وياكم 2013 الحلقة الخامسة والعشرون احرار
أحــــــــــــــــرار
في شهر أكتوبر، من عام 2000، زرتُ الولايات المتحدة الأمريكية، وتحديداً مدينة بوسطن، وألقيتُ سلسلة من المحاضرات في بعض المراكز والجامعات.
وفي نهاية إحدى المحاضرات النسائية، جاءتني مديرة الطالبات في الجالية هناك، وهي أخت بحرينية اسمها فاطمة، وقالت لي: عندنا امرأة سويدية ذكية، مطّلعة، ومتأملة، قرأتْ الفلسفات، والأديان، وزهدت فيها كلها، لأنها لم تجد فيها ما يشبع نهمها، ويجيب على تساؤلاتها، ولما زارتنا هنا للتعرف على الإسلام عن قرب، أعطيناها القرآن الكريم، وبعد أن قرأته وتمعنت فيه، فوجئت وقالت: ﻻ يمكن أن تكون هذه المعلومات بتنوعها، وعمقها، ومضامينها، وشمولها، ودقّتها، من صنع شخص!! ليس هذا فحسب، بل لا يمكن أن تكون هذه المعلومات في ذلك العصر!! هذه استحالة.
تقول فاطمة: لقد هزني كلامها هزاً عنيفاً، وقد أكثرتْ علينا التساؤﻻت والإشكالات، فهل بالإمكان لديك أن تجلس معها؟ لأننا لسنا من أهل التخصص في هذا المجال.
قلتُ: إذا سمح الوقت فلا بأس،-وكان يومها لدي محاضرة في النادي الثقافي أو الطلابي السعودي-، فخرجنا بعدها مع أحد الطلبة، والتقينا بها مع صديقتها، هي اسمها انجريد، وصديقتها اسمها تانيا، وهي أمريكية مسيحية مطلقة من رجل مسلم لا يعرف من الإسلام إلا اسمه!
ولما بدأنا الحوار، قالت انجريد: لقد اقتنعت كثيراً بهذا الكتاب، وأنا أقترب من الإسلام يوماً بعد يوم، إﻻ أن هناك إشكالية أرقتني كثيراً، وﻻ يمكنني استيعابها.
قلتُ: ماهي أيتها الفتاة العاقلة؟
قالت: من المستحيل أن أتخيل أن القوانين الوضعية الإنسانية تكون أرقى من قوانين الله تعالى في قضية الحريات وحقوق الإنسان!! قلت: وكيف ذلك؟ قالت: لماذا لم يحرم الإسلام الرّق دفعة واحدة، وبقرار مباشر، وحاسم؟ لماذا تركه معلّقاً هكذا؟ لماذا لم يتدرج في تحريمه كما تدرج في الخمر؟ وهل يكون القانون الدولي لحقوق الإنسان، والممارسات البشرية في القرن العشرين وما قبل القرن العشرين في تحرير العبيد والرّق أرقى من كتاب الله؟!! أظن أن هذا يستحيل.
قلتُ لها: هذا السؤال أرجعني بالذاكرة إلى أيام الصبا، حيث كان الشيوعيون يرون أن في أحكام الإسلام في الرّق دليلاً على أن هذا الدين دين مرتبط بالبيئة، ومن النسق الثقافي الخاص به، أي أنه لا يصلح لكل زمان، ومكان، فهو مرتبط بالثقافة الموضوعية الواقعية هناك، فلم يتحرر من وطأة الواقع، أي أنه باختصار شديد: دين مصطنع ومحلي ووقتي!!
ولعلي أذكر في هذا المقام أن من أشهر الكتب التي ناقشت الشبهات العامة عن المرأة، وعن الرّق، والرأسمالية، والشيوعية، كتاب شبهات حول الإسلام لمحمد قطب رحمه الله تعالى، وقد أطال النفس في قضية الرّق، وقال: إنها من أخبث الشبهات التي يتلاعب فيها المغرضون في عقول شبابنا!! والسؤال الآن: كيف نناقش مثل هذه الشبهة؟
بداية أقول: إن التصوّر الكلّي للإسلام بقواعده العامة يريحنا عند الإجابة عن النتف المتناثرة في اﻻعتراضات أو الإشكاﻻت، فنحمل هذه الإشكاﻻت التي قامت في أذهان أصحابها، وليس في واقع النص، على تلك اليقينيات والقواعد الكلية.
