بينى وبينكم 2010 الحلقة التاسعة عشر ثقافة الكراهية
ثقافة الكراهية
من الأدعية الجميلة: (اللهم إني أسالك حبك، وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربني إلى حبك)…
الإسلام دين الحب، والعبادة شعيرة تقوم على المحبة، ولكن…
هل هذه المحبة، وهذا الشعور، وهذه الدافعية، يمكن أن تحقق التوازن للإنسان؟
أقول: يستحيل ذلك؛ لأنك تحب الخير، ويستلزم من هذا الحب أن تكره الشر، فالكراهية إذن هي جزء من شخصية الإنسان.
بل إن المحبة لا تفهم إلا بمقابلها أو نقيضها وهي الكراهية، فالأصل هو المحبة، وهي الدافع الأكبر للعمل، حتى في العبادة.
ولكن عند النزول إلى الواقع، إلى الشارع، وإلى البيوت، وإلى السوق، وإلى النادي، وإلى المسجد، نجد أن الأمر مختلف!! فنجد ما يمكن أن بعبر عنه بـ ثقافة الكراهية!!
ففي البيوت توجد كراهية، وفي المدارس توجد كراهية، وفي المناسبات الدينية هناك كراهية، وفي المناسبات السياسية تظهر الكراهية، وفي السوق، والعمل، والبيع، والشراء، توجد الكراهية، في العلاقات الدولية كراهية، في علاقات الشعوب مع بعض كراهية…
فمن الذي يزرع هذه الفكرة؟ ومن الذي يغذيها؟
ولماذا يتحول الإنسان إلى كاره؟
وهل الكراهية تقودنا إلى شيء سوى الشر، وإضمار السوء للآخرين؟
أقول: إن لم يكن الأصل في الإنسان أن يحب الخير لأخيه الإنسان كما هو المفترض، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، فلا أقل من أن يتمتع بالحياد، فلا حب، ولا كره! إن لم تكن تمتلك تلك المشاعر الراقية الإنسانية، وهي: أن تحب الآخرين، وتتمنى الخير للناس.
ولكن في المقابل لا بد من تصحيح مفهوم مهم، وهو: كونك لا تحب فلاناً، فلا يعني ذلك أنك تكرهه.
إلا أن المصيبة أن يكون الأصل في الناس هو الكراهية، فهنا سوف تختلف المفاهيم، والأحكام، والتصورات.
كيف يأتي الكره؟
لكي نجيب على هذا السؤال، يجب أن نعلم أن الإنسان مكون من ثلاثة جوانب: جسد، وسلوك، ونية، والمفروض فينا أن نكره السلوك الخاطيء، وأن نكره التصرف السيء، لكننا حينما ننحدر إلى الحكم على النوايا، وإلى إساءة الظن، فهنا ندخل في المحظور، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لأسامة بن زيد رضي الله عنه: أشققت عن قلبه؟ عندما أخبره أنه لحق بمشرك، ورفع عليه السيف في المعركة، فقال المشرك: أشهد أن ﻻ إله إﻻ الله، وأن محمداً رسول الله، فظن زيد أنه لم يقلها إلا تعوذاً، وليس عن قناعة، فقتله، فعاتبه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له تلك الكلمة العظيمة: أشققت عن قلبه؟!
فانظر إلى تغليب حسن الظن والأخذ بالظاهر، حتى مع القرينة المباشرة تقول: إنه كاذب، ومع ذلك عليك أن تأخذ بالظاهر.
ثم إن ثقافتنا تقول: التمس لأخيك عذراً، فهذه هي ثقافة المسلم التي ينبغي أن يتحرك فيها في أوساط الناس، أما النوايا فأمرها إلى الله سبحانه وتعالى، بل إن بعض المدارس الثقافية الغربية تقول: حتى العمل الشرير فيه نية طيبة!! فهذا الإنسان ما شرب الخمر إلا لأنه يريد أن ينسى المشاكل والهموم التي ألمّت به!! أما نحن فنقول: الخطأ خطأ، والحكم على السلوك هو الأصل، فلا بد من الإنكار، ولا شان لنا بالنية.
