بينى وبينكم 2006 الحلقة الحادية والعشرون سجن الخيام ج 1
سجن الخيام ج1
هي قضية تهم كل إنسان فينا، ويجب أن نتضافر لها جميعاً، وأن نؤيدها، بل وتكون نقطة التقاء بين المسلم، والمسيحي، واليهودي، والوثني، واللاديني، والملحد، لأنه بالتنازل عنها، أو الإخلال بها، أو عدم الالتفات لها، بإعطائها الأهمية المطلوبة، فإن المسألة ستنعكس بالسلب والسوء على الجميع.
إنها قضية حسية مادية اجتماعية، وهي في المرتبة الأولى قضية دينية، ومن ثم قضية قانونية.
إنها: قضية حرمة هتك حق الإنسان، وكرامة بني آدم الذي يقول الله تبارك وتعالى عنهم: {ولقد كرمنا بني آدم}، فالله تعالى كرّم هذا الجنس، وهذا النوع، قبل أن يكونوا أدياناً، ومذاهب، ومللًا، ونحلًا، فهذا الإنسان له حقوق، وله كرامة، ولا يجوز التعدي عليه، فالعدالة فوق القانون والنظام، لا العكس، فالعدالة هي المبدأ الكلي، وهي المظلة التي ينبغي للقوانين أن تستظل تحتها.
ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أشار إشارة إلى ما يسمّى اليوم بالمشترك الإنساني فيما عرف بحلف الفضول، وهو اجتماع لرجال من أهل الجاهلية، الكل منهم يمثل قومه، فهو صاحب موقع اجتماعي، وثقل في بيئته الثقافية، وانتمائه العرقي، اجتمعوا على نصرة المظلوم، والأخذ على يد الظالم، فالنبي صلى الله عليه وسلم أيّد هذا المسلك، فقال: لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت.
لماذا؟
لأنه عدل، وحق، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، فما كان من مكرمة أخلاقية سابقة على الإسلام، إلا وتؤيدها العقيدة، وتعززها، وتعمل على نشرها، وإن كان فيها بعض الشوائب، فإنها تُهذّب، ويدفع بها في الطريق الإيجابي الصحيح، ومن هنا تكثر هذه الأيام كلمة المشترك الإنساني، والكليات الإنسانية، فمن أين جاء هذا المشترك الإنساني التي اتفق عليها الشرقي، والغربي، بملله، وأيديولوجياته؟
كانت البداية عندما تمردت أوروبا على الكنيسة، وصنعت لنفسها منظومة أخلاقية قيمية قانونية منفصلة عن الدين، ففصلت بين الأرض والسماء، وارتضت أن يكون العقل هو المصدر، وليس الدين، ثم جاءت بعد ذلك مرحلة الاستنارة، والعقلانية، وحقوق الإنسان، والحريات، فقالوا: إن نحن تنازلنا عن السماء، ولم نعير بالاً للدين، وللمقدس، فمن أين سنأخذ القوانين، والأحكام؟
فكان الجواب: من المشترك الإنساني الذي يجب أن يتفق في منظومة أخلاقية، وهذا المشترك الإنساني أصدر لنا حقوق الإنسان الوثيقة المعروفة في القرن الماضي، والتي تحوي نصوصًا جميلة كثيرة متفق عليها، فمثلاً:
أولاً: عدم قتل المدنيين واستباحتهم، وإقحامهم في حرب سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة.
ثانياً: عدم قتل واستغلال الأسرى خاصة بعد الحروب النازية.
ثالثاً: عدم الإقرار بالحروب الشاملة الدموية المدمرة.
إلى غير ذلك من القوانين، إلا أن هذه القوانين ومع الأسف قد طبقها الغرب على نفسه، واستثمرها داخلياً، أما في نظرته للشرق، والدول النامية، فقد استخدمها كورقة سياسية يُحركها في الوقت الذي يريده! فمثلاً: هذا البلد العربي الطاغي، الذي فيه انتهاك لحقوق الإنسان، يُسكت عنه؛ ولكن متى ما أرادوا أن يضغطوا عليه من أجل تنازلات، أو استسلام، أو كسب تأييد معين، فتحوا ملفه في حقوق الإنسان!