فأوﻻً: يجب أن نعلم أن أحكام الشريعة تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أحكام عامة لها صفة الديمومة، تشمل الجميع، الصغير والكبير، والحاكم والمحكوم، والذكر والأنثى، كالعبادات من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، وغيرها، كذلك أحكام الأخلاق كالصدق، والوفاء، والعدل، الخ، كذلك أحكام الأحوال الشخصية من زواج، وطلاق، وعدة، ونفقة، وغيرها، فهذه أحكام ثابتة ﻻ يخلو إنسان منها أيًّا كان موقعه.
القسم الثاني: أحكام شرعية متغيرة، مرتبطة بالظروف، فهي مرنة وقابلة للأخذ والرّد، والتنويع في التطبيق على الواقع، مثل:
- ü أحكام السياسة الشرعية.
- ü أحكام الإمامة والخلافة.
- ü متى تعلن الحرب؟
- ü متى تقف الحرب؟
- ü هل نقبل الفداء؟
- ü هل نبادل الأسرى؟
- ü هل نأخذ أسرى؟
- ü هل نقبل التعويض؟
إلى غير ذلك من أحكام تخضع لطبيعة الظروف والأحوال.
فهذه قوانين ليست ثابتة؛ لأنها لو كانت ثابتة، لجمدت الحياة، وتعطلت الشريعة، فالشريعة تعطي صفة الثبات لما يصلح للثابت الإنساني، طبيعة، وسلوكاً، ونمطاً، وتعطي أحكاماً متغيرة بما يسمح لتطوير الحياة.
وكان من ضمن الأحكام التي تدخل في دائرة الأحكام المتغيرة: قضية الرّق.
فهذه إذن أول قاعدة في نوعية الأحكام الشرعية.
ثانياً: الشريعة تفرق بين نوعين من المعالجات للمشكلات، فهناك مسائل لا تقبل التدرج في المعالجة، وهناك مسائل قابلة للتدرج، فمنذ أن نزلت الشريعة، وإلى يومنا هذا، فمسائل العقيدة ثابتة لا تتغير، وليس فيها تدرج في معالجتها، بل حكمها مباشر، وحاسم، وهذه الأحكام كالذي طلبته الأخت السويدية، كقول الله تعالى:
{فاجتنبوا الرجس من الأوثان}، وقوله: {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن}، وغيرها من آيات.
فقضايا العقيدة، ﻻ يوجد فيها تدرج، وﻻ مساومة، لأنها إيمان وكفر…
فلا يصلح أن يقال لعابد الوثن والصنم: تدرّج في عبادته، فاعبد اليوم نصف الصنم، وغداً ربعه!!! وهكذا، هذا لا يكون أبداً، لأن عبادة غير الله شرك، وبالتالي لا بد من تغيير عقيدتك فيها مباشرة ودون تردد، أو تدرج.
المعالجة الثانية: معالجة القضايا اﻻجتماعية، والسلوكيات الخاطئة، والعادات، والتقاليد، والعلاقات، والمنظومة الثقافية، التي تغوص في بنية النفس الداخلية، وفيها شبكة علاقات مترابطة بعضها ببعض، ومعقدة، تطبع عليها الناس، فصارت جزءً من شخصيتهم وبنيتهم الخاصة، فأصبح من الصعوبة بمكان أن ينخلع منها الإنسان، فمثل هذه المسائل تحتاج في معالجتها إلى التدرج، كما رأينا كيف أن القرآن الكريم تدرج في حكم الخمر، إلى أن خلصهم منه بحكم نهائي، بعد أن عودهم من خلال التدريب السلوكي، والنفسي، والتهيأة اﻻجتماعية على التخلص من هذه الآفة.