فإذا أتينا للجسد: فهذا الجسد ليس له ذنب، فهو مادة خام، ولكن المشكلة في العمل وليس العامل، السلوك وليس الشخص، حتى العقوبة إذا أوقعناها على الإنسان، سواء كانت عقوبة جماعية أو فردية، فيجب أن نؤمن بالعقوبة المناسبة التي لا تدخل في دائرة المبالغة، ولذا ينبغي أن نوجه المجتمع إلى الحكم على السلوك حتى نضع النقد في دائرة النضج.
وربما تفاقم النقد، والحكم على الآخرين، فلم يقتصر على الحكم على النوايا، أو على الأشخاص بأعيانهم، بل تجاوز الأمر إلى الحكم على جماعة بأكملها، أو مذهب، أو طائفة، أو قبيلة، أو غير ذلك من أساليب التعميم الجائرة، التي تفرز لنا تصنيف المجتمع إلى فئات، وأقسام، وتجمعات، مختلفة، متناحرة، متفرقة!!
إذن ينبغي أن تكون طريقتنا مقننة في اتخاذ موقف سلبي من الآخرين، فنقنن مشاعرنا تجاه الآخرين:
فأولاً: لا نحكم على الإنسان من نواياه لأننا لا نعلم النوايا.
ثانياً: لا نحكم على الإنسان لأنه من القومية الفلانية، أو من المذهب الفلاني، أو من الجنسية الفلانية، أو من القبيلة الفلانية، وإنما نحكم على الإنسان من خلال أفكاره الخاطئة، ومن خلال سلوكياته المشينة، حتى أفكاره الخاطئة هو مسؤول عنها.
لماذا نقول هذا الكلام؟
لأنني عندما أقنن الكراهية، أو أقنن الموقف السلبي تجاه الآخرين، ستكون لدي القابلية للتنوع، فالعباد كالبلاد يتغيرون، فيكون موقفي من هذا الإنسان ليس ذاتياً منه، وإنما من سلوكياته وتصرفاته، فأنا أكره الصفات ولا أكره الذات؛ لأن هذا الإنسان قد يتغير، ومن ثم يتحول موقفي منه بحسب تغيره، أما الموقف الجامد المتصلب الذي لا يغير، فهذا موقف ضعيف، وصاحبه ينطوي على ثقافة عدائية، فكم من إنسان كان عاصياً، مجرماً، متمرداً، مؤذياً لخلق الله تعالى، ولنفسه قبل ذلك، فعافاه الله تعالى، وتاب عليه، وأصلح من شأنه، بل وأصبح من دعاة الخير، وحملة الفضيلة، ناشراً للأخلاق، مروجاً للمعروف، مانعاً للمآثم، فمثل هذا الشخص لو اتخذنا منه موقفاً موحداً في كلتا حالتيه لأخطأنا خطأ عظيماً؛ فهل يستوي الأعمى والبصير، وهل يستوي الحي والميت؟! {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستون}، {أفنجعل المسلمين كالمجرمين. مالكم كيف تحكمون}.
سؤال: لماذا تنشأ ثقافة الكراهية؟
هل هناك تعارض بين الولاء، والبراء، وبين حب الكافر؟ بمعنى هل نقف من الكافر موقف العداء المطلق لكونه كافراً؟
الجواب في قول الله تعالى: {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة}، فالمسألة حرب ومعاداة، ومع ذلك يتمنى لنا القرآن أن تكون هناك مودة بيننا وبين هؤلاء الكفار، لماذا؟ لأنه إذا حدثت المودة، اختفت الحرب، وإذا وقعت المودة، صلحت الدعوة إلى إصلاح السلوك، والعقائد.
إذن الأصل في الناس المسالمة، وفرق بين المعاملة بالحسنى وبين الوﻻء والبراء، فأنا لا أوالي عقيدتك، وقد أكون ضد فكرك، إلا أنني أحترم ذاتك، وأعطيك حقوقك، وأعاملك بأحسن ما أمكن ذلك.
