وياكم 2016 الحلقة الثانية ديكتاتورية الموضة
ديكتاتورية الموضة
ترددت كثيراً في وضع عنوان لهذا الموضوع، فهل أجعله:
آلهة الموضة؟
أم: معبد الأزياء والموضة؟
إلا أنني في نهاية المطاف اخترت أن يكون العنوان: ديكتاتورية الموضة!!
ففي الزمن الذي يتكلم فيه الإنسان، ويتباهى بالحرية الشخصية، والحرية المجتمعية، والإرادة الخاصة في الاختيار، سأتكلم عن ديكتاتورية الموضة، بلغة ديكتاتورية، لغة مفردة، معاصرة، فأقول: إن للموضة عبودية حقيقية!!
ولكن: كيف؟
فالموضة اختيار، وتنوع، وعصرنة، فكيف تدخل في الديكتاتورية، وفي العبودية؟!!
وحتى لا يظن أنني أقف ضد الجمال، أو أنني لا أستعذب الحسن، فهذه خلاف الطبيعة، وخلاف الفطرة، وإنما أقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله جميل يحب الجمال))، ولكن متى قال هذا الحديث؟ ما هي مناسبته، وسببه؟
هذا الحديث جاء في معرض نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الكبر، فسأل أحد الصحابة بطريقة فطرية، تلقائية فقال: يا رسول الله، إن الرجل يحب أن تكون ثوبه حسنة، ونعله حسنة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله جميل يحب الجمال)).
ففكرة الجمال شيء، وفكرة الظلم، وبطر الحق، وغمط الناس شيء آخر، فالجمال فطرة في الإنسان، وطبيعة مطلوبة مجبول عليها الإنسان ؛ ولكن هل هذا الذي نراه على الشاشات، وفي الشوارع، والأسواق، والجامعات، بل وأحياناً في بيوت الله تعالى، من لباس مبتذل، يكشف أكثر مما يستر، وصرعات غريبة عجيبة، هل هذا كله داخل في وصف الجمال الذي يبحث الإنسان عنه؟!!
وهل الجمال مفصول عن الثقافة؟ وعن الهوية؟ وعن الاقتصاد؟ وعن الاستهلاك؟ وعن الغريزة؟ وعن رؤية الإنسان لنفسه؟ وعن تصوره للمستقبل؟ وعن فكرته عن الجشع، والإقتار والتوفير؟ وعن تأثير الآخر عليه؟!!
هذا الذي نريد أن نفهمه في عصر الاستهلاك، وتغول الشركات العالمية بأدواتها العبقرية، ورسائلها الساحرة إلى عقل كل واحد فينا، صغيراً كان أم كبيراً، ذكراً كان أم أنثى.
الموضة كلمة اشتهرت وانتشرت، وهي كلمة فرنسية مأخوذة من كلمة: مود، بمعنى شكل، وكلمة شكل إذا أطلقت فإنك تشعر أنها مفرغة من المحتوى، فالأشكال موجودة، ولكل مادة وكتلة شكل، بل إنك لا تستطيع أن تتصور أي شيء من غير شكل، ولعل هذا اللفظ مقصود بحيث تفرغ الموضة من دلالاتها؛ كي لا ينتبه الإنسان إليها، وإنما دلالة الحديث، دلالة التميز، وما يصاحبها من نزعات نفسية في التفرد، والتفاخر.
هذه الموضة عندما ارتبطت بثقافة الاستهلاك، والسوق، والتجارة، والجشع، ثم الرأسمالية المعولمة، تحولت من بضاعة يشتريها الإنسان إلى شيء آخر!!
كيف نفهم هذا الشيء الآخر؟
لا بد من توطئة خفيفة حتى نبين لكم، كيف تتحول الموضة إلى ديكتاتورية، لها سياط تقود الناس، وإلى عبودية يستسلم لها الإنسان، وسنأتي إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: ((تعس عبد الدينار))، إلى أن يقول: ((تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة!))، دنانير ذهب، فضة ثم كسوة، كيف تحولت هذه الأشياء إلى عبودية؟ كيف تسوقنا هذه الموضة إلى الديكتاتورية؟
لا بد أن نعرف في البداية مراحل عملية التسويق، فنحن نقع في دائرة استهداف وسائل الإعلام التي تعبر عن شركات، وتجارات، ورؤوس أموال ضخمة جداً تدفع لها!