ومن هذا القبيل مشكلة الرق، فهي مشكلة ليست سهلة، بل معقدة! فهي مشكلة اجتماعية، تربوية، نفسية، للرقيق نفسه أولاً، ولسيده وللمجتمع ثانياً، فهي داخلة في نظام العائلة، وفي البعد اﻻقتصادي، سواءاً في الزراعة أو غيرها، وفي الحروب، وفي ملك أمراء القبائل لهؤﻻء الناس وغيرهم…
إذن هي مسألة معقدة متداخلة في المجتمع، ونسيجه، وممزوجة بتعاطيه اﻻقتصادي، والثقافي، واﻻجتماعي، والطبقي.
فكيف يمكن معالجة هذه المشكلة بقرار مباشر، ودون تدرج؟!
إن القضايا والأمراض اﻻجتماعية لا يمكن أن تحل وتعالج بقرار، وإن كان صائباً، ومرحباً به، ومنطقياً، وإنما الذي يعالجه قرار مع تهيئة تربوية، ووعي ثقافة، وإجراءات عملية.
ولنضرب مثلاً على هذا النموذج من المشاكل بقرار تحرير العبيد في أمريكا، الذي اتخذه الرئيس الأمريكي إبراهام لينكولن، وصادق عليه الكونجرس الأمريكي، فماذا كان؟!
لقد نتج عن هذا القرار خمس سنوات من الحروب الطاحنة، راح ضحيتها نصف مليون قتيل، ونصف مليون معاق، وبقي الرقيق والعبيد بعد القرار 150 سنة، وهم يتعامل معهم في أمريكا على أنهم كائنات أخرى!! ففي المطاعم لهم أبواب خاصة يدخلون منها، وفي الحافلات لهم مقاعد خاصة، أو حافلة خاصة، وفي المدارس ﻻ يختلطون مع الطلبة الأمريكان، فكانوا في حالة من المنبوذية اﻻجتماعية، رغم أنهم في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين!! فلماذا يحدث ذلك، وأنتم بلد ديموقراطي، علماني، ليبرالي، يؤمن بحقوق اﻻنسان؟!!
لأن المسألة ليست قراراً يُتخذ، وينفذ! بل المسألة مسألة بنية نفسية ثقافية، ومسألة وعي …
إذن لينكولن ماذا عالج؟! لقد عالج العرض، ولم يعالج المرض! وكما قال الحكيم: العرض هو الرق، والمرض هو العنصرية.
فأنت تريد أن تمنع الرّق، ولكن ما الذي يجعل الناس في بلدك تحب اﻻسترقاق، وتحتقر البشر، وتستعلي على الآخرين؟! إنها العنصرية المقيتة التي لا تزال متحكمة بهم، وتسيّرهم.
وقد يعترض البعض على ما سبق إيراده بوصول رجل أسمر إلى أعلى سلطة في البلاد، ألا وهو الرئيس الأمريكي أوباما، وقد تقبله الناس، وأذعنوا لقراراته ومواقفه، والحقيقة أن الأمر ليس بهذه النظرة القاصرة، ويدل على ذلك ما جاء في كتاب: أزمة نظام، لمؤلفه عبد الحي زلوم، والذي فجر فيه أشياء كثيرة، فقد تكلم في الفصل الأخير من هذا الكتاب عن أوباما، وهل هو أسود؟ بمعنى أنه ينظر إليه أنه أسود البشرة فقط، أم إلى أي كتلة ينتمي، وإلى أي تجمع رأسمالي، وارتباط صهيوني؟ إلى آخر الثقافة التي تدفع به مالياً، فمالم تعرف اللعبة المالية، والدعم اﻻقتصادي، واﻻرتباطات في الكتل الفاعلة، فإنك لن تفهم معنى أسمر وأبيض!!
