بينى وبينكم 2011 الحلقة الاولي الحب الالهي
الحب الإلهي
من المعاني الجميلة، والمشاعر التواقة، معنى المحبة، تلك الكلمة التي لها وقعها في النفوس جميعاً، ولها منزلتها التي لا تعادلها منزلة، بل لو قلتُ: إن الدنيا كلها قائمة على أساس هذا المعنى، وتتفرع عنه، لما كنتُ مبالغاً.
إن ما نراه اليوم ونعيشه من هذا الانفلات العالمي في وسائل اﻻتصال، وسقوط كل الجدر، والعوائق، والحواجز، والخنادق، والموانع، حتى أصبح التواصل سهلاً ميسوراً، وكان الغالب على هذا التواصل الفساد، والاستهلاك، جعل كثيراً من الناس يعيشون حياة القلق، والخوف، وتأنيب الضمير!! لماذا؟
صحيح أنه يوجد مئات المواقع المفيدة: العلمية، والتربوية، والثقافية، والصحية، وغيرها، إﻻ أنك تجد كثيراً من الناس ينصرف إلى مواقع اللذات، والشهوات، والعبث، واللهو، والجرائم.
إن مثل هذا الجو قد أربك كثيراً من الناس، حتى ممن هم على صعيد الإيمان، فأصبحت المعصية في متناول اليد، وغدت تكنولوجيا الفساد تصل لكل إنسان، بمن فيهم الأخيار، بل وتأتيك تطرق عليك بابك، وتقتحم كل الحواجز لتصل إليك، عبر لقطة في الهاتف، أو رسالة في الموقع الإلكتروني، أو دردشة في الغرف المغلقة، أو غير ذلك من الوسائل التي تُبتكَر صباحاً ومساءً، مما أنتج حساً عند الكثيرين للقول: أبعد كل هذه المعاصي والذنوب، هل لي توبة؟!
لسان حاله يقول: لقد أدمنت تلك الصور السيئة، وذلك السلوك السخيف، وأدمنت هذه المكالمات المحرمة، فصارت جزء من شخصيتي، وحياتي، بل وتبرمجت عليها، ثم يتذكر أن الله سبحانه وتعالى شديد العقاب، فيقع في نفسه اليأس!!
أقول:
إن مثل هذا الشعور ينبغي ألا يسيطر على المؤمن، ولا يجعله ينساق وراءه، لأنه خلاف حكم الله تعالى، بل لا بد من التوازن في هذا المقام، فلا يأس من رحمة الله تعالى، ولا أمن من عذاب الله تعالى، وخلاصة الأمر أننا نحن مع الله تعالى المحبّ لنا، الذي وضع هذه التشديدات، والنذر من أجلنا، ﻻ ضدنا، فالذي يحذرك وينتبه من أن هذا الطريق فيه وهدة سحيقة، وأن هناك مخاطر في هذا الدرب، فإنه يريد لك الخير، وما التخويف إلا من أجل النجاة، هذه هي الحقيقة.
تعالوا بنا نتكلم عن حب الله تعالى، الموازي والموازن للخوف من الله تعالى، لأن الخوف إذا زاد وقع اليأس والقنوط، فنوازنه بالرجاء، ونجعل الحب هو القاعدة الكبرى.
الحب: هو أقوى طاقة تحرك الإنسان، وتفجر فيه الحركة، والحيوية، والعطاء، والبناء، والنماء، والضرب في الأرض.
الحب: هو مجال التضحية، فالكل متفق أن عاطفة الحب أقوى العواطف عند الإنسان، بل ذكر الإمام ابن القيم في كتابه “روضة المحبين” أن الخوف يعود بعد ذلك إلى الحب، ويلتف حوله، ويصب في صالحه؛ لأنه معنى مغاير، فأنت تخاف من المرض؛ لأنك تحب الصحة، وتخاف من الهزيمة؛ لأنك تحب الانتصار، وتخاف من الفشل؛ لأنك تحب النجاح.
فإذا أحببنا المحبوب الأول، دارت واستدارت المفاهيم كلها في هذه الدائرة الإيجابية، فتصمم حبك للبشرية وفق حبّك الأعظم، وهو حب الله سبحانه وتعالى.
ما هو الحب؟
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: لا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء، فحدها وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة.
إذن تعريف الحب صعب للغاية، وهذا الكلام يقوله ابن القيم، ويقوله كل عالم في النفس والتربية؛ لأن الحب مشاعر! وإذا أردت أن تعرّف المشاعر، فإن تعابير الناس عن مشاعرهم تختلف، ثم إن بعض الناس إذا أراد تعريف الحب فإنه يعرف البدايات، وبعضهم يتكلم في الثمرات، والنهايات، وبعضهم يتكلم في أسباب الحب، وبعضهم في تلبسه في الحب، فالمشاعر يصعب التعبير عنها.
