بينى وبينكم 2006 الحلقة الثانية عشر باحث عن السعادة ج 1
الفنان التائب سعيد الزياني
الباحث عن السعادة ج1
من أمتع اللقاءات التي أجريتها، وأجمل الحوارات التي رئستها، ذلك الحوار الذي كان مع ضيف بدأ مغنياً، ثم تحول ممثلاً، ثم مذيعاً، ثم مقدم برامج، ومقدم نشرات أخبار، ثم كاتباً صحفياً! هذه الخلطة العجيبة هي التي جعلت عبد الحليم حافظ المطرب المعروف يقول له بلهجته المصرية الجميلة: أنت بتاع كله!
هذا الجيل الغنائي القديم الذي إذا قارنت بين صورته القديمة التي تُعرض للسادة المشاهدين، فإنك لا يمكن أن تعتبره من بيئة عربية إطلاقاً، وإنما يُخيل إليك أنه من باريس، أو فينا، أو أي منطقة غربية أخرى، في حين أن الناظر إلى صورته الحالية يجد انقلاباً ضخماً، وتغيرًا جذريًّا، وهذا الانقلاب ليس في الشكل فحسب، وإنما هو انقلاب في الباطن، في القلب، وفي القيم، وفي المفاهيم، وفي اتخاذ القرار الصعب.
إنه الصديق الحبيب، والمطرب المغربي القديم، والداعية الإسلامي المعاصر الأخ سعيد الزياني.
قلت في بداية حواري معه:
أنت اسمك سعيد، وقد قلت: إنك كنت تبحث عن السعادة، فهل من كلمة حول بحثك، وتجربتك عن السعادة؟
فقال:
أولاً: كل إنسان يتمنى أن يكون سعيداً، حتى الذين يسلكون طريق الشقاء، فهم في سلوكهم لطريق الشقاء يبحثون عن السعادة، ولا شك أن سالك طريق الشقاء وإن كانت نيته البحث عن السعادة، والحصول عليها، فما دام أنه سالك لطريق الشقاء فلن يجني إلا الشقاء، وهذا حال أكثر الناس، وأنا أقول: أكثر الناس في العالم يبحثون عن السعادة من طريق الشقاء، وأنا كنت واحدًا منهم؛ لأني جربت، وهناك مثل يقول: اسأل مجربًا ولا تسأل طبيبًا، فالإنسان عندما يجرب يتيقن، فالناس الذين يبحثون عن السعادة ينقسمون إلى قسمين: أناس وصلوا إلى حيث كان يتراءى لهم أو تتراءى لهم السعادة، مثلهم كمثل العطشان، فالعطشان لا يروي عطشه إلا الماء، فلو ما شاء الله أن يشرب من عصائر وسوائل غيره، فلن يروى عطشه، فالعطشان يبحث عن الماء وهو يموت عطشاً؛ لأنه يعلم أن استمرار حياته مرهون بشرب الماء، فيرى الماء من بعيد، ويتراءى له الماء من بعيد، ولا يهمه أي شيء في سبيل الحصول على الماء، وهذا ما يعبر عنه بـ: الغاية تبرر الوسيلة، فبأي وسيلة لا بد أن أصل إلى الغاية، لكنه عند وصوله يجده مجرد سراب، ووهم.
قلتُ:
أظنك من جيل عبد الحليم حافظ؟
فقال:
نعم، فقد تعرفت على عبد الحليم حافظ عام ١٩٦٩ عندما جاء إلى المغرب، وشاركت معه، وكانت بداية صداقتي معه من تلك الفترة، وكان عمري وقتها تقريباً ١٧ سنة.
قلتُ:
ورأيتُ لك صورة مع هاني شاكر؟
فقال:
هاني شاكر تعرفت عليه عام ١٩٧٧ بعد وفاة عبد الحليم حافظ، وكان يسمع أنني صديق عبد الحليم حافظ، فجاءني المغرب، والتقينا في مدينة الدار البيضاء.
قلتُ:
وهل قمت بدعوة هؤلاء الفنانين؟
فقال:
نعم، بعدما عدت إلى المغرب بعد غياب سنة وثلاثة أشهر، لكي أبحث عن السعادة.
