وياكم 2013 الحلقة الرابعة والعشرون ثقة
ثقـــــــــة
تخيل لو أن الثقة فقدت في مناشط حياتنا كلها!!!
ما قيمة الأسرة، عندما تُفقد الثقة بين مكوناتها؟!
ما قيمة جهاز التعليم، عندما تُفقد الثقة، ويُفقد التواصل بين المعلم في أي مستوى تعليمي وبين التلاميذ، والعكس أيضاً؟!
ما حقيقة الثقة عندما تتلاشي بين المجتمع كأفراد وبين الدولة كنظام؟!
وأعظم مصيبة، وأدهى داهية: عندما يفقد الإنسان الثقة في نفسه!!
فكيف إذا غابت الثقة عن منظومة ثقافية ينتمي لها هذا الإنسان؟! من دين، وعقيدة، وأيديولوجياً، وفلسفة معينة، وفي رؤيته عن الكون، والإنسان، والحياة…
هنا يتلاشي الإنسان في كل شيء!!!
حديثي عن الثقة لن يكون علمياً إنشائياً، أو تعليمياً تفصيلياً…
وإنما سآخذ نموذجاً تطبيقياً قد يكون غريباً نوعاً ما؛ لأنه ليس من عالمنا العربي!! وإنما هناك في أمريكا، حيث يتبنى هذا الإنسان الثقة في دين معين، كان ولا يزال يسمع عن هذا الدين في طفولته، إلى صباه، إلى شبابه أشياء سلبية كثيرة، وصورة شائهة كريهة!!
إنه….الإسلام!
لقد كانت قوة الرسول صلى الله عليه وسلم تكمن في ثقة أعدائه به، منذ بدايته، إلى وفاته صلى الله عليه وسلم، كما هو الحال مع القرآن الكريم ذلك الكتاب الذي وصفه رب العزة والجلال بأنه ﻻ ريب فيه …
جون الأمريكي هو بطل قصتنا وحديثنا…
هذا الشاب الذي بدأ يفكّر في الأديان، وعمره لا يتجاوز الـ 15 عاماً، ثم بدأ يقرأ فيها وعنها، وقارن بين البوذية، والهندوسية، والنصرانية، ثم اشترى مصحفاً مترجماً، وعندما قرأه، قال: (أحسستُ أنني مسلم من الداخل)!!
وعندها أخذ بالذهاب إلى المسجد، والسؤال عن الإسلام على مدى سنتين!!
ولما بلغ الـ18 من عمره أسلم، ودخل في هذا الدين العظيم!!
ذهب للمعاهد الشرعية، وعاش في الإسلام، وحقق الثقة في هذا الدين، وبدأ يدعوا إلى عودة الثقة بهذه العقيدة، ولكن؛ من خلال ماذا؟!!
ليس من خلال أفكار مبعثرة، وإنما من خلال تبني الإسلام بشموليته، عقيدة، وشريعة، وعبادة، وأخلاقاً…
التقيتُ بـ(جون) الأمريكي سابقاً، يحيى المسلم حاضراً ومستقبلاً بإذن الله تعالى، ودار بيننا الحوار التالي:
أخي يحيى؛ على خلاف السائد، والمعتقد العام في العالم العربي والإسلامي من أن أمريكا ضيّقت على العمل اﻻسلامي وعلى نشاط المسلمين في أمريكا بعد أحداث الـ 11 من سبتمبر بالذات…
ما علمتُه أنك تذهب إلى النقيض من ذلك، وأن الحرية، والدعوة الإسلامية، والنشاط الإسلامي في أمريكا ممتاز، وإيجابي، بل إنهم ﻻ يجدونه حتى في العالم العربي! هل لا زلت مُصِرًّا على ذلك؟
فأجاب قائلاً:
بالطبع لا! ﻻ بد أن نكون محايدين، ففي أمريكا هناك حرية تامة ﻻعتناق الأديان، وممارسة شعائرها، وهذا أمر طبيعي في أمريكا، فالناس جميعاً سواسية.
