بينى وبينكم 2010 الحلقة الحادية عشر تساؤلات الجيل الجديد ج 1
تساؤلات الجيل الجديد ج1
في الفترة الأخيرة، وفي السنوات القليلة الماضية، بدأنا نسمع تساؤلات كثيرة، لم تكن معهودة من ذي قبل، تساؤلات صادمة، وربما مفاجأة، وغريبة على الأب، والأم، وعلى أستاذ الجامعة، والمربي، وغيرهم…
أسئلة ضد الدين، وضد التاريخ، وضد العقائد، وضد الإيمانيات….
أسئلة تتعلق بعالم الغيب، أو تتعلق بأفعال الله سبحانه وتعالى!!
والسؤال: كيف نواجه هذه التساؤلات، والشكوك، والاستفهامات، والاعتراضات، من أبنائنا، وبناتنا، سواء كانوا يدرسون في بلادنا العربية، والإسلامية، أو كانوا في الخارج! لأن في الحقيقة لم يعد هناك فرق بين الداخل، والخارج، كما قال مراد هوفمان في كتابه الأدمغة المستعمرة: (نحن الآن لسنا في حضارة المكان، وإنما في حضارة الزمان)!!
فقد تجلس مع مجموعة من الأشخاص في مكان واحد، فهذا يتابع فضائية، والآخر متواصل عبر النت، والثالث مشغول بجواله!! فلكل واحد منهم عالمه الخاص، فالمكان واحد، ولكن الزمان مختلف بالنسبة لكل واحد منهم!!
ولذلك فنحن نمرّ الآن بمرحلة جديدة خطرة، فلن يجدي صَمّ الآذان، وإغماض العيون عن هذا الواقع المفروض علينا جميعاً.
والناس في تفاعلهم مع هذا الأمر أنواع:
النوع الأول: الإهمال، وعدم المبالاة!! فمن الناس من ﻻ يبالي بما يجري حوله، ويقول: هذه مراهقة وتنتهي، أو أن المسألة ليست في دائرة الاهتمام، وماذا يعني عندما يعترض الشاب، أو الفتاة على عقائد، أو يقع في شكوك؟!
هذا الصنف الأول ﻻ مبالي، وقد يكون حريصاً في نفسه على دينه وعلى أصالته!!
النوع الثاني: الخوف، فتجد الأب، أو الأم، أو الأخ، أو الصديق خائفاً، حزيناً من هذه التوجهات التي بدأت تطرأ على الشاب، أو الفتاة، لأنه حريص عليه، فهذا حزن المحبة، وخوف إصلاح الآخر.
النوع الثالث: وهذا هو المصيبة وهو الزجر والتهديد!!
أحد الشباب كانت عنده شكوك دينية، واستفهامات، واعتراضات، وإشكالات عقلية، فاتصل بما يقارب الـ 35 ما بين شخص، ومؤسسة، فلم يجد من يستقبل أسئلته، ويصغي إليه بجدية، ويتسع صدره لسماعه، سوى رئيس أحد المراكز الإسلامية في كندا، أو في هولندا!!! ففكّ له تلك الإشكالات، وطمأنه، وقال له: ما من سؤال إلا وله جواب.
فقضية الزجر، والتهديد، والتبكيت، وإغلاق الهاتف في وجه السائل، أو القول له: أنت تسأل أسئلة تعارض الدين، أو استغفر الله سبحانه وتعالى من هذه الشكوك، وأخرِج هذه الوساوس من رأسك، أو دعك من هذه الأسئلة التافهة، إلى غير ذلك من أساليب تزيد إصرار السائل على موقفه، فكل ذلك يفاقم المشكلة، ويزيد من حدتها.
ولذا أقول: إن من حق هذا الشاب أن يسأل!! وإذا لم يجد من يجيبه على استفساراته فأين يذهب؟ وممن يأخذ الجواب؟ لا بد من التواصل مع أهل الاختصاص في هذا الشأن، فالله تعالى يقول: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم ﻻ تعلمون}.