قلتُ:
وكيف بحثت عن السعادة؟
فقال:
سألني أحد الصحفيين عام ١٩٧٤ وكنت وقتها معروف كمذيع، ومقدم برامج، وممثل، ومغني، فسألني سؤالاً، وقال لي: اسمك سعيد فهل أنت سعيد؟! وكان جوابي آنذاك: أنا سعي سين عين ياء، وينقصني الدال، وأنا في بحث عنه، وعندما أجده سأخبرك!
كانت لي برامج إذاعية، وتليفزيونية، ومن برامجي الإذاعية في إذاعة الرباط، برنامج اسمه: أنغام وكلام، وكان شعار البرنامج بصوتي، وبرنامج اسمه: أنغام وكلام، وبرنامج: سمير الليل، وبرنامج: مع الساهرين، وبرنامج: كلمات في أغاني، والبرنامج كان عنوانه صغيرًا؛ ولكن محتواه كبير، فذكرت في البرنامج أنني أبحث عن السعادة، وجمعت نظريات مفكرين، وأدباء، وفلاسفة، كأرسطو، وسقراط، وأفلاطون، وغيرهم، ممن تكلموا في معنى السعادة، وكيفية الحصول عليها، وقلت: بما أنني أخاطب الناس، والناس يسمعون كلامي، فأريد أن أبحث عن السعادة لنفسي، وأدلهم عليها؛ لأن أكثر الناس يبحثون عن السعادة، بل كل الناس يبحثون عنها، ولم يجدها إلا القليل ممن رحم ربي جل وعلا.
وكان من هؤلاء المفكرين الذين تكلموا في السعادة، وله فيها نظرية معروفة: كارل ماركس، الذي انتحرت ابنته الأولى، وابنته الثانية!! فكيف يريد إيصال السعادة إلى الناس، وهو في الحقيقة لم يستطع إيصالها إلى أقرب المقربين إليه؟ هذا لا يعقل، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فقلت: إن هذه النظريات غير صحيحة.
ثم أخذت نظريات لأناس من مختلف الشرائح، من طبقات مختلفة، وسألتهم سؤالين: ماهي السعادة في نظركم؟ ومتى تكون سعيداً؟ واستمعت إلى أجوبتهم، وفي آخر البرنامج قلت: لقد طلبت آراء في السعادة، فحدثوني عن كل شيء إلا عن السعادة! حدثوني عن السرور، والسرور إحساس زائل ينتاب الإنسان لفترة معينة ثم يزول، ويبقي السؤال مطروحاً: ما هي السعادة؟ وأين هم السعداء؟
فقلت: ربما وقع اختياري على أشقياء، ولذا سأفسح المجال لكل المستمعين، ليدلي كل منهم بدلوه، ويعطي رأيه، فاسمتعت إلى آرائهم، فوجدتها آراء متشابهة بألفاظ مختلفة، فعدت وقلت مرة أخرى: لقد طلبت آراء في السعادة، فحدثوني عن كل شيء إلا عن السعادة، حدثوني عن السرور، والسرور إحساس زائل ينتاب الإنسان لفترة معينة ثم يزول، ويبقى السؤال مطروحاً: ما هي السعادة؟ وأين هم السعداء؟ وبعد بحث طويل عن السعادة، لم أصل إلى نتيجة، فقلت: هذه ليست سعادة لأنهم حدثوني عن ماديات، وأشياء ملموسة، والأشياء الملموسة لن تحقق السعادة.
إن علاقتي مع عبد الحليم حافظ، ومع غيره، ومع كبار المسؤولين، علمتني أن السعادة ليست في هذه الأشياء، ليست في المال، ولا في المنصب، ولا في الشهرة، وقد بحثت عن السعادة في كل مكان، ودخلت جميع البيوت دون استئذان عن طريق وسائل الإعلام، فلم أجد من يدلني عن السعادة، فأين هي السعادة إذن؟
وكنت آنذاك أعيش في المغرب، فقلت: سأبحث عنها في أوروبا! فسافرت إلى هولندا ١٩٧٧ ولكن الشقاء والضيق زاد أكثر وأكثر، خاصة أن في هذه السنة توفي عبد الحليم حافظ، ثم عدت إلى بلدي مرة أخرى علني أجد ما أبحث عنه، وكنت أقدم برامج، وألحن، وأكتب، وأغني، ولكنني غير راض عن نفسي، وفي ١٩٨١سافرت مرة أخرى إلى هولندا، وما حولها، ولكن الضيق ازداد أكثر من سابقه، فعدت، وبقي أخي الأكبر مني هناك، ويسّر الله تعالى له أن التقى بمجموعة من الدعاة، فكلموه بلين، ورفق، وأخذوه إلى المسجد، فتأثر أخي بهم، وتغيرت أحواله، وجاءني الخبر إلى المغرب فقيل لي: إن أخاك قد أصابه الجنون، وانتمى إلى منظمة خطيرة!!