ولكن بعد أحداث الـ 11 من سبتمبر، أصبح يُنظر إلى المسلمين على أنهم إرهابيون، وأن لديهم أهدافاً، أو خطة لتدمير أمريكا، إلا أن أصحاب هذا التفكير لا يشكّلون إلا نسبة قليلة، في الحكومة، وفي وسائل الإعلام، يمكن أن تصل إلى 10% ، أما الآن فقد أصبح لدينا مراكز إسلامية كثيرة، وفي كل يوم يُفتتح مركز جديد تقريباً، أي أن الأمر في توسع هنا بحمد الله تعالى، كما أن هناك مدارس إسلامية كثيرة.
وقد عشتُ في الكويت ومصر ما يقارب خمس سنوات، فلعلي لا أكون مبالغاً إن قلتُ: إن الحرية في التدين، وإظهار شعائر الدين أوسع وأسهل في أمريكا مما هي عليه في العالم العربي، سواء قبل الأحداث، أو بعدها.
قلتُ له:
لماذا ﻻ يكون هذا للمسلم الأمريكي بالأصالة؟! فأنت أمريكي بالأصالة، فلك الحرية في أن تفعل ما تشاء، ولكن المسلم الذي حصل على الجنسية الأمريكية، وهو من أصول عربية، أو من أصول باكستانية، أو من أصول ألبانية، أو من أصول تركية، فلعل الوضع يختلف عنك؟
فأجاب قائلاً:
أبداً ﻻ يختلف، فالأصل أن من حمل هذا الجواز فله الحقوق كاملة، ولكن تبقى المشكلة في هؤلاء أصحاب الأسلوب المتشدد، والقسوة في المعاملة مع الآخرين، فهم الذين ينفرّون الناس من هذا الدين، ويشوهون صورته، ويجعلون الآخرين يقفون منه موقف العداء والخصومة.
وقد يظن البعض أن في كلامي مبالغة كيبرة، ولكني أقول إن هذا الأمر رأيته بعيني، وسمعته بأذني، سواء في وسائل الإعلام، أو حتى في الشارع، أمام الناس!! فأحدهم يقف على ركن الشارع في نيويورك، ويعلن بكل صراحة أننا سوف ندمر أمريكا، وبدأ يتحدث عن الإسلام، والجهاد، وغير ذلك!!
قلتُ له:
ولكن هناك إشكالية حقيقية بين الشرق والغرب في فهم الآخر، وأكبر مظاهر هذه الإشكالية هذا التشويه المتبادل على مدار الساعة بين الكتلتين أو الجبهتين، فماذا تقول في ذلك؟!
فقال:
لا شك أن هذا الكلام صحيح، وواقعي، والسبب الرئيس في ذلك من وجهة نظري هي وسائل الإعلام!
مرةً كنتُ في مصر، فركبتُ سيارة أجرة مع أخ عزيز، وطيب، ولما بدأنا بالتعارف، سألني: أنت من أين؟! فقلت: أنا من أمريكا! توقف قليلاً، وقال باستغراب ودهشة بادية على وجهه: أمريكي!! أنت مسلم أمريكي، غريب!! كانت فكرته سيئة عن أمريكا، وعنده تشويش في الحقائق، جعله يصاب بالدهشة عندما رأى أمامه مسلم أمريكي.قلت له: وما الغرابة في ذلك؟! ففي أمريكا يوجد 8 مليون مسلم! بل إن القوانين هناك في صالح الدين! فهي التي سهلت طريقي لأن أكون مسلماً! وبحمد لله هناك ما يقارب الـ 20 ألف شخص يدخلون الإسلام سنوياً! علماً أن ذلك يحدث في ظل التفسير الخاطيء للإسلام، والتشويه المتعمد لمعالم هذا الدين وحقائقه، بل إن معظم هؤلاء الداخلين في الإسلام من النساء! ويلتزمن بالحجاب مباشرة!