إذن؛ ما الذي نريده نحن؟
نحن نريد استيعاب هذه الأجيال، واستيعاب هذه الأسئلة اللامعهودة، وتحمل هذه القضية التي ربما تكون مباغتة للأب، أو للأم، أو للمدرس، أو للموظف في العمل، فهذا موجود في كل مكان، وكل زمان، ولكن إذا زادت النبرة، فيجب أن تعالج بطريقة حكيمة، ولكن قبل أن نفتح الحوار مع هذا الجيل الجديد، ونقف على بعض الأسئلة كنماذج الأسئلة، لا بد من تصنيف السائلين، وبيان أنهم أقسام:
- باحث عن الحقيقة، وجاد، وصادق، في بحثه.
- حائر، ومرتبك، يدخل في دائرة الموسوس! سواءً كانت الأسئلة في أمور الدين أو في غير ذلك.
- صاحب مشروع فكر معين، ويروّج لهذا الفكر المضاد لأصالتنا، والمضاد لعقيدتنا، بتكتيك معين، وأساليب مبطنة، لجرّ الشباب إليه.
- شخص يحمل على كاهليه إرثاً طويلاً من التجارب القاسية مع أهل الدين، أو مع أسرته، أو من خلال قراءات معينة، فلديه تجربة صعبة، فيحاول الخروج من تلك التجربة بهذه التساؤلات ضد الدين، أو التشكيك فيه!! وربما أنه يفرغ تفريغات نفسية، فهذا يحتاج إلى إرشاد نفسي، وليس إلى علاج عقلي.
المقصود مما سبق أن الناس ليسوا على مستوى واحد، ﻻ بأعمارهم، ولا بمستوى أسئلتهم، ولا بمستوى العمق الذي عندهم، بل يختلفون من شخص لآخر، والواجب علينا إعطاء كل إنسان حقه.
أما الإنسان المستهتر، والذي يريد أن يستفز الناس، فهذا الذي ﻻ يناقش، سواء اعترض على الدين، أو على قومية، أو على مؤسسة، أو على أي شيء.
كيف تعامل علماؤنا مع مثل هذه الأطروحات؟ وكيف وقفوا أمام طوفان الشكوك والشبهات؟
في تاريخنا الإسلامي نماذج كثيرة لعلماء كبار أجلاء، ألّفوا، وصنفوا، وناقشوا الشبهات التي أتى بها الملحدون، وأهل البدع، والضلال، ومن هؤلاء:
- الإمام أبو حامد الغزالي، في كتابه: تهافت الفلاسفة، وكذلك كتابه: المنقذ من الضلال، ناقش الفقهاء، والمتكلمين، الذين لم يستوعبوا الشبهات، وعارضوها معارضة ضعيفة وهزيلة، وبيّن أنه لا بد من الاطلاع على حقيقة مذهبهم أولاً، وفهمه، ثم الرد عليه، فقال: ولم أر أحداً من علماء الإسلام صرف عنايته وهمته إلى ذلك، ولم يكن في كتب المتكلمين من كلامهم -حيث اشتغلوا بالرد عليهم- إلا كلمات معقدة، مبددة، ظاهرة التناقض والفساد، لا يظن الاغترار بها بعاقل عامي، فضلاً عمن يدعي دقائق العلم، فعلمتُ أن رد المذهب قبل فهمه، والاطلاع على كنه رمي في عماية، فشمرتُ عن ساق الجد في تحصيل ذلك العلم من الكتب….
- الإمام ابن تيمية، في كتابه: الرد على المنطقيين، وليس مقصوده رحمه الله تعالى إلغاء المنطق، وإنما تصحيح المنطق، كما قال عباس محمود العقاد الذي بدأ شاكًّا ملحداً، ثم انتهى إلى الدفاع عن الإسلام، وألّف كتاباً عنوانه: التفكير فريضة إسلامية، تكلم فيه عن الفلسفة، وعن العلم، وعن المنطق، وعن التصوف، وعن العلوم الاجتماعية، وعن الأديان ومقارنتها، وعن العادات، والأعراف، وعن الفن الجميل من خلال المنظور الشرعي، ولما تكلم عن المنطق ذكر أن الذين ناقشوه ثلاثة كبار في تاريخ الإسلام: أبو حامد الغزالي، والإمام ابن تيمية، والإمام السيوطي.
وقال واصفاً شيخ الإسلام: (ومن نظر في كتب ابن تيميه التي ناقض بها أدعياء المنطق، وعشّاق الجدل، علم أنه كان بصدد إنشاء منطق صحيح، وهداية إلى تطبيق أصول المنطق القويم).
