بينى وبينكم 2010 الحلقة الرابعة المسئولية ج 2
المسؤولية ج2
ولذلك أقول:
إننا إن تخلينا عن مسؤولياتنا فإننا سنتضرر جميعاً، وسنخسر جميعاً، وسنتأذى جميعاً، وسنتراجع جميعاً، فالمصير واحد، والمسير واحد، وبالتالي ينبغي علينا ألا نكون سلبيين، وأن نتحمل مسؤولياتنا.
ها هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم عندما خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة أحد، والذي خالف منهم هم مجموعة الرماة، وهم مجموعة قليلة، قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (احموا ظهورنا ولا تنزلوا حتى لو رأيتمونا ننتصر)، فخالفوا الأمر، ونزلوا استعجالاً، فماذا كانت النتيجة؟!
كانت نكبة، وكانت هزيمة، وكانت مقتلة، فقد انقلبت المعادلة، وخسر الجميع وليس الرماة فقط، بل المجتمع المسلم، والجيش المسلم، فالمسألة في قضية عدم تحمل المسؤولية تنعكس على الجميع، ومن هذا المنطلق كان عمر الفاروق رضي الله عنه يقول: لو عثرت بغلة في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها لمَ لمْ تصلح لها الطريق يا عمر، فهذه هي المشاعر العالية، والنفوس الكبيرة التي تتحمل مسؤولياتها العظيمة.
وحتى يعلم كل واحد منا موقفه من تحمل المسؤولية، أضع بين أيديكم أقسام الناس في ذلك، وما عليك إلا أن تنظر في هذه الأقسام، وتختار منها ما ينطبق على شخصيتك.
وهذه الأنواع هي:
النوع الأول: المتواكل الذي يلقي بالمشاكل، والمسؤوليات على غيره، وهو مقصر ومفرط.
النوع الثاني: المستنصح الذي يطلب آراء الآخرين، ويقوم بتنفيذها، وهذا شيء طيب، فما خاب من استشار.
النوع الثالث: الذي يواجه المشكلات، ويطلب المساعدة، وليس فقط الاستشارة، والاستنصاح.
النوع الرابع: وهذا مصيبة، وهو المعتد برأيه، فلا يسمع من أحد؛ لأنه الوحيد الذي يفهم فقط، فهو يتكئ، ويعطي الأوامر، يغلط، ويستمر في غلطه!!
فكيف لمن كانت هذه حاله أن يستفيد من الآخرين؟!
صحيح أن لديك خبرة شخصية ولكن لا تعول عليها كثيراً؛ لأن كل إنسان لديه خبرة وتجربة، فيجب أن نستفيد من بعضنا البعض، فنحن نرى هذه الأيام دورات تدريبية من أجل نقل الخبرات، والاستفادة من الآخرين.
ونقرأ معاً حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (ﻻ تزول قدما عبد يوم القيامة حتي يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟) هذا العمر الطويل الذي يمتد لسنوات كثيرة، بماذا أفنيته أيها الإنسان؟
ثم يأتي عليه الصلاة والسلام ويختار أهم ما في هذا العمر من مراحل وهو الشباب، فيقول: (وعن شبابه فيما أبلاه؟)، فأنتم أيها الشباب في صحة، وفي قوة، وفي تدفق، وفي حيوية، فعليكم استغلالها بالخير، وتوظيفها في المكان الذي ينعكس العمل فيه انعكاساً إيجابياً عليك أنت شخصياً، وعلى أسرتك ، وعلى بلدك ، وعلى المجتمع الذي تعيش فيه.
ثم أكمل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (وعن علمه ماذا عمل به؟)، فهذه المعرفة التي تحصّلت عليها هل توظفها في السوء؟ أم توظفها في الخير؟ هذه المعرفة سلاح ذو حدين، حياد.
ثم قال: (وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟)، وقصة المال هذه قصة طويلة، والثغرات فيها كثيرة، والسقوط فيها كبير، حتى ممن يُظَن فيه الخير، والصلاح!!