لقد دخلت قضية التسويق في ثلاث مراحل كبرى في التاريخ:
المرحلة الأولى: مرحلة المقايضة، فمثلاً: أعطيك سكراً، وتعطيني أرزاً، أعطيك خشباً، وتعطيني قماشاً.
وهذه طريقة قديمة، سهلة عملياً، سارت عليها الأجيال فترة طويلة جداً.
المرحلة الثانية: مرحلة تلبية الحاجات، وفق مسح دراسي، فننظر ماذا يحتاج الإنسان؟ وماذا تحتاج الأسرة؟ وماذا يحتاج العامل؟ وماذا يحتاج المهندس؟ وماذا تحتاج البشرية؟ فتقوم الشركات الكبرى بإنتاج ما يحتاجه الإنسان.
فمثلاً: أنا أحتاج إلى أن أعجل وتيرة الطبخ، فأنتج قدراً غازياً سريع الطبخ، أو إشعاعياً، فالحاجة كانت هي الوسيلة الثانية.
المرحلة الثالثة: مرحلة تلبية الشغف، وهنا تكمن الخطورة واللعب! فتلبية الشغف لا تدور على قضية الحاجة، بمعنى أنت محتاج تأخذ حاجتك؛ وإنما أولِّد فيك حاجات من أجل أن تكتسبها، مع أنك لست بحاجة إليها، فهي من باب الكماليات، وما بعد الكماليات، وهنا ندخل في دائرة المنطق الإسرافي، ومنطق الديون،… الخ.
فالحقيبة مثلاً حاجة؛ ولكن أن أجعل من هذه الحقيبة تحفة فنية غالية الثمن، وتكون مرصعة بالجواهر والألماس!! أو تكون مميزة للعائلة الفلانية، وللأسر الغنية، ومن الماركة الفلانية! فهنا انتقلنا من قضية كون الحقيبة تحقق لي حاجة، إلى حاجة الشغف!!
في السابق كانت الحاجة هي أم الاختراع، أما اليوم فقد أصبح الاختراع هو الذي يشكل حاجات جديدة، فصار الاختراع هو أبو الحاجات، وعندما حدث ذلك، كان لا بد للمصنع والشركة أن تعطيني أشياء جديدة، ففي كل يوم بضاعة جديدة، وفي كل يوم ضحايا جدد، نتيجة ثقافة الاستهلاك التي تمارسها الشركات المتحالفة مع الدعاية، والإعلان، والإشهار، والمتحالفة مع وسائل الاتصال، والحاسوب، والتقنية المعاصرة، باستلاب الإرادة من الإنسان، واختراق عقله الباطن، ورسم أحلامه، وتسخيره، وتسييره، وإقناعه بحاجته الماسة لهذه البضاعة، وأنه يجب عليه أن يشتريها!!
لاحظوا كيف لعبوا علينا؟ وكيف درسوا الإنسان ونفسيته؟
قامت جامعة هارفارد بدراسة عن ثقافة، وحاجة التبضع، والشراء عند الإنسان، فوجدوا أن الإنسان ينطلق في شرائه من عشرة دوافع!! وسأتكلم عن بعضها أو أهمها، عشرة دوافع تتحكم في هذا الإنسان، فماذا يشتري؟ وهل سينتفع من هذا الشراء؟ هل سيستفيد من ذلك؟
كل هذا لا يهم صاحب البضاعة، وإنما الذي يهمه كيف يشتري الزبون؟ وكيف يسوق بضاعته؟ وكيف يعطي البصاعة عطاءً سريعاً؟
تعالوا بنا لنرى هذه الحاجات العشر التي لعب عليها الإشهار، والدعاية، والإعلان، والارتباط بين الموضة، والاستهلاك، ونرى كيف يكون التلاعب بالعقول، واستلاب الإرادة، وجعل الإنسان مجرد أداة مستجيبة.
