وياكم 2015 الحلقة التاسعة في بيتنا معاق
في بيتنا معاق
لكل أمة أو حضارة إنجازات تفخر بها، وتبرزها على أنها خلود، وكثير من هذه الإنجازات المادية، وغير المادية جاءت على حساب الإنسان، كالأهرامات مثلاً فقد جاءت لإذلال الإنسان من أجل إنسان جعلوه اعظما، إلا أن أعظم الإنجازات هي التي تخدم الإنسان فكيف إذا كان ذلك الإنسان مستضعفاً؟!
أقف في هذه الأسطر القليلة أمام إنجاز ضخم، وأمام صرح عظيم، وأمام مركز كبير، ألا وهو:
مركز الكويت للتوحد.
مرض التوحد… الإعاقة الذهنية…
عندما تعرفت على مرض التوحد الذي يعتبر أصعب من مرض الداون، ورأيت هؤلاء المساكين، علمت مدى صعوبة التواصل معهم، ومن ثم مدى الثقل، والبلاء الذي يقع على كاهل الأسرة التي تتحمل تبعات ذلك، ويختلف الأمر من أسرة لأخرى بثقافتها، وعزمها، وصبرها، وسعة إرادتها في استيعاب هذا الإنسان ،أو هذه الفتاة المعاقة إعاقة ذهنية، لذلك فإن الصعوبة تكمن من خلال هذا العنوان: صرخة صامتة، وهو اسم مجلتهم.
الإعاقة الذهنية أو التوحد هي عبارة عن – كما يشبهها بعضهم – سلك تشابك مع سلك آخر، فالأسلاك صحيحة؛ لكن الوظائف متضاربة!!
ولذلك فأنت عندما تدخل على هؤلاء، تجد عالماً من البشر يعلمك الاقتراب منهم عظم النعمة التي أنت فيها، ويستوجب ذلك منك العمل الذي يجب أن يكون.
مركز الكويت للتوحد ليس أمراً سهلاً، فهو يوصف بأنه عالمي، وبأنه مثالي، وبأنه نادر، ولست أنا الذي أقول ذلك، وإنما المؤتمرات هي التي قالت، والعالم هو الذي قال، ومن ثم فلنجعلهم هم الذين يقولون.
التقيتُ بالدكتورة سميرة السعد مديرة مركز الكويت للتوحد، ونائبة رئيس منظمة التوحد العالمية، فقلت لها:
أنا أسكن قريباً من هذا المركز، وعندما زرته قبل أيام، واستفسرت، واستفهمت، وتجولت، وشاهدت حجم المركز، وخدماته، وفكرته، تفاجأت كثيراً من ضخامة العطاء، والبذل، وقلتُ: إن كل مجتمع يحب عليه أن يبرز إنجازاته.
فماذا تقولين في هذا المقام؟
فقالت:
صدق رسولنا الكريم الحبيب صلى الله عليه وسلم عندما قال: (وهل تنصرون إلا بضعفائكم)، فعندما بدأت الحاجة لمثل هذه البرامج لمواجهة إعاقة التوحد، كانت في بدايتها بسيطة، ولم تكن بهذا الحجم الكبير، فقد بدأت في بيت صغير سنة 1989 تقريباً، وبدأت تكبر شيئاً فشيئاً، في فترة الغزو العراقي لدولة الكويت، حيث كان العمل في منطقة جدة في المملكة العربية السعودية، فتكوّن فصل أكبر ملحق فيه بعض الخدمات، ثم بالتعاون مع الجمعية الفيصلية النسائية في جدة تكونت فصول أسميناها: “فصول الأصدقاء”، لأن أطفال التوحد يحبون الأصدقاء، فقلنا: نختار لهم اسماً قريباً للحاجة التي عندهم.
ثم تكونت المرحلة الأولى بتأسيس منظم عام 1994، في أول مشروع وقفي لخدمة المجتمع للأمانة العامة للأوقاف، فكانت الأمانة العامة للأوقاف تسعى لأن تقدم الوقف بصورة جديدة، فكان أحد الخدمات غير المتوفرة في الكويت، أو في الوطن العربي كله، خدمات التوحد.