كذلك يمكن تصنيف الناس في قضية المسؤولية بطريقة أخرى، وأصناف أخرى:
الصنف الأول: مشعل الحرائق، كهذا الذي يؤذي الناس في كل مكان تضعه فيه، فهو سيئ الأخلاق، ومعروف عنه ذلك، فهو متعب في العمل، وينقلونه من قسم لآخر، ومتعب في الأسرة، ومتعب في السوق، وفي الشارع، وفي المطعم، وفي كل مكان!!
أترضى أيها الإنسان أن تكون هكذا؟ أين المروءات؟ أين الأخلاق؟ ماذا تريد أن يقال عنك؟ إن شهادة الناس شهادة.
الصنف الثاني: المراقِب، فهو إنسان سلبي، يجلس يراقب ولا يشارك، والسلبية أمام الانحراف، والخطأ، وتجاوز المسؤوليات، هي في الحقيقة مشاركة غير مباشرة في تعزيز الخراب، كما قال الأديب غازي القصيبي: عندما ترى أحداً يغتصب فتاة وتقول: أنا أريد أن أكون محايداً فأنت مشارك، وأنت مجرم؛ لأن الشريعة الإسلامية تجرمك إذا أنت استطعت أن تنقذ تلك الفتاة، وتقدم لها يد العون، ولم تفعل، فأنت مسؤول.
الصنف الثالث: الإطفائي، الذي يساعد، وينصح، فهو رمز الطيبة في المجتمع، لكننا نريد الإنسان الوقائي، وليس الإطفائي فقط، فهناك فرق بين منهج وقائي يعالج المشاكل على أنها طواريء، وبين منهج علاجي ينتظر المشاكل تقع ثم يقوم بحلها.
نحن نريد من المصلحين والمسؤولين أن يكونوا في دور الوقائي في كل مؤسساتنا.
وتعالوا بنا نقف مع هذه الحكمة الخالدة من رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يقول فيها:(مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها (في أسفل السفينة) إذا أرادوا أن يستقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذِ من فوقنا، فلو تركوهم هلكوا جميعاً، ولو أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً).
صورة موحية، معبرة، شاخصة، دالة لواقع كل مجتمع بطبقاته، وبالمصلحة النهائية له.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم في هذا الحديث عن المسؤولية الفردية، والجماعية، وأن النهايات المشتركة واحدة، سواء أكانت سلبية، أو إيجابية.
فهذا كلام لا يخرج إلا من مشكاة النبوة، فأول ما يلحظه الإنسان في قراءة هذا الحديث النبوي تلك الصورة التشبيهية البليغة، فالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم شبّه المجتمع بالسفينة، وسفينة المجتمع يركب فيها البر، والفاجر، والصغير، والكبير، والمسؤول، وغير المبالي، والإنسان الواعي، والإنسان غير الواعي، والغني، والفقير، يركب فيها الجميع، ثم هذه السفينة محكومة بعاملين: عامل خارجي: من أعاصير، ورياح، وارتفاع الأمواج، وتقلبات الجو.
وعامل داخلي وهو: أن يأخذ كل إنسان مكانه، ويقوم بمسؤولياته، من قبطان السفينة إلى أصغر واحد.
فالسفينة كالمجتمع تأخذها الرياح مرة ذات اليمين، ومرة ذات الشمال، ومرة تستقر على الأفق، ومرة تصل إلى الشاطيء بأمان، وأحياناً ترتكز في قاع البحر بمن فيها!
وهكذا هي الحياة الدنيا، وهكذا هي حياة الأمم، هذه هي الصورة الأولى.
ثم قسم النبي صلى الله عليه وسلم أبناء المجتمع إلى نوعين كأصحاب السفينة وهم: القائم على حدود الله، والواقع فيها، فالناس نوعان: أناس يقومون على حدود الله، ويمتثلون أمر الله، وأناس آخرون تنكروا الطريق، ونشروا الفساد، وتفاوتت جرائمهم.
والعجيب أن الحديث وضع الواقع في حدود الله، والمخالف لشرع الله، في أسفل السفينة؛ لأن هذا منزله، وهذا موقعه الحقيقي، فهو في القاع والحضيض دوماً، ووضع الأتقياء الصالحين الأخيار في أعلى السفينة؛ لأنهم في القمة والمقدمة دائماً.