أولاً: الدافع الروحي: فهذا في مقدمة الدوافع للموضة، فماذا يقصدون بالدافع الروحي؟
إن الدافع الروحي في الثقافة الأوروبية أوسع مما نتصور نحن، فهم يدخلون الهدية مثلاً في الدافع الروحي، ولو كانت الهدية لابنك! لأنها تعزز العلاقة بين الأب، والابن، وتعزز العلاقة بين الصديق، وصديقه، فعندما يقوم تاجر ويدعم المنتخب الوطني في لعبة دولية في رياضة عالمية، ويتبرع بطائرة تنقل الجمهور على حسابه لدعم المنتخب، فهذا دافع روحاني، يدعو للولاء للوطن، ويدعو للتناغم الاجتماعي، ويدعو للوفاء.
فماذا كان نتيجة هذه الفكرة؟
لقد بدأوا يصدرون بضاعة، يربطون فيها المعنى الروحي بهذه البضاعة، بالحقيبة، وبالسيارة، وبالأكلة الفلانية!!
فشركات الأطعمة، والوجبات السريعة المنافسة تركز أن يكون الإعلان فيه وجبة ضخمة، وعليها قطرات، ومايونيز، وكاتشب، واللون الواضح، وبشكل مغري، هذا التركيز على الجانب الفيزيائي البشري، وهذا الدافع، يحرك عصارة المعدة، ويدغدغ الشهوة، وينزل بعض الغدد، ويجعلك تتحرك راغماً لشراء تلك الوجبة المدهشة!!
وأحياناً لا توضع صورة الوجبة في الإعلان، وإنما يكون التركيز على الدافع الروحاني، فماذا صنعوا؟
كتبوا في الإعلان: مارس الوالدية مع أبنائك!!
ماذا يعني ذلك؟!
في خضم العمل، والشتات الأسري نتيجة تزاحم الواجبات، وكثرة المشاغل، كل ذلك جعل الأب أو الأم لا يرون أبناءهما! فما الحل إذن؟ وبشرط ألا يؤثر على وظائفنا، وأعمالنا، وانشغالاتنا؟
إنه مطعم الوجبات السريعة، الذي يفتح لك المجال لمثل هذا اللقاء، وبالشروط التي تريدها!!
انظر إلى مدى التأثير، والذكاء، واختراق العقل الباطن.
ومن الإعلانات المثيرة: أن يضع لك صورة كيكة، ويقول لك: كيكة بر الوالدين!!!
لاحظ الربط بالبعد الديني!! لا شك أن مثل هذا يؤثر كثيراً.
ثانياً: الدافع الذاتي، أو: الأنا، فماذا تحقق لي هذه البضاعة؟ ولذلك فإن كلمة اربح، هي خطاب مباشر لك في تحقيق البعد الذاتي! أو مثلاً: قلم رجل الأعمال! ساعة الإنسان الناجح! السيارة التي لا يركبها إلا….!!
فيعطيك البعد الذي يحقق فيك الأنا للذات.
ثالثاً: الدافع الفئوي! فهو لا يسكن البيت الفلاني، أو المنطقة الفلانية، لأنها لا تتناسب مع فئتنا! الفئة الطبقية، أو الفئة العرقية، أو فئة الغنى، أو أي نوع من أنواع الفئوية.
حدثتني طالبة من الأقارب أنها في الجامعة الفلانية لاحظت أن بعض الطالبات لا يصاحبن إلا أصحاب الماركات المعينة، فهي تمشي مع فلانة وتصاحبها لأنها تلبس ساعة مثل ساعتها، وحقيبتها من الماركة الفلانية!! وهكذا.
وهذا بلا شك سلب للإرادة، وضعف في المعايير، وتمركز حول الجانب المادي، مع اختفاء القيم الجمالية الحقيقية الأخلاقية الكبرى، وإحلال قيم صغيرة جداً مكانها.
رابعاً: دافع المواءمة! فهو يشتري الشيء الفلاني ليس لحاجته له، وإنما ليتواءم مع المجموعة، ولا يخرج عنها؛ لأنه يحبهم، وهم أصدقاؤه في المدرسة!!
أقول: لماذا الإسراف؟ ولماذا تحمل الأسرة ما لا تحتمل؟
خامساً: الدافع الظرفي!!
فقد يقول قائل لأحدهم: أنا أقدر ظرفك، وأعرف مشكلتك؛ وأنك لا تستطيع أن تشتري الشيء الفلاني! ولكنني لدي الحل!