ومن الكلمات عظيمة الفائدة في مسألة النقاش، والحوار مع المتشكك، ونقض شبهته، ما ذكره الإمام ابن تيمية في كتابه العظيم: الرد على المنطقيين، حيث يقول: المقدمات الخفية قد تنفع بعض الناس، وفي المناظرة: ومع هذا فلما كان الجلاء والخفاء من الأمور النسبية، فقد ينتفع بالدليل الخفي، والحد الخفي، بعض الناس، وكثير من الناس إذا ذكر له الواضح لم يعبأ به، وقد لا يسلمه حتى يذكر له دليل مستلزم ثبوته، فإنه يسلمه، وكذلك إذا ذكر له حد يميزه، وهذا في الغالب يكون من معاند، أو ممن تعودت نفسه أنها لا تعلم إلا ما تعنت عليه، وفكرت فيه، وانتقلت فيه من مقدمة إلى مقدمة، فإن العادة طبيعة ثانية، فكثير ممن تعود البحث والنظر، صارت عادة نفسه كالطبيعة له، لا يعرف ولا يقبل ولا يسلم إلا ما حصل له بعد بحث ونظر، بل وجدل ومنع ومعارضة، فحينئذ يعرف به، ويقبله ويسلمه، وإن كان عند أكثر الناس من الأمور الواضحة البينة، لا تحتاج إلى بحث ونظر، فالطريق الطويلة، والمقدمات الخفية، التي يذكرها كثير من النظار، تنفع لمثل هؤلاء في النظر، وتنفع في المناظرة، لقطع المعاند، وتبكيت الجاحد.
خلاصة كلامه: أن بعض الناس طريقة تفكيره، وأسلوب تعاطيه مع المعلومات والمعرفة، ليست الطريقة التلقائية، وإنما تعود أن يقتنع بعد جدل، ومقدمات، إثر مقدمات، حتى صار ذلك طبيعة نفسية ثانية له، فقد يكون اقتنع من أول مرة، ولكنه يحتاج إلى مقدمات، وجدل، وطرق طويلة، ليس لأن هذه الطريق أسلم، ولكن لأنها تناسب هذه الشخصية.
فالإمام ابن تيمية يطرح قضية الفروق الفردية العقلية بين الناس، ويراعيها في الحوار، والمجادلة، وهو ما نسميه اليوم: أنماط الشخصية، فلكل شخصية طريقة في التفكير، وطريقة في التحاور، بل إنه أصبح علماً يدرَّس، كمثل الدورات التي تقام بين وقت وآخر، تحت عنوان: كيف تنجح في مخاطبة الناس، أو سيكولوجية مخاطبة الجماهير.
وهذا الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه: فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ذكر أن علم الجدل، وعلم الكلام الذي يستخدم الأدلة العقلية المحضة، لسنا في حاجة إليه إلا في حالتين:
الأولى: وجود شبهات تحتاج أن تناقش.
الثانية: اطلاع العالم على ما عند هؤلاء من شبهات، وانتقادات.
فهذه العلوم أخذت للعلاج الطارئ للمرض، لأن الأصل في الإنسان الفطرة، ولكن إذا انحرفت الفطرة، وطرأ عليها تشويش، فلا بد عندئذ من الدخول في القواعد العقلية، وإن كانت القواعد القرآنية، قواعد عقلية فطرية، لها بلاغتها الخاصة.
هل الإنسان مسيّر أم مخيّر؟
لماذا خلق الله تعالى الكون، والإنسان، وطلب منه العبادة، وهو ليس في حاجة إليها، ولا يستفيد منها؟
الشيطان مصدر الشر، والله سبحانه وتعالى ﻻ يحب الشر، وينهانا عنه، فلماذا خلق مصدره؟ ولماذا أوجد هذا الشر؟
إنها العدالة الإلهية.
والآن دعونا نأخذ جولة فكرية حول بعض النماذج التطبيقية لأسئلة الجيل الجديد، التي قد تكون شكًّا أحياناً، أو استفهاماً مشروعاً، وربما إلحاداً، ومعارضة للدين!!
وبالتالي فإن الحوار هو الوسيلة الصحيحة المشروعة للوصول للحق، ومن ثَمّ ﻻ أحد يستطيع أن يفرض فكره على الآخر، قال الله تعالى: {لكم دينكم ولي دين}، وقال: {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}.