ثم بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن المجموعة التي في قاع السفينة تريد أن تتحرر، وتتخفف من المسؤوليات، فقالوا: نقترح أن نخرق في نصيبنا خرقاً، حتى لا نؤذي من فوقنا بالصعود والهبوط طلباً للماء!!
وهذه هي الفكرة الخطيرة في مفهوم الحرية، حيث يقول البعض: أنا لدي حرية فردية، أريد أن أقوم بشخصيتي، ولا دخل لكم بي! فيكفي أنني لا أؤذي من فوقي!
نقول: بل أنت تؤذي نفسك وتؤذينا.
فالذي ينشر المخدرات، أو يفعل المنكرات من أي نوع من أنواع المنكر، ويغلف ذلك العمل بورق جميل على أنه حرية فردية، كما هي فلسفة الغرب المادية التي تنطلق من أن الجماعة تنتمي إلى الفرد، لا أن الفرد ينتمي إلى الجماعة، وأن الأصل هو الفرد نفسه!!
نقول: لا يا أخي، فإذا غرقت السفينة، فإنها تغرق بك، وبنا جميعاً، فأنت تملأ الأجواء بالجراثيم، والأوبئة، ثم تقول لي: لا تتأثر!! هذا كلام لا يستقيم أبداً عند العقلاء.
هؤلاء الناس الطفيليون الذين يريدون أن يستغلوا المجتمع، ويخرقوا فيه خروقاً، هم سبب كل خراب ودمار يحل بالمجتمع.
فهذا الذي يرتشي مثلاً، ويُسكَت عنه، إما لمكانته في المجتمع، أو للخوف منه إن كان من أهل الحظوة، أو تهاوناً، بفعله ذاك يجعل الآخرين يرتشون؛ لأنهم يرون أن هذا المرتشي يكسب وهو جالس في مكانه، أما هؤلاء الجادون في أعمالهم، القائمون بها على أكمل وجه، فليس لهم أي مخصصات، أو امتيازات، فتتسع دائرة وزاوية الانحراف، وتصير الرشوة جزء من الحياة الاجتماعية للناس!!
وعندما يقال: إن المجتمع أصبح يغرق في الرشوة، نقول: لقد كان من الممكن أن لا يغرق|، لو أننا أخذنا على يد المرتشي الأول، وضربناه على يده، ومنعناه من هذه الجريمة.
وهذا الكلام ينسحب على كل مؤسسات الدولة: الأمنية، والصحية، والتعليمية، وغيرها، فكل أنواع الخراب تبدأ ببذرة صغيرة، فإذا سكتنا عنها، إما تهاوناً، أو مراعاة لمكانة فاعلها الاجتماعية، أو خوفاً من موقعه، فهنا ينتشر الفساد في هذه المؤسسة، ومن ثم تغرق السفينة، وإذا غرقت فإنها تغرق بالجميع.
ولو فسدت السفينة، ولو كثرت الخروقات فيه، فغرقت، ففرق بين غريق شهيد قام بواجباته، وأخلص لربه، وبرّأ ذمته، وأراح ضميره، وبين إنسان غريق مات خائناً للأمانة، مستغلاً للمجتمع، مات وهو يحس أنه ينافق، ويخرج بأكثر من صورة، وأكثر من وجه.
فرق بين غريق نظيف، وغريق متسخ، غريق راقي من أهل الله، وغريق من أهل الشيطان.
فاختر أي الغريقين تكون حتى لو غرقت السفينة، ولكنها بإذن الله لن تغرق ما دام فيها المصلحون.