إذن القضية أن القرآن والإسلام لم يأتِ لمعالجة العرض، وأنه يوجد رقيق في المجتمعات، ويكتفي بذلك وحسب، وإنما جاء لمعالجة المرض، والنظرة الدونية والعنصرية، ومن ثَمّ فكّ اﻻشتباكات، والتداخل، والتراتبية في المجتمع، في الجانب اﻻقتصادي، والعائلي، والحربي، حيث أن الرقيق جزء من هذا النسيج المعقد، فلو جاء القرار مباشراً، وبصورة حاسمة، لأحدث خلخلة اجتماعية، ارتدت على الدين نفسه، وعلى تماسك المجتمع، وعلى امتداد الإسلام، ونجاح الرسالة أصلاً! وإن شئتم اقرؤوا التفصيل في حياة الرقيق ووجودهم في تلك المرحلة، فستكتشفون هذا الشيء بكل وضوح، ولكن كيف عالج الإسلام قضية الرّق، حتى نتعرف على تلك المعالجة الربانية؟!
وأنا أستشهد في قضية معالجة الرق على أن القرآن كتاب رباني، وليس العكس كما يتوهم البعض!
ففي البداية: يجب العلم أن الرق موجود في التاريخ الإنساني بكل مراحله وأغواره، ولذلك نجد الأستاذ العقاد في كتابه: حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، بدأ كلامه عن الرّق بقوله: الإسلام شرع العتق، ولم يشرع الرّق!!
فالرق موجود، وهو ليس من إنتاجنا، ولا تصديرنا، وإنما جاء الإسلام لكي يشرع العتق، ولكن كيف؟ وبأي أسلوب؟ إنه بمنهج عقائدي، تربوي، اجتماعي، نفسي.
فأول مراحل المعالجة كانت في:
إغلاق الروافد التي تموّل هذا الرّق….
والسؤال: من أين يأتي الرق؟!!
الجواب:
أولاً: من خلال الحروب التي تفتك بالدول، والمجتمعات.
ففي تلك الحروب الكبيرة بين الدول، أو غارات القبائل بعضها على بعض-كما في السابق-، يؤخذ هذا الإنسان، سواءاً كان صبياً أو رجلاً، ويؤسر، ثم بعد ذلك يباع ويشترى.
ثانياً: اﻻختطاف، حيث كانوا يختطفون الناس من الصحراء، أو من القبائل، والمدن، ويذهبون بهم ويسترقونهم، ومثال على ذلك: الصحابي الجليل زيد بن حارثة رضي الله عنه ، فلم يكن رقّه ناتجاً عن الحرب، وإنما نتيجة الخطف، ولم يكن رقيقاً بالوراثة، لأننا كما نعلم فإن اﻻسترقاق يتوارث.
ثالثاً: الديون، فهي من روافد اﻻسترقاق التي أغلقها الإسلام، فإذا عجز الواحد عن سداد دينه، جاءه الدائن وقال له: أنت عاجز عن سداد ديني، فأنت رقيق عندي، ومملوك لي، إلى أن تقضي دينك!!
رابعاً: بيع الأوﻻد!! وبذلك بسبب الفقر، أو العقوق، أو الخصومة، أو غيرها، فيلجأ البعض لبيع أوﻻده، فيتحولون إلى أرقاّء…
خامساً: الهبة، حيث يأتي المحتاج، ويهب نفسه إلى ذلك الإنسان، ويكون عبداً عنده بشرط تأمينه بالمسكن، والمشرب، والمطعم!!!
سادساً: العقاب على الجريمة، بأن يرتكب جريمة في حق آخر، فيقول المجني عليه لذلك الجاني: عقوبتك على جنايتك ليس لها جزاء إﻻ أن تصبح رقيقاً عندي، فيستعبده بهذا!!
هذه الأمور كلها حرمها الإسلام، وأغلق الروافد التي تغذي الرقيق، وتزيد منه، وتكرس هذه الظاهرة السلبية، اﻻجتماعية، التي ﻻ تليق بالكرامة الإنسانية.
إلا أنه لا بد من الإشارة إلى موضوع الرقيق في الحروب، وكيف عالجه الإسلام؟!