ولو أردنا الحديث عن أسباب الكراهية، سنجد:
أولاً: الشعور بالدونية وبالنقص، فهذا غني، وذاك فقير، وهذا صاحب سلطة، وذاك ليس كذلك، هذا كذا، وذاك كذا، فتنشأ الكراهية.
ثانياً: الشعور بالظلم.
ثالثاً: الاعتقاد بالعداوة والخصومة مع الآخرين، فهو يعتقد أن الناس كلهم ضده.
رابعاً: عدم معالجة مفهوم الانتقام معالجة فكرية صحيحة، فمفهوم الانتقام يجب أن يفهم فهماً شرعياً صحيحاً، وفهماً نفسياً صحيحاً، وفهماً قانونياً صحيحاً، حتى لا يتجاوز الناس، ويوقعون العقوبات، والاجتهادات الشخصية، بينما هناك قانون يحكم.
خامساً: مفهوم الكرامة الخاطئ، فنحن لدينا تضخم أحياناً في مفهوم الكرامة، نعم الإنسان له كرامته، وله خصوصيته، والإنسان محترم في ذاته، {ولقد كرمنا بني آدم}، كما قال القرآن، أي قبل أن ينقسم بنو آدم إلى مذاهب، وفرق، وأعراق، فجنس الآدمية كريم، ومع ذلك نجد أكرم الخلق على الله تعالى وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم ينتقم لنفسه قط، بل عفا عن اليهودي، وعفا عن المشرك، وعفا عن قريش الذين أساؤوا إليه، وحاربوه بكل ألوان الحرب، فقال كلمة ستبقى خالدة على مر الأزمان: اذهبوا فأنتم الطلقاء! أمام ذلك المشهد التاريخي، وهو مطأطئ رأسه الشريف؛ لأنه يرى قومه وإن كانوا مشركين، وإن كانوا آذوه، إلا أن نفسه تستشرف وتستوعب الإنسانية الحقة، فيكون هؤﻻء المشركون الوثنيون القتلة، الذين فعلوا فيه الأفاعيل، ممن يدخل في دين الله أفواجاً.
علينا أن نستفيد من التاريخ، وليكن عليه الصلاة والسلام قدوتنا في نبذ الكراهية وتحقيق المحبة.
صحيح أنه لا يوجد إنسان لا يكره، بل لا بد أن يكون عندك مناعة، وأن تكره لكي لا تذوب، ولكي لا تتبلد، ولكي لا تتطبع على الشر، وهذا ما يجعلنا نعرف الشيء بنقيضه، فأنا أحب الصحة لأنني أكره المرض، وأحب النظافة لأنني أكره القذارة، وأحب العلم لأنني أكره الجهل، فهي مسألة تلازم.
إلا أن مقصدنا في الحديث هو طغيان شعور الكراهية، فهناك فضائيات تزرع الكراهية، وصحف تزرع الكراهية، ومجلات تزرع الكراهية، وخطاب إعلامي مفتوح يزرع الكراهية، وصراع انتخابي يزرع الكراهية، وتنافس اقتصادي يزرع الكراهية، وصراع دول ينتقل من السياسيين إلى الشعوب المسكينة!!
سادساً: الخطأ في مفهوم الحياة، فهناك منتصر، ومهزوم، وكاسب، وخاسر.
سابعاً: الغيرة الزائدة، والحساسية المفرطة من الآخرين، فهذا مرض خطير، فهناك أناس لا يحب الواحد منهم أن يرى أحداً فرحاً سعيداً، لا يحب أن يرى أحداً كاسباً، يكره نجاحات الآخرين، وانجازاتهم!! فلماذا كل ذلك؟! كن يا أخي مسالماً، ودعونا نحيي مفهوم التنافس الشريف بيننا، فلا داعي للحقد، والغيرة، والحساسية، وليكن الكسب، والإكساب، والتنافس الشريف هو البديل.