وبعد مدة بعث أخي من يزورني، وقال لي: إن أخاك يسلم عليك، فقلت له: وكيف حاله؟ فقال لي: ما شاء الله، هو إمامنا وهو يصلي بنا!! فقلت له: أخي لا يحسن الصلاة لنفسه، فكيف يصلي بكم؟! ولكن هذا فضل الله تعالى عليه، وبعد فترة جاءني مع مجموعة من الأخوة، وزاروني، فحاولت أن أستقيم، وأن أترك المنكرات الخبائث، ولكنني لم أستطع، فسافروا وتركوني، ثم جاءوني بعد سنة، فقلت لأخ منهم: أنا أجد نفسي أعصي الله، وأنا لا أريد ذلك، فكثير من الناس يعصون الله، وهم لا يريدون، كالغريق الذي لا يحسن السباحة فإنه يغرق، فالإنسان يحتاج إلى بيئة صالحة، فقال لي: أمامك حل واحد لا غير، فقلت له: وما هو؟ فذكر لي قصة الرجل الذي قتل ٩٩ نفسًا، وقال لي: لا بد أن تغير بيئتك، فقلت له: وأين أذهب؟ فقال لي: تعال عندنا إلى بلجيكا، فقلت في نفسي: أترك بلدًا إسلاميًّا، وأذهب إلى أوروبا؟! لكنني تذكرت أن أخي قد هداه الله تعالى في أوروبا، فسافرت معهم، وهداني الله تعالى هناك، لأنني كنت أبحث عن الحق أينما كان، فوجدت الراحة والسعادة في الإسلام، ومن جملة التساؤلات التي طرأت على بالي: لماذا أسلم كيت استيفنس؟ ولماذا أسلم روجيه جارودي؟ ولماذا انتحر مايك برونت؟ وكان قد وقع بين يدي كتاب بالفرنسية بعنوان: “الإنتحار” لكاتب فرنسي، فوجدت أن المنتحرين كلهم كانوا قد حققوا رغباتهم، وشهواتهم، وأهدافهم الدنيوية المادية، أما الروحانيات فلم تكن عندهم، فلهذا اقتنعت أن السعادة فقط في دين الله تعالى، وأن هذه السعادة لا يملكها إلا الله، وإذا أراد الله أن يُسعد شخصاً أسعده، فلو اجتمعت الأمة كلها على أن يشقوه فلن يستطيعوا، وإذا أراد الله تعالى أن يُشقي شخصاً أشقاه، ولو اجتمعت الأمة كلها على أن تُسعده والله لن يستطيعوا، لأن الله تعالى قال: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له ومالهم من دونه من وال}.
وبعد سنة وثلاثة أشهر من الغياب رجعت إلى المغرب، فكنت قد خرجت بوجه، ورجعت بغير الوجه الذي خرجت به، وبدأت أتصفح قصاصات الجرائد، والمجلات القديمة، التي كانت تكتب عني، فوجدتُ سؤالًا مضى عليه ١٢ سنة، وهو السؤال الذي سُئلته عام ١٩٧٤، والذي يقول فيه صاحبه: اسمك سعيد فهل أنت سعيد؟ فقلت له آنذاك: اسمي سعي فقط بدون دال، فإذا وجدت الدال سأخبرك، فسألت عن الصحفي الذي سألني هذا السؤال، فقالوا لي: إنه رئيس تحرير جريدة، فكتبت له رسالة: سألتني بتاريخ كذا، وكذا، في جريدة كذا، وكذا السؤال التالي، وكتبت له السؤال، وكان جوابي هو التالي، وكتبت له الجواب، وقلت له: بما أنني وعدتك أن أخبرك بمجرد أن أجد الدال، فإني أقول لك: لقد وجدت الدال، وأنا الآن سعيد، نعم، وجدت الدال في الدين، وفي الدعوة إلى الله تعالى.