وجلسنا نحو الخمس سنوات لإقناع المسؤولين للحصول على أرض نبني عليها مشروعنا، وكذلك البحث عن متبرعين وداعمين لهذا الواقف، وبفضل الله تعالى تم تجميع المبلغ كاملاً، وتم بناء المبنى، ووضع اسم كل متبرع على فصله، أو على الجهة، أو على الجناح الذي تبرع به، حتى يستمر الدعاء له، وتستمر البركة له، ولذريته، ولمن بعده، ما دام هذا المكان يقدم هذه الخدمة، ومن أجل تحفيز الآخرين للعمل أيضاً، كما قال ربنا جل وعلا: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.
ثم كان الافتتاح، وأول ما بدأنا باختيار الاسم عزمنا أن يمثل هذا الاسم الإنسانية الكويتية، فأطلقنا عليه: مركز الكويت للتوحد، ووضعنا شعاراً له في ذلك الوقت قبل علمنا أن هيئة الأمم ستختار الكويت كمركز إنساني، سمّيناه: مركز كويتي إنساني، ليكون دافعاً للصغير والكبير أن يكون جزءً من الذين يساهمون في تنمية هذا الصرح المبارك، فإن لم يستطع، فلا من الدعاء لمن قام عليه.
وبفضل الله تعالى تم تجهيز المبنى بأفضل الأجهزة الموجودة في العالم، وهذا بشهادة كل من حضر الافتتاح من ضيوف العالم.
قلتُ:
من النقاط التي تفرد بها هذا المجمع دون سائر المجمعات في العالم أن مجمعات مرضى التوحد في العالم تكون الخدمات مفرقة فيها، أما هنا فقد جمعت الخدمات في مكان واحد، وهذا دليل على الوعي، والفهم، واستيعاب المشكلة من جميع أطرافها.
بعد هذه الإطلالة السريعة على قصة إنشاء هذا المركز المبارك، انتقلتُ للحديث مع الأستاذة خزنة الحضرمي، وهي موجهة البرامج في مركز التوحد، فسألتها عن طبيعة وظيفتها وعملها في هذه البيئة التي تعتبر أصعب إعاقة في قضية التواصل؟
فقالت:
بالنسبة للطفل المصاب بالتوحد، ومدى صعوبة هذه الإعاقة بدءً بالأسرة؛ لأنها هي البيئة الأولى التي يتربى فيها الطفل، فهذه البيئة من المؤكد أنها تواجه العديد من الصعوبات، وإذا كنا نحن نتكلم عن التوحد كإعاقة صعبة، مع أننا نتعامل معه كمؤسسة تعليمية، فما بالك بولي الأمر عندما يتعامل مع هذا الطفل، وخصوصاً في بداية تلقي خبر الإصابة بهذه الإعاقة؟! إضافة إلى أن أولياء الأمور تتفاوت درجات تعليمهم، فلا بد أن تكون هناك تحديات، وصعوبات كبيرة يواجهونها.
أما عن عملي: فعادة ما يبدأ عملنا مع الطفل المصاب بالتوحد من البيت، قبل أن يلتحق بالمركز، فتكون هناك لقاءات مع بعض الأسر التي تلجأ لنا طلباً للمشورة، والمساعدة، ومشورات تعطى للأهل ليتعرفوا على كيفية التعامل مع هذا الطفل.
وأحد الصعوبات التي تكمن في هذه الإعاقة أن كل المصابين بها يجمعهم مسمّى الإعاقة، وهي التوحد؛ ولكن إذا نظرت لهؤلاء الأطفال فتجد أن سلوك كل واحد منهم يختلف عن الآخر، فالبعض مثلاً وليس الكل عنده سلوك العنف، فإذا أردت أن تعالج هذا السلوك، ستكتشف أن كل واحد من هؤلاء له دافع يختلف عن الطفل الآخر! وهذا يتطلب أن نتعامل مع المشكلة تعاملاً آخر، يختلف من طفل لآخر.
ولهذا السبب نحن نقول: إن التعامل مع الطفل المصاب بالتوحد فيه شيء من التعقيد، والصعوبة؛ ولكنه مع الإصرار، والثبات، والحصول على المشورة الصحيحة، نستطيع أن نصل مع هذا الطفل إلى تطور واضح، وملموس، أثناء التعامل، والعمل معه.