ولذا فإننا ونحن نتكلم عن المسؤولية، ونتأمل في واقعنا الاجتماعي في كل بلد، نشعر في ظل تصاعد معدلات الفردية الذاتية، والأنانية الذاتية، وفي ظل طغيان الثقافة الفردية، والنزعة الفردية، أننا نساهم جميعاً في إغراق سفينة المجتمع، وأننا جميعاً مسؤولون عن إغراق هذه السفينة، فلا بد أن نستنكر، وأن ننصح، وأن نرشد، وأن نرفع الرأي إلى أهل الشأن، وأن ننبه، وألا نسكت، يجب أن ننصح في كل مكان، وأن نصحح أي سلوك خاطئ، وألا نبخل على الآخرين بالكلمة المخلصة.
كنت ذات مرة في مطار دمشق، أنتظر الإذن بالتوجه إلى الطائرة، وكان في صالة الانتظار شاشة يعرض عليها فيديو كليب مخل بالذوق العام، فقلت للذي وضع لي الشاي: لو سمحت غيّر هذه القناة. فقال لي: ليس أنا المسؤول هنا! فقلت له: أريد المسؤول إذن. فجاءت أخت، وقالت: تفضل، هل من خدمة؟ قلت لها: حبذا لو قمت بتغيير هذه القناة التي تعرض هذه الصور العارية، والأغاني، إلى أي قناة مفيدة أخرى. فقالت: لماذا؟ قلت لها: لأنها مزعجة، وسيئة. فقالت: ولكن الناس ساكتون! فقلت لها: وهل سكوت الناس معيار على أن ما يعرض هو حق وصواب؟! فقالت: هناك أناس آخرون يريدون هذا الشيء. فقلت لها: وهل مجرد الإرادة من هؤلاء تعني أن هذا مفيد وصالح؟ فقالت: الحرية! فقلت: ولكن لو اختلفت الحرية: فهذا يريد، وأنا لا أريد، فاختلفت الطلبات، وتقدير المصلحة، والحرية، فما الحل؟ أليس المنطق والصواب أن تضعي شيئاً محايداً نتفق عليه؟ فقالت: وهل يعني ذلك أن هذا الفعل حرام؟ فقلت لها: قبل أن أقول لك: حرام، فهذا فيه إساءة لك أنتِ كامرأة؛ لأنه يعرض المرأة ليس فقط على أنها جسد عاري مستباح، بل إن وراء ذلك بعداً معرفياً على أن المرأة سوق، ويتم تداولها، وليس لها أي قيمة إلا القيمة المادية! فأنتِ كامرأة حرة عاقلة شريفة، الأصل أن تثورين وتتمردين على هذه الإهانات القذرة. فقالت: فعلاً، كلامك صحيح، ويجب على كل النساء أن يعترضن على هذا الأمر، واستجابت، وغيّرت القناة مشكورة.
ولذلك فنحن عندما نتكلم وننصح، فإننا نؤثر في الناس، ولكننا حينما نسكت مع الإحباط العام، وتقول: هذا الأمر صغير، وتافه، ولا يستحق كل هذا النكير، فهنا المصيبة، فلا تقلل من شأن مسؤولية معينة، مهما كان حجمها، فهذه هي قيمنا التي تحكمنا.
أما الغرب فإنه ينطلق من الحرية الفردية، وأضرب لكم مثلاً: ففي عام 1956 أعلنت جمعية علم النفس الأمريكية: أن الشذوذ، والمثلية، ليس فطرياً، ولا غريزياً طبيعياً، وإنما هو سلوك مكتسب.
وفي عام1991 – 1992 جاء كلينتون وقال عبارته التي لا تخفى عليكم:
dont ask dont till، لا تسأل، ولا تخبر، فتعاطف مع المثليين والشواذ كونه ديموقراطياً!! فقامت الجمعية وغيّرت رأيها!!
فهؤلاء قوم ليس لديهم ثوابت، أما نحن فأمة لها ثوابتها، ولا نتحرك مع المصلحة، ومع رفع الأيادي البرلمانية التي تكون أكثر، وإنما الأكثر والأصوب ما كان ينتمي إلى قيم ومبادئ، فالتصويت، والعملية الإجرائية الكمية تدمر القيم كلها، ومن ثم ينعكس على المجتمع، وعلى الأسرة، وعلى الفرد، وعلى الحقوق، والواجبات.
إذن الكل مسؤول، (كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)، كما قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.