النموذج الأول:
طالبه جامعية، من دولة خليجية، خافت من سؤال بعض الشخصيات، أو بعض المؤسسات، ظنًّا منها أنها سوف توصم بالكفر، والردة، وغير ذلك!!
فاتصلت بي وقالت: أرجو أن يتسع صدرك لكلامي، وما سأطرحه عليك.
فقلت لها: تفضلي.
قالت: ما ذنب الهندوس، والبوذيين، والوثنيين، والناس الذين نعتقد أن عقائدهم باطلة، ونعترض عليهم عقلياً….
ما ذنبهم ليدخلوا النار بهذه البساطة؟!!
فقلت لها: من قال لك إنهم سيدخلون النار؟!
قالت: أليس الكفار سيدخلون النار؟!
قلت لها: ومن قال لك إن الكافر سيدخل النار؟!!
قالت: أليس الذي يموت وهو كافر سيدخل النار؟!!
قلت لها: ومن قال لك إن الذي يموت كافراً يدخل النار؟!
قالت: هذا كلام عجيب أول مرة أسمعه.
قلت لها: هذه مشكلتك.
الخطورة تكمن في أن أجعل من وعيي الشخصي الذاتي النسبي، قناعة أبني عليها أحكاماً كلية، ثم أدين فيها الإسلام، والعقيدة الإسلامية! وهذا لا يصح البتة.
قالت: فما الجواب إذن؟!
قلت لها:
أولاً: يجب أن نفهم جميعاً أننا نتكلم عن الرب سبحانه وتعالى، الذي له تدبيره، ولا نستطيع أن نتقول عليه سبحانه وتعالى، وندخل الناس الجنة أو النار، وكأن مفاتيحها عندنا!
نحن لدينا قواعد، وأحكام نحتكم إليها، ويجب أن تعلمي أن الله سبحانه وتعالى أرحم الراحمين، ففي أغلب صفحات القرآن نقرأ صفة الرحمة، وفي كل سورة من سور القرآن نقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، وليس الجبار العظيم، ولا المنتقم!! بل الرحمن الرحيم…، فالرحمة هي الأصل، قال الله تعالى في الحديث القدسي:(إن رحمتي سبقت عذابي)، وقضية العقوبة، والتهديد ما جاءت إلا رحمة بنا؛ لكي نعرف أن هناك خطأ، كما ذكر ذلك الشيخ الشعراوي رحمه الله تعالى.
وهذا الأمر معمول به في أمور الدنيا، فتجد المؤسسة تقول للموظف الذي يعمل لديها: إذا خالفتَ النظام سوف يخصم من راتبك، وسوف توضع في أجندة المخالفين، هذا النظام رحمة به، وفي صالحه، لأنه يعوّده على الانضباط، والالتزام.
ثانياً: الله سبحانه وتعالى عادل، وعدله يقتضي إنصافه لمخلوقه، وإذا اقترن العدل بالرحمة، فماذا تنتظر من رب العالمين؟!!
ثالثاً: علق الله سبحانه وتعالى العقوبة والمحاسبة بإرسال الرسل، فقال: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً}.
رابعاً: فرق العلماء بين بلوغ الرسالة، وإقامة الحجة.
وسأشرح بالتفصيل من كلام الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة)
محمد الغزالي وهو يتكلم عن رحمة الله سبحانه وتعالى، وفي هذا الكتاب يقول: (ﻻ يسارع في التكفير إلا جاهل)، محمد الغزالي يقول الناس أصناف:
صنف لم تبلغهم الرسالة، وهؤلاء معذورون، ﻻ شيء عليهم أمام الله سبحانه وتعالى.
صنف بلغتهم الرسالة، وقامت عليهم الحجة، وشخصت أمامهم البراهين، ورأوا كل شيء فعرفوا حقيقتها ثم تنكروا لها، وهؤلاء هم المحاسبون.
صنف بلغتهم الرسالة مشوشة، كمن بلغهم اسم النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تبلغهم صفته! قال: كسماعنا عن ابن المقفع، ونحن صغار، نسمع أنه كذاب، ودجال، ومدعي…
فهؤلاء القوم لم تتحرك عندهم دواعي البحث عن الحقيقة، فهم سمعوا عن إنسان أنه مدعي للنبوة، وأنه كذاب، وأنه…،حاشاه من ذلك، فهؤلاء يحملون على الصنف الأول فهم معذورون، كما يقول الإمام أبو حامد.
