر بصبيان معهم كسر خبز، فاستضافوه، فنزل من فرسه، فأكل معهم، ثم حملهم إلى منزله، وأطعمهم وكساهم، وقال: اليد لهم؛ لأنهم لم يجدوا غير ما أطعموني، وإنا نجد أكثر منه.
إنها أخلاق النبوة، وهي الأخلاق التي نريد.
مشهد آخر للإمام علي زين العابدين، وهو الشخص الوحيد الذي نجا من مذبحة كربلاء من الرجال، لأنه كان محموماً، وقد سمي بزين العابدين لشدة عبادته، وتبتله لله تعالى.
هذا الزين، هذا الكريم جعلت جارية له تسكب عليه الماء، يتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجّه!! فرفع علي بن الحسين رأسه إليها، فقالت الجارية: إن الله عز وجل يقول: {والكاظمين الغيظ}، فقال لها: قد كظمت غيظي. قالت: {والعافين عن الناس}، قال: قد عفا الله عنك. قالت: {والله يحب المحسنين}، قال: فاذهبي فأنت حرة!!
ما هذ الأخلاق العظيمة؟
لكنها ليست غريبة أبداً على أهل بيت النبوة.
نأتي إلى الإمام محمد ابن الحنفية، وهو أخو الحسن، والحسين، من أبيهما علي، وسمي بابن الحنفية؛ لأن أمه كانت من بني حنيفة.
لكل إنسان طاقة.
كان محمد بن الحنفية فارساً مقداماً، يقذف به والده في مقدمات المعارك، وكان الحسن، والحسين يكونان بجوار الإمام علي، فقيل لمحمد يوماً: كيف كان أبوك يقحمك المهالك، ويولجك المضائق، دون أخويك الحسن والحسين؟
فقال: لأنهما كانا عينيه، وكنت يديه، وكان يقي عينيه بيديه!!
هكذا كانت حكمتهم، وبراعتهم، وبلاغتهم رضي الله عنهم.
هؤلاء هم رجال آلا البيت، فماذا عن نسائهم؟
لنقرأ هذا المشهد العجيب:
إنها صفية بنت عبد المطلب، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوجة العوام بن خويلد، وأم الزبير بن العوام، هذه المرأة ذات الجلد، والحكمة، والشجاعة، والخدمة، والبلاغة، ففي معركة أحد حين اشتد الوقع على المسلمين، كانت هذه المرأة تسقي الجرحى، وتبري الرماح، ومع ذلك تتكلم بكلام بليغ يرفع الهمة، فلما علمت أن جيش المسلمين قد انكشف، وبدأ التراجع، والكثير منهم ألقى سلاحه، أخذت الرمح وصاحت بهم: أتتركون رسول الله صلى الله عليه وسلم! ومضت بين الرجال تطعن كاللبؤة لا تخاف شيئاً، ولما جاء الخبر بأن أسد الله وأسد رسوله حمزة قد قتل، أقبلت صفية لتنظر إليه، وكان أخاها لأبيها وأمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام: القها فأرجعها، لا ترى ما بأخيها.
فقال لها: يا أمه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي.
فقالت: ولم؟ وقد بلغني أن قد مُثِّل بأخي، وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك! لأحتسبنّ، ولأصبرنّ إن شاء الله.
فلما جاء الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، قال: خل سبيلها، فأتته، فنظرت إليه، فصلّت عليه، واسترجعت، واستغفرت له!!
نعم، القلب يحزن، والعين تدمع، ولكن أن يصل الأمر إلى ضرب الخد، وشق الجيب، والاعتراض على قضاء الله تعالى! فهذا لا يجوز بحال.
انظر إلى يقين هذه المرأة، فالكل يموت، فالكل يجرح، ولكن الصبر عند الصدمة الأولى، كما قال صلى الله عليه وسلم.
هذه لمحة سريعة من قيم، وأخلاقيات، وحكم آل البيت رضي الله عنهم، أمَا آن لنا أن نصوّب المسار، والمسير، من أجل أن ننجو في المصير، فنترك القدوات الفاسدة، التي يصدّرها لنا الإعلام، والدعاية، والإعلان، من أغاني فيديو كليب، ومن لاعبين، وفنانين، ومن أناس لا ذمة لهم، ولا دين، ولا أخلاق، ولا مروءة، إلا ثقافة الجسد، وثقافة الاستهلاك.
أمَا آن لنا أن نلتف حول قيم، وأخلاقيات النبوة، وآل بيت النبوة، والصحب الكرام، أرجو ذلك.