ولكن التشويه المتبادل من وسائل الإعلام هنا وهناك هو الذي يجعل كل طرف يقف في صف العداوة، والكراهية للطرف الآخر، مع أنه قد لا يكون يعرف عنه شيئاً أصلاً، وهذا الأمر يمارس من الطرفين، فالبعض من المسلمين يجعلون أمريكا كلها سياسة ضد الإسلام، وكذلك الحال في أمريكا حيث يجعلون المسلمين كلهم إرهابيين، متشددين، متخلفين، والحق في الوسط دائماً، كما قال الله عز وجل في كتابه:{كذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس}، فالحق أنه في أمريكا الحسنات والسيئات، والطيبون والسيئون، فليس الكل سواء، فيوجد المتدين المتشدد، والمتدين المعتدل، والعلمانيون، والملحدون، وغير ذلك، وهذا بذاته موجود في البلاد العربية، وبين المسلمين، ولكن الإشكال الخطير أن كل طرف لا يرى في الطرف الآخر إلا أسوء ما فيه، ولا ينظر إلى الإيجابيات، وهذا خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إيجابياً إلى أبعد حد، وكان يبحث عن الخير، ويظهر الخير أينما كان، فعندما كان في طريق الهجرة، ومعه أبو بكر رضي الله عنه، وأبو بكر خائف جداً من ذلك الموقف العصيب، فالمشركون يلاحقونه، وقد يعثرون عليهم في أي لحظة، ومع ذلك كله نجد النبي صلى الله عليه وسلم ثابت الجأش، مطمئن النفس، يقول له: {ﻻ تحزن إن الله معنا}!
فالخير لا بد أن ندركه، ونظهره للناس، وننشره بينهم، وأما الشر فنتركه للشيطان، وأعوان الشيطان.
قلتُ:
لفت نظري في كلامك أن النساء في أمريكا أكثر إقباﻻً على الإسلام من الرجال، بل هذا في الغرب بشكل عام، عن طريق إحصائيات دقيقة قامت بها مؤسسات موثوقة، كمؤسسة جسور للتعريف بالإسلام، كيف يمكن تفسير ذلك، في حين أن صورة المرأة المسلمة مشوهة، فهي في نظرهم مظلومة في الإسلام، وحقوقها مهضومة؟!
فقال:
نحن نحزن كثيراً عندما نأتي إلى بلاد الإسلام التي منّ الله تعالى عليهم فيها بالهداية، والنور، والخير، ونرى من أخواتنا هناك التبرج، وعدم العفة، والحياء، وعدم الالتزام بأحكام الله تعالى، مع أن لديهم نظاماً إلهياً ربانياً، يحافظ عليهم في الدنيا والآخرة، هذه من المفارقات العجيبة.
وبالنسبة لصورة المرأة المسلمة في بلاد الإسلام، وأنها مهضومة الحقوق، وأنه ليس لها قيمة، وأنها كأنها سلعة، فهذا الكلام تسمع به النساء الأمريكيات، ويطّلعن عليه، ولكن المرأة الأمريكية تدرك بعد الدراسة للواقع الذي تعيشه، أنها هي التي تعامل معاملة السلعة، وأنها لا تتمتع بحقوقها المشروعة، إلا تلك الحقوق التي توافق أوهاء، ومطامع، وشهوات، ونزوات الرجال!!
ولذلك يجب على المرأة المسلمةان تعتز بدينها أولاً، ثم النظر بعين البصيرة إلى واقع المرأة الغربية، وكيف يُنظر إليها، وألا تغرها المظاهر الكاذبة.
قلتُ:
وفي الوقت نفسه إن ما يطبق في بلاد الإسلام إنما هو عادات، وتقاليد، وأعراف، ﻻ علاقة لها بالأحكام الشرعية؟
فقال:
نعم هذا صحيح بلا شك، ولذلك فإن المرأة الأمريكية عندما تبحث، ترى الفرق بين هذه العادات التي تجعل من المرأة سلعة رخيصة لا قيمة لها، وتسيء إليها إساءة بالغة، وبين الأحكام الشرعية الربانية التي تعطيها حقوقها كاملة، وتنصفها، وتجعلها ملكة في بيتها.