لقد جاء إلى باب الحرب، فأعلن أن المعاملة بالمثل هي السلاح الأقوى، والورقة المثلى، في الضغط على المنافس، أو الخصم، أو المقابل، وبيّن له أنه إن اتخذ أسرى من المسلمين، فللمسلمين الحق في اتخاذ أسرى من الخصم، بمعنى أوضح، وعبارة أظهر: تسترقني أسترقك!!
فمن المعلوم أنه كان بين المسلمين وبين العرب حروب، فهل يعقل أن أترك جيشي يخوض حرباً مع القبائل الأخرى والأعداء، ويسترقون مني الرجال والنساء، ثم لا أعامل الطرف الآخر بالمثل؟! هذا لا يمكن أبداً. خاصة إذا علمنا أن استرقاق العدو للمسلمين ليس كاستقرقاق المسلمين لغيرهم، فإن للرقيق في الإسلام أحكاماً شرعية، وآداباً، وقيماً، واحتراماً لكرامة الإنسان، وذلك قبل أن يحرره التحرير النهائي.
فكان مثل هذا الإعلان ورقة للضغط على الخصم بأن يكفّ عن مسألة الرق، ويقلل منها، لأنه سيقابل بالمثل، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم طبق ذلك في حروبه، لردع العدو، والتنكيل بهم، فمن استرق منا نسترقّ منهم، فكانت المعاملة بالمثل.
ثم جاء القرآن بعد ذلك، وقال:{فإما مناًّ بعدُ وإما فداءاً حتى تضع الحرب أوزارها}، فبعد أن جففت منابع الرق كلها: منبع الدَّين، ومنبع الخطف، ومنبع الهبة، ومنبع بيع الأولاد، سمح بوقوع الرق في الحروب على جهة المعاملة، ومع ذلك جاءت القاعدة القرآنية تقرر أنه بعد الحرب: {فإما مناًّ بعدُ وإما فداءاً حتى تضع الحرب أوزارها}!! فإما المنّ على هذا الأسير الرقيق بإطلاق سراحه، والعفو منه بلا مقابل، وإما أن يكون ذلك مقابل الفداء، بأن يفدي الأسير نفسه، أو أن تفديه جماعته، ويطلَق سراحه.
ثم نقول: هل اكتفى الإسلام بهذه الإجراءات للحد من ظاهرة الرق، أم أنه كانت له خطوات أخرى تسير جنباً إلى جنب، للقضاء على هذه الظاهرة؟!!
والحقيقة أن الإسلام سار بخطوات وإجراءات ممنهجة، وطرق مرتبة لإنهاء ظاهرة الرق، أو على الأقل تحجيمها قدر ما يمكن.
فكانت الخطوات على النحو التالي:
أولاً: يقول الله جل وعلا:{فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة، فك رقبة}، فقد بيّن الله تبارك وتعالى أنك أيها الإنسان لن تتجاوز عقبات النجاح الأخروي، إﻻ بتحرير هذا الإنسان المسترق، وتدخله في عالم الأحياء، لأن الرق أشبه ما يكون بعبودية موت!
ثانياً: كفارات الذنوب، فقد جعل الله تعالى كفارة بعض الذنوب التي يقترفها العبد هو إعتاق الرقبة، بل جعل هذا العتق هو أول مراحل الكفارة، كما هو الحال في كفارة من أفطر في نهار رمضان نتيجة جماع زوجته، أو نتيجة القتل الخطأ، وليس القتل العمد، لأن القاتل أزهق نفساً، فكان لا بد من البديل بأن يحيي نفساً مقابلها، لأن الرق موت فعلي، فكان هذا العتق إخراجاً لإنسان آخر من الموت اﻻجتماعي، إلى الحراك الحياتي، ودمجه في المجتمع.