فأول خطوة نقوم بها هي التقييم، والمقصود بها: أنني أقيّم كل المهارات الموجودة عند الطفل؛ ليتم وضع الخطط اللازمة له؛ لأن هدفنا في النهاية أن يتطور هذا الطفل، فلك أن تتخيل أن من ضمن الخطة التي أشتغل فيها مع الطفل أن أعلمه كيف يلعب!! فحتى اللعب الذي هو عبارة عن مهارة، أو صفة موجودة عند الأطفال بشكل فطري، تجد فيها نوعاً من التأخر عند الطفل المصاب بالتوحد! ولذلك نعلمه كيف يلعب، ونعلمه كيف يستخدم الحمام، وغير ذلك.
قلتُ:
وهل تستعينون بخبرات خارجية، أم أنها محلية؟ وهل يخصص لكل واحد من هؤلاء الأطفال مدرب خاص؟
فقالت:
بالنسبة لتدريب ولي الأمر على كيفية التعامل مع هذا الطفل تكون هناك جلسات معه بحيث نشرح له أسس هذا التعامل، كما أن لدينا كتيبات تشرح طريقة التدريب هذه.
قلتُ:
هل من كلمة توجهينها للآباء، والأمهات، والمجتمع، والناس عموماً في هذا الموضوع؟
فقالت:
أنا دائماً أحمد الله تعالى على أن وفقني لهذا العمل الجليل، وأفخر أننا في دولة الكويت، وأن لدينا هذا الصرح العلمي الكبير، ولدينا هذه الخدمة التي نقدمها لهؤلاء الأطفال المصابين بالتوحد.
وهذه دعوة لكل شخص يشعر أنه محتاج أن يستزيد من المعرفة بإعاقة التوحد أن يبادر إلى ذلك، لأن التدخل المبكر، والتدخل الصحيح من البداية في هذه الإعاقة سوف يوصلنا إلى نتيجة طيبة في العمل مع هذه الفئة، فلا أحد ييأس، ولا أحد يقول: هذا معاق، وليست منه فائدة، الكل يستطيع أن يتعلم.
قلتُ:
هل تستقبلون الزائرين كالمدارس مثلاً، أو مجموعات زيارة؟
فقالت:
نحن نستقبل الزائرين من كل مكان، وهدفنا أولاً هو نشر الوعي بإعاقة التوحد، وأحد الأمور التي نعمل عليها أن ولي الأمر عندما يخرج مع ابنه المعاق ألا يخجل منه، وألا يخفيه داخل البيت، وألا يشعر أن الأنظار تتحول إليه، وتلاحقه، وتتركز عليه؛ لأنه من الممكن أن تصدر من هذا المصاب حركة غريبة أو صوت غريب.
لهذا السبب نحن نحرص دائماً على نشر الوعي بإعاقة التوحد، من أجل أن يستطيع الطفل نفسه، وولي أمره، الخروج من البيت وهو في كامل راحته.
انتقلتُ بعد ذلك للقاء الأخت: عروب بورحمة، رئيسة مكتب الخدمة الاجتماعية، لتشرح لنا التواصل الخارجي، والعلاقة بين هذا المركز، وبين العالم الخارجي.
قلتُ لها:
أنتم في هذا المركز الكبير ما اكتفيتم بالعمل في الداخل، والتركيز الداخلي، بل لديكم قطاع آخر للعمل الخارجي، لخدمة هذه المجموعة من أصحاب الإعاقة الذهنية التوحد.
فماذا يعرف الناس من خدماتكم؟
فقالت:
يسعى المركز دائماً إلى تطبيق الخبرات، والمهارات، التي تعلموها داخل المركز، إلى خارج المركز، من خلال التعاون مع مؤسسات المجتمع المدني، ومن خلال رحلات تربوية تعريفية، وتعليمية، وكذلك تدريبية، وتأهيلية، أي تأهيل المعاقين للعمل إن شاء الله.
فنحن نسعى أن نصل إلى كل طالب، ونخرج إمكانياته التي يعرفها، أو العمل، أو المهنة يستمتع بها، ليشتغل فيها، وينجز، ويشاهد إنجازه أمامه، وبالطبع في البداية هناك تدريبات كثيرة مع المعلم، وقليلاً قليلاً يبدأ المعلم بالابتعاد، وبالتالي يعتمد الطالب على نفسه، بوجود الوسائل البصرية التي يحتاجها.