وعلى سبيل المثال: في أمريكا حصلت المرأة على حق تملك أي شيء، وهذا من سبعين سنة تقريباً، كما أنها حصلت على حق التصويت، ولكنها في المقابل عندما تتزوج من رجل، فإنها تأخذ اسمه، وهو اسم العائلة، لماذا؟؟
لأن الرجل في تعاليم النصرانية يملكها كما يملك العبيد!! والعبد يُنسب لسيده، ويأخذ اسمه، ولذلك فهي تدرك أن الحقوق التي أعطيت لها، إنما هي أمور صُورية، لا حقيقية، في حين أنها ترى أن الإسلام من 14 قرناً أعطى المرأة حقوقاً، لم يفكر العالم الغربي في إعطائها إياها إﻻ منذ نحو قرنٍ من الآن!!!
قلتُ له:
شيخ جون، أنت درست الإسلام دراسة علمية، وقرأتَ القرآن، وحصلتَ على إجازات فيه، وكان لك قصة مع القرآن، والإجازة القرآنية، والهدي القرآني، فهل لك أن تحدثنا عن ذلك؟!
فقال:
نعم، كان ذلك كله بفضل الله عز وجل، ورحمته بي، ففي عام 2002 عندما كنتُ في أمريكا، وكنتُ حينها أدرس في إحدى المدارس، أتاني أخ أمريكي مسلم، من أوكلاهوما، وسألني: هل حججتَ؟! فقلتُ: ﻻ، بعدُ، وكان قد مضى على إسلامي ثلاث سنوات تقريباً، فقال: يوجد عندنا حملات للحج بالمجان، وسوف نبعثك في أحدها! فقلت له: هذا شيء عظيم جدًّا، وسوف أستخير الله سبحانه وتعالى في ذلك، وقدر الله تعالى ويسّر لي الحج، فالحمد لله على نعمته وفضله.
وبعد أدائنا لمناسك العمرة والحج، ذهبنا في الباص إلى المدينة النبوية، لزيارة المسجد النبوي، والصلاة فيه، والسلام على الحبيب صلى الله عليه وسلم، وكنتُ وقتها مرهقاً جدًّا، وأصابني مرض شديد، جعلني أنام غالب الوقت، ومع ذلك كنتُ أسمع صوتاً جميلاً، رائعاً في الباص، مع أنني ﻻ أعرف اللغة العربية في ذاك الوقت! إلا أنني انجذبتُ بدون شعور تجاه الصوت! وكنتُ أظنها موسيقا!! طبعاً كان ذلك تفكيري كأمريكي جديد على الإسلام! فسألتُ أحد الركاب معنا، فقال لي: هذا قرآن يتلى! فقلتُ: ومن هذا القارئ؟ فقال: هذا شاب كويتي، اسمه مشاري العفاسي!
ولما وصلنا إلى المدينة بحثتُ عن سيديهات لهذا القارئ، فوجدتُ حوالي 8 سيديهات، فبدأتُ أستمع إليها بعد عودتي إلى أمريكا، وبدأتُ أحب القرآن، وكان عندنا أخ سوري، يعلمني القراءة، ويعلمني الحروف، فتعلمتُ شيئاً يسيراً.