ثالثاً: المكاتبة، والمقصود بها أن يطلب العبد من سيده فكاك نفسه، وإطلاق سراحه وحريته، مقابل مبلغ من المال يتفقون عليه، يدفعه العبد للسيد، كما في قوله تعالى:{فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً}، وليس من حق السيد الامتناع عن القبول، والإصرار على إبقاء ذلك الإنسان عبداً له، بل لا بد من إجابته إلى ما يريد.
ولذلك كان من مصارف الزكاة الشرعية العبيد، كما جاء نصاً في كتاب الله تعالى:{إنما الصدقات للفقراء والمساكين…..إلى أن قال: وفي الرقاب}، فإن العبد الذي يطلب حريته، ويكاتب سيده على ذلك، إلا أنه لا يجد المال الذي يدفعه لذلك السيد، فإنه والحالة هذه يعطى من أموال الزكاة ما يعينه على قضاء دينه، وسداد سيده.
إلى غير ذلك من إجراءات وخطوات اتخذها الإسلام، لتفكيك قضية العبيد شيئاً فشيئاً، والقضاء عليها نهائياً.
وهنا لا بد من الإشارة إلى مسألة مهمة جدًّا في هذا المقام، ألا وهي:
قضية الإمـــــاء …
فالإماء واقع موجود، وكان طريقاً إلى الزنا والفجور، فجاء الإسلام واستبدل ذلك بدخول الأمَة في أمان رجل واحد، وتكون ممنوعة ومحفوظة عنده عن الآخرين بمثل حقوق الزوجة، بدلاً من الإباحية التي كانت موجودة في الجاهلية، وعند الرومان، واليونان، وغيرهم.
وفي الوقت نفسه تصبح هذه الأمة أم ولد إذا أنجبت ولداً لسيدها، ويكون ولدها حرًّا، وتدخل الحياة الحرة؛ لأنه لو لم يتزوجها الحر، فقد يتزوجها عبد، وينجبون العبيد، وتكرس المشكلة، وتزيد روافد الرق.
ونحن عندما نتكلم عن هذه العناصر، يجب أﻻ نغفل عن نقطة أخرى غاية في الأهمية، لابد من الإشارة إليها وهي:
أن الرقّ الذي تحرر في أوروبا لم تكن دوافعه يوماً ما إنسانية، أو حضارية، أو تنويرية!!
اقرأ كتاب حوار الحضارات للفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي حيث يذكر وبالوثائق أن تكاليف العبيد والرقيق زادت بعد الثورة الرأسمالية، ودخول المصنع، فصاروا عبأ على الناس والمجتمع، فما الذي حصل؟
بدأت الدول الرأسمالية تسن قوانينها في تحرير العبيد، والتخلص منهم تباعاً، دولة فدولة، بريطانيا أوﻻً، ثم فرنسا، واستبدلوا هذا اﻻسترقاق باﻻستعمار، فأي حرية، وأي حضارة، وأي تنوير، وأي علمنة، وأي ليبرالية، يدعون الناس إليها؟!!
- كيف عالج اﻻسلام قضية الرق؟
أولاً: لا بد أن نعلم يجب أن الإسلام ساوى بين الناس في قضية الجانب الإنساني والأهلية الحياتية، قال عليه الصلاة والسلام: (من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه)، فحق الحياة مكفول له كإنسان، كذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(ﻻ يقول أحدكم عبدي وأمتي، وإنما فتاي وفتاتي)، بل القرآن سماهم فتيات وسماهم أهل، حتى يدمجهم في المجتمع، ويجعلهم جزءً منه.
ثانياً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم زوج زينب بنت جحش، الحرة الشريفة، لأحد الموالي وهو زيد بن حارثة رضي الله عنهما، كما أنه عليه الصلاة والسلام آخى بين العبد وبين الحر، كل ذلك ليدل على القيمة الإنسانية لهذا الرقيق، ولو كان عبداً مملوكاً.
إلى غير ذلك من وسائل وتوجيهات في قضية معالجة هذه المعضلة، فالمشهد طويل جداً، ولكنها لا بد أن تأتي بتدرج، كما قال العلامة ابن خلدون، وكما قال آدم سميث بعده بقرون.