ثم ذكر الإمام ابن القيم ثلاثين تعريفاً للحب، ولما جاء على التعريف الثلاثين، قال: وهو من أجمع ما قيل فيها، قال أبو بكر الكتاني: جرت مسألة في المحبة بمكة أعزها الله تعالى أيام الموسم، فتكلم الشيوخ فيها، وكان الجنيد أصغرهم سنًّا، فقالوا: هات ما عندك يا عراقي. فأطرق رأسه، ودمعت عيناه، ثم قال: عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرقت قلبه أنوار هيبته، وصفا شربه من كأس وده، وانكشف له الجبار من أستار غيبه، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله، ولله، ومع الله. فبكى الشيوخ، وقالوا: ما على هذا مزيد. جزاك الله خيراً يا تاج العارفين.
أراد الإمام ابن القيم أن يشرح هذه المحبة، وكيف يصل الإنسان إليها، فقال:
فصل أسباب المحبة: في الأسباب الجالبة للمحبة، والموجبة لها، وهي عشرة:
أحدها: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه، وما أريد به، كتدبر الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه. ليتفهم مراد صاحبه منه.
ودعوني أذكر لكم معنى من معاني التأمل في كتاب الله، فمثلاً:
كلنا يقرأ سورة العاديات، فقد أقسم الله سبحانه وتعالى فيها بالعاديات أي بالخيل المجاهدة التي تعدو، وتذهب، لكي تدافع عن حياض الإسلام، وترد أذى المشركين.
والله سبحانه وتعالى له أن يقسم بما يشاء؛ لأنه الخالق لكل شيء.
{والعاديات ضبحاً. فالموريات قدحاً. فالمغيرات صبحاً}.
انظر إلى دقة الوصف، وروعة الصورة البلاغية، وجمال اللوحة المتحركة في الأداء القرآني.
والعاديات ضبحاً: هي الخيل عندما تعدو فتضبح، أي تصدر صوتاً، بمعنى أنها بذلت كل الجهد، والعاديات أي المسرعات.
ضبحاً: أي وصل صوتها لأعلى، بحيث أن المجاهد الراكب عليها يسمع صوتها.
فالموريات قدحاً: أي أن أقدامها تقع على الحجارة فتقدح النار، ففي الأعلى صوت، وفي الأسفل قدح.
فالمغيرات صبحاً: أي أنها تكون في الصباح الباكر مستعدة للهجوم؛ لتؤدي مهمتها.
ثم قال تعالى: {فأثرن به نقعاً}: أي أن تلك الخيل أثارت الغبار بأقصى ما يمكن؛ لأنها بذلت أقصى ما يمكن من سرعة.
{فوسطن به جمعاً}: أي توسطن الجمع، والمعركة.
ثم قال تعالى: {إن الإنسان لربه لكنود}! والسؤال: ما هي العلاقة بين القسم بالخيل في أرض المعركة، وبين الكلام عن صفه إنسانية عامة وهي أن هذا الإنسان كنود: أي جحود، ومعاند، ومكابر؟
قالوا: إن الله سبحانه وتعالى يريد أن يقول لك أيها الإنسان: انظر إلى هذه الخيل العجماء، فقد بذلت كل وسعها في الجري، والبكور، والقدح من النار في أرجلها، والنفَس المتصاعد منها بشدة، والغبار، وتوسطت المعركة، وأدّت واجبها على أتمّ جهد وأكمله، أما أنت أيها الإنسان فتجحد وتعاند!!!
بمعنى أن هذه البهيمة العجماء قد استسلمت، وأطاعت فارسها، وأما أنت الإنسان العاقل فإنك تجحد لربك سبحانه وتعالى!! أفتكون هذه الخيل أعقل منك؟!
أفتكون هذه البهائم مستسلمة لأصحابها أكثر من إستسلامك يا كنود لخالقك رب العالمين؟!!
يا لها من مفارقة، هكذا يكون التأمل…
ومثال آخر:
يقول الله تعالى: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين. إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً. قال سلام قوم منكرون}.
الملائكة دخلوا على إبراهيم عليه السلام فقالوا سلاماً، فقال هو سلامٌ، لماذا قالوا سلاماً بالنصب؟ ولماذا أجابهم سلام بالضم؟
قالوا: إن الملائكة سلموا بجملة فعلية، فقالوا: سلاماً بالنصب، وسلاماً مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره نسلم سلاماً، فهي جملة فعلية.
أما إبراهيم عليه السلام فقال: سلام بالضم، وسلام خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو، فكانت جملته اسمية.
وقد استقر عند العرب أن الجملة الفعلية الحركة، وعدم الثبات، بخلاف الجملة الاسمية التي تدل على الثبات والاستقرار، فكان رده وسلامه أقوى وأثبت من سلام الملائكة، وهو موافق لأمر القرآن: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها}.
هكذا ينتبه له البلغاء، فهل نحن فعلاً تأملنا القرآن الكريم تأملاً صحيحاً؟!
وهذا يذكرني بما قاله الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي في وحي القلم: من معجزات القرآن الكريم أنه يدخر في الألفاظ المعروفة في كل زمن، حقائق غير معروفة لكل زمن.
أي أن النص الواحد يقرأه الجيل الأول فيأخذون منه معنى، ويقرأه الجيل الثاني فيأخذون منه معنى آخر، ويقرأه الجيل الثالث فيأخذون منه معنى ثالثاً، ﻻ يناقض المعاني السابقة؛ وهذه هي العلاقة الموضوعية بين القرآن الكريم، وعبقرية اللغة العربية، وتركيبها.
ومن اللفتات في معنى الحب الإلهي ما ذكره الإمام السبكي في كتاب طبقات الشافعية الكبرى، في ترجمة الجنيد البغدادي، قال:
حججتُ على الوحدة، فجاورتُ بمكة، فكنتُ إذا جنّ الليل دخلتُ الطواف، فإذا بجارية تطوف، وتقول:
أبى الحب أن يخفى وكم قد كتمته فأصبح عندي قد أناخ وطنبا
إذا اشتد شوقي هام قلبي بذكره فإن رمت قرباً من حبيبي تقرباً
ويبدو فأفنى ثم أحيى به له … ويسعدني حتى ألذ وأطربا
فاهتز الجنيد؛ لأنه هذا ليس وقتاً للحب، ولا مكاناً للغزل، والعشق والغرام، فقال لها: يا جارية، أما تتقين الله؟ في مثل هذا المكان تتكلمين بمثل هذا الكلام؟! فالتفتت إليه وقالت: يا جنيد:
لولا التقى لم ترني … أهجر طيب الوسن
إن التقى شردني … كما ترى عن وطني
أفر من وجدي به … فحبه هيمني
إذن هي لا تتكلم عن حب أرضي، وعشق دنيوي! بل إنها تتكلم عن الحب الحقيقي، الحب الأعظم، ذلكم هو الحب الإلهي.
هذا الحب الإلهي شيء لا يعرفه إلا من ذاقه، ولذلك قالوا: من ذاق عرف، ومن عرف غرف، فإذا حرم انحرف!!
فهل جربت مذاق حب الله سبحانه وتعالى؟
ثم قالت له: يا جنيد، تطوف بالبيت، أم برب البيت؟
فقال: أطوف بالبيت.
فرفعت طرفها إلى السماء وقالت: سبحانك ما أعظم مشيئتك في خلقك، خَلْق كالأحجار، يطوفون بالأحجار!!
هذا الذي نريده وهو المعايشة في العبادة.
ثم تابع الإمام ابن القيم عندما في ذكر الأسباب الموصلة إلى محبة الله تعالى، حتى قال: السابع: وهو من أعجبها، انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى، وليس في التعبير عن هذا المعنى غير الأسماء والعبارات!!
بمعنى أن الألفاظ، والكلمات، مهما كانت قوية وبليغة، فإنها لن تؤدي حق معنى كلمة الانكسار، والمحبة بين يدي الله، فهو أكبر منها.
ثم ينتقل إلى سبب آخر من أسباب نحبة الله تعالى، فيقول: الخلوة به وقت النزول الإلهي، لمناجاته وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب، والتأدب بأدب العبودية بين يديه، ثم خَتْم ذلك بالاستغفار والتوبة.
ونقل عن شيخه الإمام ابن تيمية أنه كان يقول: الولادة نوعان: أحدهما: هذه المعروفة، والثانية: ولادة القلب والروح، وخروجهما من مشيمة النفس، وظلمة الطبع.
فالنفس أمارة بالسوء، والطبع مادي غليظ، والذي يرتقي بهما هما القلب والروح.
ومن حِكم ابن عطاء الله السكندري: ما نفع العبد مثل خلوة، يدخل بها ميدان فكرة.
فكل الذي يحيط بنا في الدعوات، والشوارع، والتلفاز، والجرائد، والمجلات، والهواتف، هي صور حسية تخاطب الجسد.
ماذا تلبس؟ الماركة، الجسد، الصورة، الجمال، الغريزة، الجسم، الإنسان الجسماني المادي مع الأسف!!
بينما الخلوة تجعلك ترتقي جداً، بصفاء ذهن، وشفافية روح، وسكون مع الجوارح، وإعادة لمحاسبة النفس.
الخلوة تعطيك منظاراً تقيّم فيه الماضي، وتأخذ منه العبرة، وتستفيد من العثرات.
الخلوة تجعلك تتخلص من فوضى الحاضر؛ لأن الحاضر في كل مكان، فهي تجعلك تعيش اللحظة، وتستمتع فيها من أجل المستقبل أيضاً.
هذه هي الخلوة التي نريد، خلوة ذكر، وخلوة استغفار.
ولاحظ أن الخلوة ليست سلبية، فهي ليست العزلة المحضة، ولا الوحدة والزهد في الناس، بل خلوة تقود إلى عمل، وإنتاج، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن من يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير ممن لا يخالطهم، ولا يصبر على أذاهم)).
كذلك من الأسباب الموصلة إلى محبة الله تعالى: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم، كما ينتقى أطايب الثمر، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعلمت أن فيه مزيداً لحالك، ومنفعة لغيرك.