والعجيب أنني بعد سنة ونصف تقريباً من تلك الزيارة، كنتُ أدرس في الجامعة الإسلامية الأمريكية، فتم ابتعاثي إلى مصر، وكان لي صديق حميم من الكويت اسمه إبراهيم العدساني، يعمل مدير مركز الوعي في الكويت، ويدرس في جامعة الكويت، فزرته في رمضان سنة 2003، فسألته حينها عن الشيخ مشاري العفاسي، وأين يمكن أن أجده؟! والغريب أنه لم يكن يعرفه في ذلك الوقت!! فقلتُ له: أنت في الكويت، ولا تعرف هذا الرجل، وهو مشهور عندكم؟!! فبحثنا عنه، وعرفنا مكانه، وزرناه في مسجد قرطبة، وكان يصلي معه شاب آخر، ندي الصوت جداً، اسمه فهد الكندري، فكانا يصليان التراويح بالتبادل في رمضان، والمسجد ممتليء، فكنتُ أصلي خلفهما، وأنا في قمة السعادة، والاستمتاع، لأنني الآن أفهم اللغة العربية.
وبعد انتهاء الصلاة، جلسنا مع الشيخ، وتعرفنا عليه، وكان رجلاً متواضعاً، ومحباً للناس، ومحبوباً عند الناس، فأوصاني وصية عظيمة، رغم صغرها، فقال لي: احفظ القرآن! وهذه نصيحة بسيطة، ولكنها عظيمة القدر، فرجعتُ إلى أمريكا، وبدأتُ أتوسع في الحفظ، وكنتُ في ذاك الوقت أحفظ خمسة أجزاء تقريباً.
فقلتُ له:
ثم بعد ذلك حصلتَ على إجازة في علم القرآن الكريم، وعلم القراءات؟
فقال:
هذا صحيح، وكان ذلك في الكويت في عام 2008، وكنتُ حينها أقرأ على الشيخ عبد السلام حبوس رحمه الله تعالى، ولما وصلنا آخر سورة النساء، مرض الشيخ مرضاً شديداً، وأصيب بسرطان الكبد، وكان رحمه الله تعالى من شدة حرصه علي، وعلى انتهائي من الختمة، يسمح لي بالدخول عليه في المستشفى، والقراءة عليه، لعلي أكمل معه الإجازة، ولكن قدر الله وما شاء فعل، وكان القدر أسبق، فرحمه الله رحمة واسعة، وجعل قبره روضة من رياض الجنة.
وبعد ذلك، أخذتُ بالقراءة على الشيخ سامي إدريس، صديق شيخي عبد السلام حبوس، ولكن الشيخ سامي إدريس أخذ الإجازة من الشيخ أحمد الزيات، الذي أجاز الشيخ مشاري العفاسي، فجلستُ معه، وبدأتُ أقرأ عليه من بداية المصحف الأول، إلى أن أتممتُ القراءة عليه بعد 8 شهور، فأجازني في كتاب الله برواية حفص عن عاصم.
تعجبتُ كثيراً وأنا أستمع إلى هذا الرجل الأمريكي، وهو يتكلم عن الإسلام، وعن القرآن، وعن تجربته في أخذ إجازة دقيقة في القراءات القرآنية، وحفظ كتاب الله…
لكن هذا العجب يزول عندما تعلم أن الدافع الحقيقي وراء ذلك كله إنما هو الثقة!! فمن أين جاءته هذه الثقة بهذا الدين؟! خصوصاً إذا وضعنا في اعتبارنا:
- كثرة الشبهات التي تغرق الإسلام والمسلمين.
تراجع الأمة حضارياً.
3. اﻻحتراب الداخلي في عالم الإسلام.
4. الصورة الشائهة لأمة الإسلام.
فكل هذه العوامل وغيرها جعلت من أبناء المسلمين يهتزون داخلياً، ويرتبكون تجاه دينهم، في حين أننا نجد هذا الأمريكي، وذاك السويسري، ومعه الفرنسي، وغيرهم الكثير، لم يرتبكوا، ولم يهتزوا، في نظرتهم للإسلام!!!
