بينى وبينكم 2006 الحلقة الثالثة والعشرون الغريق الحي ج 1
الغريق الحي ج1
صليت في أحد المساجد، فلما سلمنا من الصلاة، كان بجواري شخص في صوته بحة، قد تساقطت بعض رموشه، وسمعته بعد ذلك يتجاذب أطراف الحديث مع أهل المسجد في قضية العّبارة المصرية: عبّارة السلام! التي غرقت بمن فيها في القصة المعروفة، فلما جلست معه، وسمعت كلامه قلت له: إن كلامك مليء بالعبر والعظات، ولا بد من الاستفادة منها، ونقلها للناس.
إنه الأخ: كمال أبو طه، من حفظة كتاب الله تعالى، من منطقة سوهاج في مصر.
واتفقنا أننا لن نتكلم في الشق القانوني الذي يعالج في مجاله، ولا في الشق السياسي، وإنما في الجانب التربوي القيمي الإيماني العقائدي.
والسؤال الذي أبدأ به هذا الحوار:
كيف كانت بداية الكارثة؟
فقال:
في حوالي الساعة العاشرة والنصف ليلاً كنت جالسًا غرفتي في كبينة الباخرة، مع ثلاثة أشخاص أنا رابعهم، وكنت أشعر قبل ركوبي السفينة أن أمرًا سيحدث لنا!! ولذلك لم يأتنا النوم في تلك الفترة، أما زملائي فقد ناموا جميعًا، وفجأة إذا بي أسمع نداء الطوارئ ينطلق في أرجاء العبارة بأن حريقًا قد اشتعل فيها، فلم أنظر إلى أي شيء من أغراضي، أو أموالي، أو كتبي، بل من سوء حظي أنني كنت قد أخذت معي جميع أوراقي الثبوتية، وشهادتي الدراسية، وكلها فقدت في هذه الحادثة، والحمد لله على كل حال.
المهم أنني عند سماعي للنداء تركت كل شيء، وخرجت لا ألوي على شيء، وإنما نفسي نفسي، فصعدت على السلم، فلم أر أحدًا يصعد معي، وكأنني كنت بمفردي في السفينة! وإذا بي أنا المتأخر عن الناس جميعًا، فقد كانوا قد صعدوا إلى أعلى السفينة قبلي بكثير، فلما وصلت ظهر السفينة وإذا بالدخان يحيط بنا من كل ناحية، ولأول مرة في حياتي أرى دخانًا بهذه الكثافة، وكانت رائحة الحريق تنبعث من كل مكان، فسألت عن سبب ذلك، فقيل لي: هذا أمر بسيط، فالموضوع باختصار أن عمود العادم للعبّارة فيه دخان، وسوف نقوم بإطفائه الآن! إلا أن الأمر لم يكن كما قالوا أبدًا، بل كان حريقًا هائلاً أتى على الفينة بأكملها! والداهية أنه لم يكن في سفينة وسائل النجاة المعتادة والتي ينبغي توافرها، كأطواق نجاة، وقوارب النجاة، وغيرها!! وفجأة بدأ الناس يصرخون بشدة ويقولون: لا إله إلا الله، وكان ذلك بلهفة، وخوف، حتى أنني أطلقت عليه يوم القيامة؛ لأنني رأيت فيه نفس الأهوال التي قرأتها عن يوم القيامة! فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، هذه كارثة لا يستطيع الإنسان مجاراتها، فنظرت إلى الناس، وكان مشهدًا عجيبًا، فهناك أطفال، ونساء، وعجائز، وشباب، ولا أحد يعلم ما هي النهاية.
قلتُ:
وما هي أعظم وأشد المشاهد التي ما زالت مرسومة في ذاكرتك من تلك المأساة؟
فقال:
المشاهد كثيرة، ولكن كان من أشدها وأعظمها عليّ: أن السفينة ابتدأت حركتها تقل، وأصبحت سرعتها تتناقص شيئًا فشيئًا، وأثناء ذلك انطلق طفل من أسرة كانت تسكن في كبينة بجواري، مكونة من الرجل وزوجته، وطفلان، وكان هذا الطفل هو الأصغر الذي نجا بعد من هذه الأسرة!! فارتمى هذا الطفل في حجر أمه، وبدأ يبكي بكاء شديدًا، وأبوه وأمه لا يلتفتان إليه، فشدني بكاء الطفل الشديد، وكأنه يعلم أنه سيودعهم في الحال، وسيموتون ويتركونه! فرقّ قلبي له، ثم قلت له: لا تخف يا حبيبي، سينتهي الأمر بإذن الله تعالى، وفي هذه اللحظة إذا بالأنوار تنطفئ في السفينة، وبدأت الأصوات ترتفع، والبكاء يشتد، وبدأت السفينة تميل بالتدريج، فانخفض صوت الصراخ إلا عبارة: لا إله إلا الله! وأصبحت حالة موت.