أما أهل الإيمان من كل الأديان، والملل، المؤمنون بالله الخالق، هؤلاء الذين وصلتهم الرسالة، وأخذوا يبحثون عن الحقيقة للتأكد، وكانوا من أهل الجد والصدق في اكتشاف الحق، فهؤلاء إن وافتهم المنية، وجاءهم الموت، ولم يصلوا إلى الحقيقة، أو لم يتحققوا منها، فهم كذلك معذورون غير مآخذين، ويلحقون بالصنف الأول المعذور.(تحتاج مراجعة).
إذن الأصل عند الله سبحانه وتعالى هو إعذار البشر، وليس معاقبتهم، هكذا تفهم الأمور.
بقي المكابر، المعاند، الجاحد، الذي بسطت له الأدلة، ونصبت له البراهين، وجاءته الأشعة الساطعة، والكشافات المنيرة كلها، وقالت له: هذا هو الحق، فرآه، ولكنه عاند!! فهذا ينطبق عليه قول الله تعالى: {فإنهم ﻻ يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}، فكفره كفر جحود وعناد، هؤلاء هم الذين يستحقون العقوبة، لأنهم مكابرون، معاندون، متنكرون للحقيقة.
فقالت: لي سؤال عجيب!! لنفرض أن الله سبحانه وتعالى سامح هؤلاء الهندوس، والبوذيين، وغيرهم، وعذرهم، ولم يؤاخذهم، ولكن ما هم ذنبهم ليحرموا من الاستمتاع في الحياة الدنيا بالعقيدة الحقة؟!!
عندما سمعتُ السؤال، وهي بنت لا يتجاوز عمرها الـ 19 سنة، علمتُ أن السؤال أكبر منها سناً، وأنها تلقّته من جهة معينة، أعرفها تماماً، لكنني سأعرض عنها!
فقلت لها: يا ابنتي:
أولاً: من قال لك إن الحقيقة التي لم يتمتع فيها هؤلاء الوثنيون ناجزة ومكتملة في الدنيا فقط؟!! إن للحقيقة تاريخاً، وامتداداً، تبدأ ما قبل الوجود الإنساني، وتستمر أثناء وجودها، وبعد ذلك تمتد إلى الأبدية، وإلى ما ﻻ نهاية له، أي الخلود.
وهل العبرة في إدراك الحقيقة الآنية، أم النجاة بالحقيقة المطلقة؟! بمعنى كم من إنسان آمن بالله، ورسله، وكتبه، وجاهد في سبيل هذا الإيمان، ولكنه في آخر أيامه ألحد، أو تنكر، أو أجرم، أو كفر؟! فكان إيمانه، والتمتع بالحقيقة في الدنيا، وبالاً عليه في الآخرة.
وكم من إنسان لم تصله الرسالة، وظل حائراً، أو مستأنساً بما هو فيه من وثنية، ولكن عذره الله سبحانه وتعالى، فكان ناجياً في الآخرة.
فالعبرة بالثمرات ﻻ بالبدايات، وبالنهايات ﻻ بالمقدمات.
ثم إذا كان صاحب الحقيقة التي أنزلها، وهو الحق سبحانه وتعالى، قد رضي بهذه القسمة، وأعذر عباده، فلماذا تتضايقين أنتِ؟!!
قالت: سؤال آخر، واعذرني على كثرة الأسئلة.
قلت لها: لا عليكِ، سلي عمّا شئتِ.
قالت: إذا قال القرآن كلاماً، وقال العلم كلاماً، فأي الكلامين آخذ؟!!
قلت لها: القاعدة عندنا التي لا تنخرم: أن القرآن كتاب الله المسطور، والكون كتاب الله المنظور، وكتابه المنظور ﻻ يناقض كتابه المسطور، وطريقة سؤالك طريقة مختزلة!! لماذا؟!
أولاً: ما هو العلم؟!
العلم: إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع عن دليل.
ثانياً: ما هو القرآن؟!
القرآن: كلام الله تعالى، ولكنه في دلالته على المعاني قسمان: منه ما هو ظني الدلالة، ومنه ما هو قطعي الدلالة.
ولماذا كان الظني والقطعي؟! الجواب: لقصد استيعاب الزمان والمكان!