فلماذا ارتبك المسلمون؟؟
لأنه يوجد خلل، ناتج عن عدم الفصل بين الواقع وبين المباديء ، فالمباديء حكم على الواقع، فلو جاء إنسان يدعو إلى الديموقراطية، ويتغنى بها، ثم وجدنا الدول الديموقراطية تخالف هذه الديموقراطية التي تنادي بها، بل وباسمها تستعمر العالم، وتحوّل الشرق الأقصى، والعرب إلى مكب للنفايات، فهل ينكر الديموقراطية أو تطبيقاتها؟!!
ونحن نقول كذلك: إن الإسلام حكم على الواقع، والواقع ليس من مصادر التشريع، بل الواقع يحكم عليه، والتاريخ للاعتبار، فالواجب الالتفاف حول المباديء، فهؤﻻء الغربيون يسلمون؛ لأنهم عرفوا الإسلام، قبل معرفتهم لواقع المسلمين، فحكموا الإسلام على الواقع.
ولذلك توجهتُ لجون بالسؤال قائلاً:
أنت أسلمتَ وعمرك 18 عاماً، وخرجتَ من أمريكا وعمرك 23 عاماً، وذهبتَ إلى الخليج، وإلى مصر، وغيره، وأنت تحتفظ بصورة ذهنية عن المسلمين في عقلك قبل زيارة العالم الإسلامي، والسؤال:كيف رأيت الصورة، والواقع؟! وماذا كان اﻻنطباع على نفسك؟! لا شك أنه سؤال تحدي لكل غربي يسلم.
فقال:
في الحقيقة أن الأمر كان عسيراً جدًّا، فالواحد عندما يسلم في أمريكا، ويقرأ القرآن، ويقرأ في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي كتب علوم الدين، يفرح، ويدرك الحقيقة، ويأتيه النور، وتنزاح عنه الظلمات، فتجد هذا الإنسان يريد أن يتعرف على من وُلد في هذا الدين، وعلى الإسلام؛ لأنه يعتقد أنه بورك في هذه الوﻻدة العظيمة، لأن ذلك الشخص لديه بيئة سليمة، وعنده نص ينظم الحياة بأسلوب رباني.
ولكن للأسف الشديد عندما زرنا هذه البلاد تبخرت كثير من هذه الأحلام، ووجدنا كما يقال: مسلمين، ولم نجد الإسلام!! كنا نتمنى أن نرى المجتمع المسلم كما هو موجود في القرآن والسنة، لكننا للأسف لم نعثر عليه.
والمصيبة تعظم عندنا نحن الغربيين عندما نقارن بين بلادنا التي لا يحكمها دين، ولا شرع سماوي، وبين بلاد الإسلام التي في الأصل تقوم على أحكام الشريعة، ومبادئها، ومع ذلك نجد الالتزام في بلاد الغرب ببعض الأحكام والأخلاق، أكثر مما عليه في بلاد الإسلام، وهذا شيء محزن للغاية.
فعلى سبيل المثال: هناك قوانين كثيرة في أمريكا تراعي الذوق العام، وتراعي ظروف المجتمع، وهذه القوانين في حقيقتها أحكام وآداب وأخلاق إسلامية، عمل بها هؤلاء الغربيون، وطبقوها في بلادهم، وتخلى عنها المسلمون!
ومن ذلك: أن التدخين في أمريكا منذ عشرة سنوات مُنع منعاً باتاً في أي مكان عام يجتمع فيه الناس، إﻻ في بيتك، ويمنع أن تدخن من مسافة 50 متراً من أي مكان يجتمع فيه الناس خاصة المدارس والحدائق، لماذا؟ لأن العلم الطبي أثبت أن التدخين مضر بالصحة، خاصة الذي يشم هذه الرائحة وﻻ يدخن.
فلما جئنا إلى بلاد الإسلام، وجدنا الناس يدخنون في أي مكان، سواء كان مكاناً لاجتماع الناس، أو لم يكن!! مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ﻻ ضرر وﻻ ضرار)، وهذه قاعده عظيمة في الإسلام، فلا بد أن نرى قيمة الإسلام على أرض الواقع.