قلتُ:
وماذا كنت تفعل أنت في هذه اللحظات؟
فقال:
ما كان في لساني أو في قلبي غير قول: إنا لله وإنا إليه راجعون، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ثم أمسكت بحديد سور السفينة، وهنا تذكرت جميع مواقفي، ولحظاتي، فقد مر عليّ شريط حياتي كاملة بسرعة كبيرة: ماذا فعلت، وماذا قلت، وكيف سأقابل الله تعالى؟ وفي هذه اللحظة انقلبت السفينة، وقُذف في البحر من قُذف، وانكفأت السفينة على من انكفأت، فلم أرَ أُسرًا، ولا أولادًا، ولا نساء، فالكل سقط في البحر، وأنا ممسك بالسور، وأقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وكان المنظر ظلامًا في ظلام، كما قال الله تعالى في القرآن: {ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها}، وهذا الذي حدث معي فعلاً، فقد أخرجت يدي فلم أرها من شدة الظلام!! وظللت متعلقًا على تلك الهيئة أكثر من ثلاث دقائق، أو أربع دقائق، وإذا بالسفينة تهوي بسرعة فائقة إلى قعر الماء، فوجدت نفسي في وسط الماء، فبدأت بالسباحة، وأنا أحسنها ولله الحمد، وابتعدت عن السفينة؛ لأن السفينة بسقوطها ذاك ستصنع دوامة ماء، فقلت لا بد من الابتعاد عن الدوامة أمتارًا، والداهية أن الأمر لم يقتصر على كون السفينة متهالكة، أو أنه لا يوجد فيها وسائل السلامة والنجاة، بل زاد الأمر شدة على كل ذلك أن البحر كان هائجًا تلك الليلة، وكانت الريح شديدة جدًّا، والموج عالٍ، والبرد شديدًا، فكان امتحان صعب حتى على الإنسان الذي يعرف السباحة، فإنه لا بد وأن يغرق، وكان في ذهني فقط قول الله تعالى: {وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون} وقوله أيضًا: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم}، فظللت أرددها باستمرار، وقد تكون هي سبب نجاتي.
قلتُ:
وما الذي حدث بعد ذلك؟
فقال:
بعد أن سقطت في الماء، وبدأت أسبح، وكانت مجاهدة كبيرة، وكانت الساعة الثانية ليلاً تقريبًا، فاستمررت على تلك الحالة حتى بزغ الفجر، وشاهدت زرقة الماء والسماء، فبقيت على تلك الحال إلى أن جاء الظهر، ولساني لا يفتر عن ترديد دعاء سيدنا يونس عليه السلام: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، وأتذكر آيات قرآنية، وأخذت أنظر يمينًا وشمالًا، وأدور دورة كاملة في الماء، فلا أجد أحدًا ممن كان معنا في السفينة، والذين يقدر عددهم بـ ١٥٠٠ شخصًا!! وكأنني أنا الراكب الوحيد في السفينة بمفردي، فماذا أفعل في هذه اللحظة؟ وفي هذا الموقف العصيب؟ لا أستطيع البكاء، ولا فعل أي شيء سوى قول: لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، حتى دخلت عليّ لحظة اليأس! وإذا بالشيطان يتدخل في هذا الموقف، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، فجاءني الشيطان وحاول تيئيسي من النجاة، فقد تعبت كثيرًا من السباحة، ولا شيء يلوح في الأفق يدل على النجاة، فقال لي: اخنق نفسك بالماء!! فأمسكت برقبتي لكي أخلص نفسي من نفسي وأستريح؛ ولكنني تذكرت أنني سأموت كافرًا والعياذ بالله، فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم، وهنا جاء الأمل، فأخذت أصارع وأصارع، وآخذ بالأسباب، وأقاوم، وكان أملي بالله تعالى كبيرًا أن ينجيني.