إذن هناك منهج في التعامل معه، وأنا هذا الكلام الذي أقصده، وأريده.
فقلت لها: ما هو الأمر العلمي الذي يناقض القرآن؟! أريد أن أفهم، فقد أقتنع بكلامك!!
فقالت: أليس القرآن يقول: إن الأرض ممدودة، وإن الأرض مبسوطة، ولكن العلم اكتشف أنها كروية، وتم تصويرها للجزم بذلك، فبأيهما آخذ: القرآن الذي يقول لي إن الأرض ممدودة، ومبسوطة، أم بالعلم التجريبي، وعلم الفلك، والتصوير الفضائي، الذي يقول إنها كروية؟!!
قلت لها: هذا من الخلل الذي عندك، هذا الكلام أتمنى ألا تقولينه في مكان آخر، حتى ﻻ تتهمين بضعف عقلك، وضحالة التفكير، وسذاجة المعلومات!! ﻻ تدعي الناس يضحكون عليك!!
قالت: لماذا؟!!
قلت لها: أولاً: متى يكون الجسم مستمراً في الامتداد والبسط؟ ﻻ يكون ذلك إلا في حالة واحدة، وهي إن كان الجسم كرة مستديرة كبيرة، فلو كان شكل الأرض مستطيلاً، أو مثلثاً، أو مربعاً، أو أيَّ شكل هندسي آخر، لكان لها حافة ننتهي إليها!
ولكن متى ﻻ تنتهي الحافة؟! الحافة ﻻ تنتهي إذا كان الشكل دائرياً، فتبدأ من نقطة، وتنتهي بالنقطة نفسها!
فالامتداد موجود دائماً في الدائرة، ولكن لماذا يعبّر القرآن بالبسط في بعض الآيات؟!
لأنه يتحدث عن الأرض التي نراها مبسوطة أمامنا، وعن الأرض الكلية بنهايتها الكلية!
ولكن الخطأ المنهجي الذي جعلك تقعين في هذا المطب، هو عدم أخذ القرآن مكتملاً! فالقرآن يؤخذ مجملاً آية بعد آية.
ثم قلت لها: اسمعي إلى ما يقوله هذا العالم الكبير، وهو الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى، حيث سئل في مجموع فتاوى(6/586): عن رجلين تنازعا في كيفية السماء والأرض، هل هما جسمان كريّان؟ فقال أحدهما: كريّان؛ وأنكر الآخر هذه المقالة، وقال: ليس لها أصل، وردّها. فما الصواب؟.
فأجاب بقوله: السموات مستديرة عند علماء المسلمين، وقد حكى إجماع المسلمين على ذلك غير واحد من العلماء، أئمة الإسلام، مثل: أبي الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي، أحد الأعيان الكبار من الطبقة الثانية من أصحاب الإمام أحمد، وله نحو أربعمائة مصنف. وحكى الإجماع على ذلك: الإمام أبو محمد بن حزم، وأبو الفرج بن الجوزي، وروى العلماء ذلك بالأسانيد المعروفة عن الصحابة والتابعين.
إلى أن قال: وما علمت من قال إنها غير مستديرة – وجزم بذلك – إلا من لا يؤبه له من الجهال!!
ثم ساق الأدلة على ذلك، كقوله تعالى: {وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون}، وقوله: {ﻻ الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون}.
ثم نقل عن ابن عباس وغيره من السلف أنهم قالوا: في فلكة مثل فلكة المغزل.
وكقوله تعالى: {يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل}، والتكوير التدوير.
إلى أن قال: وسائر أحوال الزمان تابعة للحركة؛ فإن الزمان مقدار الحركة؛ والحركة قائمة بالجسم المتحرك، فإذا كان الزمان التابع للحركة التابعة للجسم موصوفاً بالاستدارة، كان الجسم أولى بالاستدارة.
فذكر القاعدة التي اتفق عليها الفيزيائيون، كأينشتاين ونيوتن، وغيرهما: أنه ﻻ زمان بغير جسم متحرك!
ومن اللفتات البديعة في سورة الحج في قوله تعالى: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق}، فلم يقل بعيد! لأن البعد مساحة سطحية ممتدة، وإنما قال من كل فج عميق، مساحة سفلية.
أكتفي بهذه الأمثلة التي أتمنى أن تكون قد أدّت الغرض، وأوصلت الفكرة.