المثال الثاني: النظافة، فأنت ترى القمامة تلقى في كل مكان، وهذا خلاف الأدب، وخلاف الذوق العام، وقبل ذلك خلاف أحكام الإسلام، التي تأمر بالنظافة، وتحث عليها، ومثل هذا الأمر لا يمكن أن تراه في بلاد الغرب، أو في أمريكا!!!
ولذلك هناك خلل بين الواقع، وبين الحقيقة، بين المبادئ، وبين التطبيق.
قلتُ له:
لو أنك أتيتَ بمائة غربي، أمريكي وأوروبي، في جولة إلى أي بلد من بلدان العرب، لكي يتعرفوا على واقع المسلمين، فهل برأيك سيرجعون وهم على قناعة بأن الإسلام دين حق؟ وهل سيعتنقون الإسلام، أو سيعجبون به؟
فأجاب بدون تردد:
ربما يرجع المائة وفوقهم واحد غير مسلم!! طبعاً أنا أقول هذا الكلام من باب المبالغة، والحقيقة أن هذه مشكلة كبيرة، وقد تعرفت على البعض من غير المسلمين أتوا هنا للعمل، وهم متضايقون من حال المسلمين، وواقعهم، ويظنون أن هذا هو الإسلام!!
ولا شك أن الإسلام له علاقة وثيقة بالحياة، فكنتُ أحاول أن أبين لهم أن عندنا ضعفاً شديداً، وجهلاً منتشراً بيننا، وحقيقة لو أنني زرتُ البلاد العربية والإسلامية، وأنا غير مسلم؛ لأتعرف على الإسلام والمسلمين، فأعتقد-والله أعلم-، أنني لن أرجع مسلماً، لماذا؟!
لأنني في أمريكا عندما قرأتُ عن الإسلام، وقرأتُ في نبوءات النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرته صلى الله عليه وسلم، وزرتُ المركز الإسلامي، والجالية التي تمثل الإسلام، رأينا إخلاصاً، وصدقاً، ووفاءً، وأمانة، وحباً، ومساعدة الآخرين، وكرماً واسعاً كالبحر، فهذه الأمور وجدناها في المسجد في أمريكا، لكننا يجب ان نعلم أننا لا نعيش في زمن الخلفاء الراشدين، فلا بد أن يكون هناك التقصير، والتفريط، والخطأ.
قلتُ له:
هل تتوقع أن الرسالة وصلت للمسلمين في تقصيرهم، وفيما ينبغي عليهم من حمل الرسالة؟!!
فقال:
بلا شك، ونحن كلنا مقصرون، فأنا مقصر، وغيري مقصر، ولكن أنا أنصح الأمة الإسلامية خاصة في بلادهم، أن يدركوا قيمة الإسلام، وأن يدرسوا الإسلام على حقيقته، ويطبقوه كما أنزله الله تعالى.
كانت تلك آخر كلماته التي ختم بها لقاءه، وقد وصلت الرسالة واضحة لا لبس فيها، فلم يترك لي شيئاً أقوله، فهي صدمة، إن صح أن نطلق ذلك عليها، إنها صدمة الحضارة، ومن رحمة الله تعالى أنه لم يجعل الإسلام مرتبطاً بعرق، وﻻ بلون، وﻻ بأي اعتبارات خارجية أخرى، وإنما يرتبط بالعقيدة، وبالمبدأ، أما الأمور الأخرى، فهذه أمور اعتبارية، فقد رأينا كيف فهم هذا الرجل الغربي أن الإسلام نظام حياة، لكن الصدمة الحقيقية أن واقع المسلمين ضد الإسلام!!
ثم إنه أعطانا درساً عظيماً تمثل في حبه للإسلام، واقتناعه به من خلال الأخلاق، والوفاء، والصدق، والمحبة، والإخلاص، والأمانة التي رآها، وعايشها في المركز الإسلامي في أمريكا! بمعنى أن مجمل رسالته لنا تختصر بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما ﻻ تفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما ﻻ تفعلون}!