فهي إذن قضية براجماتية، ليس فيها إنسانية، ولا آدمية، ولا مشترك إنساني، بل المصلحية هي التي تحكمها، وإلا بالله عليكم من يصدق أن أسيرًا إسرائيليًّا واحدًا يُسجَن تُهدم لأجله دولة كاملة، وتُقصف البيوت، والمستشفيات، والجسور، والأطفال، والنساء، أمام العالم، والكل يتفرج، في حين أن آلاف الفلسطينيين مأسورون هناك!! فعن أي حقوق يتكلمون؟! وعن أي إنسانية؟ وبأي كرامة يتغزلون؟! إنها مسألة للاستهلاك المحلي، والكذب على العقول، وإلهاء الشعوب، ودغدغة المشاعر، لا أكثر.
يجب أن نقنع أنفسنا، والآخرين، أن الإنسانية والعدالة لا تتجزأ، فأنت تنصف، وتطلب العدالة لنفسك، ولغيرك، حتى وإن كان خصماً لك، وأن تكون في خصومتك شريفاً، ووالله عندما نقرأ في تراث الجاهليين قبل الإسلام نجد أن لديهم من شرف الخصومة، وعدم الاعتداء على الحرمات، ومراعاة الكلمة، أكثر مما يُطلق في جاهلية القرن العشرين الغربية، وأنا أطلق هذا المصطلح، وأتحمل تبعاته الفكرية.
في إحدى سفراتي إلى لبنان، وبعد الجولة في المخيمات الفلسطينية، ذهبتُ إلى سجن الخيام، وهناك رأيتُ واقع هذا السجن الذي كان الإسرائيليون يعذِّبون فيه أبطال المقاومة من الرجال والنساء، بطرق وأساليب يندى لها الجبين، ويعجز اللسان عن وصفها، أو تصورها! وهذه الطرق لا تقتصر على الأمور الجسدية من ضرب بالكورباج الذي هو عبارة عن سلك كهربائي مجدول، والركل بالرجلين، والحبس لمدة طويلة في زنزانة انفرادية لا تتعدى المتر في متر!! مع الضرب في الأماكن الحساسة، والتعليق بالأيدي والأرجل، وبالمقلوب، وغير ذلك، إلا أن هذا كله يهون أمام التعذيب النفسي كإحضار الزوجة وتعريتها أمام السجين، من أجل أن يعترف بالمعلومات التي يريدونها!!
والذي أريد أن أؤكد عليه أن حقوق الإنسان القديمة نُسخت بحقوق جديدة، فما هي هذه الحقوق الجديدة التي يدعمها جناح في الأمم المتحدة، وتتبناها السياسة الأمريكية، والنظام الدولي الجديد؟
إن الحقوق الجديدة، أو ما يسمّى بحقوق ما بعد الحداثة قامت على نقيض الحقوق القديمة، التي جاءت من المشترك الإنساني حين تنازلت أوروبا عن الدين، وانطلقت من الواقع، والعقل، والنظرية النسبية.
أما الغرب اليوم فيقول: ليس هناك ما يسمى بالمشترك الإنساني!! لماذا؟
لأن الإنسانية عبارة عن مجموعة أقليات، فالسود أقلية، والبيض أقلية، والصفر أقلية، والمسلمون أقلية من حيث العموم، والمسيحيون أقلية من حيث العموم، والبوذيون الشواذ أقلية، وعبدة الشيطان أقلية، والمثليون أقلية، والعجزة أقلية، والأطفال أقلية، وهكذا…، فعن أي مشترك إنساني تتكلم، والدنيا كلها عبارة عن مجموعة أقليات؟! وبذلك تكون ضُربت فكرة الكل، وفكرة الثبات، وضُربت قانونية حقوق الإنسان القديمة، وأصبح التركيز على ما هو أقل، ثم قدموا حقوق الأقل على حساب الآخر، واتخذوا منها ورقة سياسية، ثم مضوا خطوة فركزوا على حقوق الأقل الشاذ، أو الذي يمكن أن يُسيس، ومن هذه الأقلية جاءت فكرة مساندة شعب جاء غازياً مثل الإسرائيليين إلى أرض آمنة، فحُصِد أهلها، واستعمرت استعمارًا إحلاليًّا، وإقصائيًّا للآخر عن أرضه! فلا ننخدع ببريق حقوق الإنسان، ونحن نقر بأن هذه الحقوق منتهكة في العالم العربي، وأن الغرب يراهن على هذا الانتهاك في جدلية سياسية حقوقية بينه وبين الأنظمة العربية، ومصالحه في هذه الدول.