ثامناً: العصبيات والعنصريات، والعصبيات قد تختفي، إلا أن جذورها موجودة، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن من صفات الجاهلية التي يتعصب لها الإنسان الانتماء، ولكن كيف عالج الإسلام الانتماءات؟
في المعارك كان الجيش الإسلامي يقسم على حسب القبائل، ليس عصبية، وإنما توظيفاً إيجابياً، فلا يأتي جاسوس فيخترق هذه القبيلة؛ لأن اللهجة، والاسم، والانتماء، والشكل يكشف الغريب.
ومن جهة أخرى: فإن تقسيم الجيش القبائل بهذه الطريقة يذكي المنافسة بينهم، ويكون هناك خوف أن الجيش كسر من جهة بني فلان، أو دخل العدو علينا واخترق بني فلان، فيكون التنافس!
انظر كيف تم توظيف الانتماء توظيفاً إيجابياً؟!
والويل كل الويل لنا إن وظفنا الانتماءات الحزبية أو القبلية أو العرقية توظيفاً سلبياً، فما حدث في قرغيزستان صحيح أنه توظيف سياسي، ولكن ماذا كانت النتيجة؟ مليون مشرد!!
وماذا حدث في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1994 عندما قام بعض الشرطة البيض، وضربوا ذاك الأمريكي على الإسفلت، وصُور، وأذيع الفيلم؟
ولن نذهب بعيداً فهذا لبنان موجود، والعراق، واليمن، وغيرها، كلها تصب في مصب العداء، والكراهية، وإقصاء الآخر.
تاسعاً: التربية القذرة، فعندما يجلس الأب ويرى مجموعة من الناس تقتل، أو مدينة ليس لها ذنب تدمر، فيقول أمام أبنائه: يستحقون ذلك وزيادة!! لماذا؟ لأنهم ليسوا من جماعتنا، ليسوا من حزبنا، ليسوا من مذهبنا، ليسوا من قوميتنا، ليسوا من ديننا!! أقول: ما شأن هذا بذاك؟! فمثلاً: أنا خُلقتُ كردياً، أو وُجدتُ في هذا البلد، أو نشأتُ في تلك البيئة، فهذه قضايا ليس فيها اختيار، نعم من الممكن أن يطور الإنسان نفسه وينضج، ويغير مساره، ولكن لا يحاسب الناس على ذلك، ما دام أنه لم يحدث خللاً، ولم يرتكب ما يستحق عليه العقوبة.
إن أخطر شيء أن تتسرب ثقافة الكراهية تربوياً إلى الأسر، والأخطر من ذلك أن ترتقي هذه الكراهية فتهبط بمستوى الأكاديميين، فهذا دكتور أكاديمي في الجامعة يصنف الطلبة على حسب انتماءاتهم!! هذا عيب، ومؤشر خطير.
فالحقوق ليس لها علاقة بالانتماء، وحتى نتجاوز ثقافة الكراهية، يجب أن نحاربها بثلاثة مستويات:
المستوى الإعلامي: لكن مع الإسف الإعلام بعدما كثر بدأ يعزز الكراهية، ويثير الأضغان.
ثم المستوى التعليمي.
ثم المستوى القانوني.
فلا بد من الطرح الوقائي، فكيف نعزز ثقافة السلام؟
الجواب: أن تكون إنساناً طبيعياً، وأن تكون إنساناً مع الناس كلهم، الابتسامة، أن تبتسم للناس كلهم، الشكر، المصافحة، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وسلم على من عرفت، ومن لا تعرف)، العفو، عيادة المريض، تنفيس الكرب، ترك المراء، الزكاة، الصدقة، إطعام الطعام، إكرام الضيف، إغاثة الملهوف، التواضع، حسن المعاملة، الأدب.
تعالوا بنا نتحاب، وندين السلوك الخطأ، ولا نتخذ موقفاً من الشخص، بل نستفيد من تجاربنا ونتعلم.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعزز المحبة في قلوبنا، وأن نكون كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام).