بينى وبينكم 2012 الحلقة التاسعة عشر حسرات الكرام
حسرات الكرام
الكرم هو: العطاء، والبذل.
وأعني به ذلك العطاء المحبوب وليس المغصوب، والذي ينبع من داخل النفس، وليس بالجبر والإكراه الخارجي، الذي يسلب مني ما عندي لأي مجاملة.
حديثي عن النفوس ذات الطباع الكريمة التي تتألم؛ لكنه ألم إيجابي…
حديثي عن حسرات الكرام…!!
وبين يدي كتاب بعنوان: “حسرات الكرام“.
لصديقنا عبد الرحمن يوسف الفرحان، وهو محقق ممتاز، وجامع جيد، جمع لنا فيه مادة قيمة، ودبجه بقصص غريبة عجيبة.
الكتاب عبارة عن أربعة أقسام:
الحسرات في الحديث النبوي الشريف، مع شرحه بالآيات.
الحسرات في الحكايات، وأخبار الكرام في التاريخ.
الحسرات في الشعر، والشعراء.
الحسرات في الأمثال العربية، والشعبية.
أين تكمن أهمية هذا الموضوع؟
رب العالمين جل جلاله يخاطبنا قائلاً: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، فهل نحن من هذا الصنف الذي ينفق مما أحب، ومما يحرص عليه، أم أن نفقتنا تكون مما زهدنا فيه، ورغبنا عنه، ولم نعد بحاجة إليه، فبدلاً من رميه، والتخلص منه دون فائدة، نقول: لنتصدق به!!
فهل هذا فعل كرام النفوس؟!!
القرآن الكريم في بداياته، وفي أوائل آياته يقول لنا: {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون}، فجمع لنا العقيدة، والعبادة، والجانب المالي، وهو الإنفاق.
وفي سورة آل عمران يقول الله تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين}، فما هي صفاتهم يا رب العالمين؟
قال: {الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}، فكلها صفات كرم، فكظم الغيظ، والعفو، والإحسان، كلها كرم وعطاء، فالعطاء قبل أن يكون مادياً خارجياً، يجب أن يكون قلبياً داخلياً، ومن ليس عنده قلب يعطي، فلن يعطي ما في يده!
وللفائدة فهناك سخاء، وجود، وإيثار، أما السخاء: فهو أن يعطي الأقل، ويمسك الأكثر، وأما الجود: فهو أن يعطي الأكثر، ويبقي الأقل، وأما الإيثار: فهو أن يعطي كل شيء، ولا يبقي لنفسه شيئاً!!
وهذه لحظات تاريخية نادرة تحققت عند الصحابة عندما وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}، فعندما انتقل المهاجرون من مكة إلى المدينة، احتفى أهل المدينة من الأنصار بهم، وأعطوهم الشيء الجزيل، وساووهم بأنفسهم، ثم بين الله تعالى النتيجة العملية لهذا الفعل المبارك فقال: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}.
والسخاء أنواع: فهناك سخاء بعد طلب من المحتاج، وهناك سخاء بلا طلب من صاحب الحاجة، بل إن السخي نفسه يبحث عن ذاك المحتاج، ويتقصى في ذلك؛ ليعطيه، ويواسيه!
وهناك من يعطي من يراه مستحقاً، ويوجد في المجتمع أناس من شدة سخائهم يعطون من يعرفون، ومن لا يعرفون، ومن يستحق، ومن لا يستحق، فهو يتفجر عطاءً، فهذا يجب توجيهه؛ لئلا يقع ماله في يد من لا يستحق، على حساب من يستحق، وهذا يذكرنا بقول شوقي: (من أحب المال تعب في جمعه، ومن أحبه المال تعب في تبديده).
ومن الأحاديث التي بدأ بها المؤلف في قضية حسرات الكرام:
قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها، ويعلمها).
إذن هناك نوعان محمودان من الحسد:
النوع الأول: رجل آتاه الله مالاً، وهذا في باب الماديات، ماذا يفعل هذا الإنسان في هذا المال؟
لقد سلّطه على هلكته بالحق، والتسليط معناه: إعطاء بنفسية معينة خاصة فيها قوة على من يستحق، لكنه وضع لنا احترازاً خطيراً يجب الانتباه له وهو قوله: (بالحق)، فهو لا يهلك هذا المال في أوجه الفساد، والإسراف، والمنكرات، كما يفعل بعض هؤلاء، وإنما يهلكه في طاعة الله تعالى، وابتغاء ثوابه وأجره.
النوع الثاني: ورجل آتاه الله الحكمة، والحكمة كما قال الإمام النووي وغيره: هي مراعاة كل أمر زكي، وتجنب كل أمر سافل أو رذيل، وهذا في المعنى العام، لكنها في الحديث مخصوصة بكونها يقضي بها ويعلمها، ولذلك قالوا: أعظم الحكمة كتاب الله سبحانه وتعالى؛ لأن القضاء يقتضي أن يكون عدلاً، ويقتضي أن يكون شرعاً، ويقتضي أن يكون سماوياً.
هذا الحديث النبوي الشريف وقف معه العلماء وقفة:
نحن نعلم أن الحسد مذموم، فجاء هذا الحديث ليبين لنا أن هناك حسداً مشروعاً، فما الجواب على ذلك؟
قال الإمام ابن حجر العسقلاني: وأما الحسد المذكور في الحديث فهو الغبطة، وأطلق الحسد عليها مجازاً وهي أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره، من غير أن يزول عنه، والحرص على هذا يسمى منافسة، فإن كان في الطاعة فهو محمود، ومنه: {فليتنافس المتنافسون}، وإن كان في المعصية فهو مذموم، ومنه: (ولا تنافسوا) وإن كان في الجائزات فهو مباح.
ولكن أين نجد حسداً حلالاً في المال بمعناه الحقيقي وليس مجازياً؟
ذكر الإمام أبو حامد الغزالي أن ذلك يكون لمن يملك مالاً فينفقه في وجوه الفجور، والكفر، والضلال، والمنكرات، فأنت تحسده بأن يزول ماله، لا لذات النعمة؛ ولكن لاستعماله لهذه النعمة فيما حرم الله تعالى، أي أن الحسد هنا منصب على الأثر الفاجر المدمر للمال الذي يملكه، فأنت تتمنى أن الله تعالى يحرمه هذا المال، وينزعه منه؛ لأنه لا يقوم فيه بحق الله تعالى.
وجاءت رواية أخرى لهذا الحديث: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل أتاه الله مالاً وسلطه على تلفه بالحق).
كذلك من الأحاديث المهمة في هذا الباب، وقد ذكره المؤلف في كتابه:
حديث أبي كبشة الأنماري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلماً، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقه، قال: «فهذا بأفضل المنازل». قال: وعبد رزقه الله علماً، ولم يرزقه مالاً، قال: فهو يقول: لو كان لي مال عملت بعمل فلان. قال: «فأجرهما سواء»، قال: وعبد رزقه الله مالاً، ولم يرزقه علماً، فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقه، فهذا بأخبث المنازل. قال: وعبد لم يرزقه الله مالاً، ولا علماً فهو يقول: لو كان لي مال لعملت بعمل فلان، قال: هي نيته، فوزرهما فيه سواء).
أما الأول والثاني فهما شركاء في الأجر، الأول بعمله بالنفقة والبذل والعطاء، والثاني بنيته الطيبة الحسنة، حيث يتمنى لو كان عنده مال كصاحبه الأول لفعل فعله، فهذه هي النفوس العظيمة، التي تخلد صاحبها، وترفع ذكره، ولو كان لا يملك شيئاً، فهذا وصاحبه الأول لهما الأجر نفسه.
أما الثالث فهو أخبث وأخس الأقسام فهو عبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً، فلوس، وأموال، وجهل، وحماقة، يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقاً، وهؤلاء أصبحنا نشاهدهم كثيراً، يسافر بعضهم لأوروبا، وينفق آلاف الدنانير والدراهم، هنا وهناك، على المحرمات، والمنكرات، بل وعلى التوافه من الأشياء، وحجته في ذلك قوله: أريد أن أرى الأوروبيين ينحنون مذلولين لمالي!! فهذا شخص فيه خبل، وفيه جنون، وفيه طغيان، فهذا بأخبث المنازل، والعياذ بالله.
أما الرابع: فمنكوس منحوس، لا علم ولا مال، ومع ذلك إثم وغضب، لأنه يتمنى أن يكون له ما لذلك الغني الأرعن، فيعمل بالمال عمله!! فهو بنيته الخبيثة السيئة، فهو خائب واقعاً، وخائب نية، فوزرهما سواء.
وقد يسأل سائل:
كيف يحاسب الإنسان على نيته، مع أنه لم يعمل؟ وهناك حديث نبوي مشهور يقول فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها، ما لم تعمل أو تكلم)؟!
وسوست به صدورها: أي وسوس أن يتحرش بفلانة، ووسوس أن يرتشي، ووسوس أن يخون، فالحديث ينص على أن الله تعالى تجاوز عن الوسوسة، والمحك هو الفعل، فما الجواب؟
أقول: الحديث الأول لا يتناقض مع هذا الحديث؛ لأن ذلك الشخص الذي لا يملك مالاً، وتمنى أن يكون عنده مال؛ لينفقه في الشهوات والمحرمات، هذا ليس من باب وسوسة الصدر، بل إنه تكلم بذلك، وصرح به، فقال: يا ليت عندي مال فلان لكي أفعل به كذا وكذا.
ثم إن العلماء من أهل التحقيق يقولون: إن هذا التجاوز يكون لمن لم يوطن نفسه على فعل المعصية، ولم يستقر قلبه على ذلك، بمعنى أنه خاطر عارض، أما أن تكون النية عازمة على الفعل، كمن يبحث عن فرصة متحينة، هنا وهناك، فهذا الهلاك.
ولذلك نريد جميعاً أن نكون ممن ينوي الخير، وأن نركز هذه النية الطيبة في نفوسنا؛ حتى إذا ما أتيحت الفرصة أعطينا، وبذلنا، وقدمنا، وإن لم تتح الفرصة نكون نفوساً زكية، ونؤجر على نوايانا الطيبة.
أما الحكايات في هذا المجال فكثيرة، وقد ذكر الكتاب طرفاً طيباً منها:
وأبدأ بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بكلماته العظيمة عندما تكلم عن حسرات الكرام، أو النوايا الطيبة، أو الأمنيات الكريمة، حيث قال: (المؤمن إذا نظر اعتبر، وإذا سكت تفكّر، وإذا تكلم ذكر، وإذا استغنى شكر، وإذا أصابته شدة صبر، فهو قريب الرضا، بعيد السخط، يرضيه عن الله اليسير، ولا يسخطه البلاء الكثير، قوّته لا تبلغ به، ونيته تبلغ، مغموسة في الخير يده، ينوي كثيراً من الخير، ويعمل بطائفة منه، ويتلهف على ما فاته).
أقول:
كم نية كل واحد منا في اليوم من الخير؟
انظر إلى المحتاجين، والمعوزين، والمثقلين، والغارقين في الديون، من يقوم عليهم، ويسعى في قضاء حوائجهم، ويفك كرباتهم؟
ومن الروايات:
أن رجلاً سأل سفيان الثوري، فلم يكن معه ما يعطيه، فبكى سفيان، فقال له مسعر بن كدام: ما يبكيك؟ قال: وأي مصيبة أعظم من أن يؤمل فيك رجل خيرًا، فلا يصيبه عندك؟!!
ودخل أبو ريان على عبد الملك بن مروان، وعنده أسير، وكان عبد الملك خائراً، فقال له: مالك؟ قال: أشكو الشرف! فقال له: وما الشرف؟ فقال: نُسأل ما لا نقدر عليه، ونعتذر فلا نُعذر!!
بمعنى: أن يأتيك شخص يطلب منك شيئاً لا تقدر عليه، ولا تستطيع مساعدته، فتعتذر منه، وتذكر له الأسباب، لكنه… لا يعذرك!!
لا شك أنها مصيبة شديدة على الكريم.
ومن المواقف العجيبة: ما جاء في طبقات الشافعية الكبرى:
عن الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي يقول: وقصده رجل يطلب منه شيئاً، فأعطاه ما أمكنه، ثم أنشأ يقول:
يا لهف نفسي على مال أفرقه … على المقلين من أهل المروءات
إن اعتذاري إلى من جاء يسألني … ما ليس عندي من إحدى المصيبات
هل هناك مصيبة أكبر وأعظم من مثل هذه المصيبة؟
يأتيك شخص يطلبك، ويستجديك وهو مستحق لذلك، ولكنك لا تستطيع مساعدته، أو تستطيع بما لا يسد حاجته، فهذه عند أهل الكرم والمروءة والشهامة من أجل المصائب.
فمثل هؤلاء الناس يجب أن نتحرك لهم، ونحرص على مساعدتهم، وعونهم.
يروى أن الأصمعي قصد ذات يوم رجلاً في حاجة، لعلمه بكرمه وطيب نفسه، فوجد على بابه حاجباً فمنعه من الدخول عليه، ثم قال: والله يا أصمعي ما أوقفني على بابه لأمنع مثلك؛ ولكن لرقة حاله، وقصور يده، فكتب الأصمعي رقعة فيها:
إذا كان الكريم له حجاب فما فضل الكريم على اللئيم
ثم قال للحاجب خذ هذه الرقعة وأوصلها إليه، فأخذها الحاجب ودخل عليه وسلمها إليه، فلما قرأها، كتب على ظهرها بيتاً من الشعر:
إذا كان الكريم قليل مال تحجب بالحجاب عن الغريم
وأمر الحاجب بإعادتها إليه مع صرة فيها خمسمائة دينار، فجاء بها وسلمها إليه فسر بها، وقال في نفسه: والله لأتحفن المأمون بهذا الخبر، فتوجه نحو مجلس المأمون، وطلب الدخول، فأذن له بالدخول، فسلم عليه وأذن له بالجلوس، فسأل المأمون الأصمعي: من أين جئت يا أصمعي؟ قال: من عند رجل من أكرم الأحياء. قال: ومن هو؟ فدفع الأصمعي إليه الرقعة والصرة، فقال المأمون: هذا من بيت مالي، ولا بد لي من الرجل، فقال الأصمعي: إنّي أستحي أن أروعه، فقد أحسن إليّ، فأمر المأمون أحد رجاله بإحضار الرجل، فلما حضر الرجل بين يدي المأمون، قال له: أما أنت الذي بالأمس شكوت رقة الحال، فدفعنا لك هذه الصرة لتصلح بها حالك، فقصدك الأصمعي ببيت واحد من الشعر فدفعتها إليه؟!
قال: نعم يا أمير المؤمنين، والله ما كذبت فيما شكوت من رقة الحال، لكن استحيت من الله تعالى أن أعيد قاصدي، فقال المأمون: لله أنت، فما ولدت العرب أكرم منك، فبالغ في إكرامه وجعله من جملة ندمائه.
أما الأمثال العربية في قضية حسرات الكرام فكثيرة، منها:
بيتي يبخل لا أنا، يقال: قالته امرأة سئلت شيئاً تعذر وجوده عندها، فقيل لها: بخلتِ؟ فقالت: لست أنا أبخل، وإنما بيتي يبخل، وضمنوها ببيت شعر يقول:
وجدنا البر محموداً ولكن منازلنا ولم نبخل بخيله.
ومن الأمثال:
يقال: الجود من الموجود.
والعين بصيرة، واليد قصيرة
ويقال:
وعد رجل رجلاً حاجة فأبطأت عليه عِدَته، فقال له: صرت بعدى كذاباً، فقال: نصرة الصدق أفضت بي إلى الكذب.