قلتُ:
البعض لديه فكرة أن هؤلاء المعاقين قد يؤذونه فجأة، بينما هو يكون شخصاً مسالماً، وبسيطاً جداً.
فقالت:
هذه نسمّيها إيذاء الذات، أو إيذاء الآخرين، وسببها هي صفات التوحد، وهي: صعوبة التواصل والتفاعل مع الآخرين، فعندما يريد الطفل أو الشاب أن يعبر عن احتياجاته، أو يعبر عن شيء يضايقه، فإنه يعبر بطريقة غير مناسبة، أو مقبولة، ولكن عندما تعلمه، وتدربه من خلال الفريق التعليمي، والفريق التربوي في المدرسة، والمركز، كيف يطلب احتياجاته الأساسية، وكيف يعبر عمّا يريده، وعمّا لا يريده، وكيف يعبر إذا أراد أن يلعب مع الآخرين، فإن سلوكه يبدأ بالهدوء، وبالتالي تقل تدريجياً السلوكيات غير المقبولة، أو التي لا نريدها.
وكانت نهاية المطاف مع الأستاذة: شيخة الصبيحي، رئيس قسم الجودة والمتابعة، ونائب مدير الشؤون الإدارية، صاحب الطموحات، والإبداعات.
قلتُ لها:
هلا حدثينا عن هذا الحلم الذي كنت تتمنين أن يتحقق؟
فقالت:
كان حلم مركز الكويت للتوحد الوصول لاستقبال مجموعة كبرة من المصابين، وقد وصلنا بحمد الله تعالى إلى 120 طالب وطالبة، لتدريبهم، وتأهيلهم لمرحلة أكبر.
هذا الحلم الأول.
أما الحلم الآخر الذي نعمل عليه فهو: إنشاء مبنى متكامل آخر ملاصق لهذا المبنى، يحتوي على ورش عمل مهنية متخصصة للشباب؛ لأن الطالب في عمر 21 سنة يكون قد تعدّى مرحلة التدريب، ويحتاج أن يكون له مهنة معينة، وورشة متخصصة، يستطيع من خلالها أن يشعر بذاته، ويستقل بنفسه، ويقوم في الصباح ليذهب لعمله، وعندها تصل الأسرة إلى مرحلة أن تكون فخورة بولدها، ويكون هو فخور بنفسه.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الفصل التدريبي يشتمل على خمسة طلاب، سواء من الذكور، أو من الإناث؛ وذلك من أجل أن يكون هناك تركيز أكثر على الطالب في تدريبه في المرحلة الأولى، ثم هناك فصول ورش عمل أكبر قليلاً؛ لأن الطالب يكون قد أصبح أكثر استقلالية في أعمال النجارة، أو السكرتارية، أو المكتبة، فهذه الأعمال تحتاج أن يكون الطالب قد تعدّى مراحل معينة من التجريب، حتى يستطيع أن يستقل بذاته.
التركيز في تدريب الطلبة يرتكز على فريق عمل متكامل مثل: أخصائي علاج وظيفي، موجِّه البرامج، الخدمة الاجتماعية، أخصائي نفسي، وغير ذلك، فالكل يعمل كفريق واحد وفق خطة سنوية ليتم تقييم الطالب، وتتجدد هذه الخطة كل سنة حتى يصل إلى مرحلة التأهيل.
هدفنا في هذا المركز هو تشغيل الفئات الخاصة، ونحن بحمد الله من سنة 2000 بدأنا بهذا المشروع، بدأنا بتشغيل اثنين من الطلبة، والآن وصلنا إلى تشغيل ما يقارب العشرة.
إننا نسعى أن نقدم نموذجاً للكويت، وللمراكز الأخرى بأننا قادرين على تأهيل هؤلاء في وظائف إدارية، أو فنية، أو غيرها.
كانت تلك إطلالة سريعة موجزة لهذا الصرح العظيم: مركز الكويت للتوحد، الذي يعد مفخرة لدولة الكويت بهكذا عبادة تقدم لأضعف خلق الله، وبهكذا جهاد نفهم المفاهيم الواسعة للدين.
وفّق الله الجميع لمزيد من الأعمال، والإنجازات الإنسانية العالمية الثرية.