وما هو الحل؟
يقول: أنا أعطيك بالأقساط!! والأقساط المريحة كذلك!
يحدثني أحد الأقارب يقول: أذهب إلى الديوانية فأجد شباباً توظفوا حديثاً يشترون سيارات من ذلك النوع الغالي جداً، فقلت لهم: حرام عليكم ذلك، فهذه السيارات لا يشتريها من كان راتبه كيت، وكيت!
فقالوا: هي بالأقساط!!
ولكن هذه الأقساط كم سنة؟
فهناك أب، وأم ينتظرون منك الكثير، وهناك مستقبل لا بد أن تبنيه، وهناك، وهناك… فإلى متى ستبقى مديوناً؟!
وهل نعرف ما قيمة الدَّيْن؟
إنه باختصار إمساك من يدك فلا تستطيع أن تهرب أبداً!
سادساً: دافعية اللعب! واللعب جزء من حياة الإنسان، وهذا لا إشكال فيه، ولكن عندما تأتي دعاية الإشهار، والإعلان، والموضة، وتربط اللعب بلعب تافه جداً يعطل المخ، ويقتل الوقت، فهنا الإشكال.
فالتسلية، واللعب يكون جيداً، ومقبولاً في المجتمعات المنجزة، والمجتمعات الناجحة، والمجتمعات المتقدمة، أما في المجتمعات الفاشلة التي تشكو من عدم وجود حقوق إنسان، وحريات، فإن التسلية واللعب فيها هي سياسة إلهاء عن الواجبات، وتعمية عن الانتباه للحقوق، ولما هو أهم.
سابعاً: الدافع الجنسي!! فدعاية العطر تعرضه إحدى الشقراوات التي يسيل لها لعاب الكثير من الشباب، فهو لا يشتري العطر لقناعته به، بل حبًّا فيمن عرضه!! خاصة إذا كان الذي عطر هذا العطر أو السلعة الفلانية أحد المشاهير في عالم الفن، والسينما!!
فإذا سألنا: ماذا تكون نتيجة ذلك كله؟
فالجواب: أن وتيرة الاستهلاك تكون قوية، لماذا؟
لأن الذي حدث هو حدث رأسمالي جديد:
أولاً: وفرة المادة التي يصنع منها ما يستهلكه الإنسان، سواءً أكانت وفرة طبيعية، أو وفرة صناعية.
ثانياً: سرعة الإنتاج، فبينما كانت الماكينة تنتج خمسين قطعة من هذا النوع، أصبحت تنتج خمسمائة قطعة في الدقيقة الواحدة!!
فلا بد أن تروج بطريقة صحيحة، حتى لا تتكدس، أو تتلف.
ثالثاً: نمو الشراهة عند الإنسان، وهذا ضروري من أجل هذا الترويج، ففي المنطق الاجتماعي، والمنطق الفطري فإن الإنسان يشتري ما يحتاجه، ويوفر، ويحتاط للزمن، هذا هو العقل، أما الذي يفكر فقط في لحظة الإشباع الآني اللحظي، ولا ينظر للأمام، ويتعامل مع المثير والاستجابة، فهذا إنسان صغير جداً، وهذا الأمر ليس فقط على مستوى الأفراد، وإنما على مستوى المجتمعات، والدول.
ثم إن المسألة بدأت تقع في تناقض آخر، فالأصل أن هذه حاجتي، وهذه قدرتي، إذن لا بد أن يكون هناك توافق بين القدرة وبين الحاجة، إلا أن هذا الأمر لم يعد واقعاً! فالإنسان بدأ يطور حاجات غير محتاج لها من خلال التضليل الإعلامي، وبدأ يستدين فوق قدرته، وفوق طاقته لقضايا ليست ضرورية، وليست حاجية، وإنما تحسينية، تكميلية، فالموضة تدخلنا في منطق اللامنطق، وغاية اللاغايات، ومعنى اللامعنيى، فعندما نلتفت، ونرى حال الناس ماذا تصنع بهم الموضة؟ تتساءل بينك، وبين نفسك: ما الذي يحدث؟
إنك تشعر أن الموضة انتقلت من كونها شهوة، ونزوة، إلى كونها ثقافة، ثم سلوكاً، ثم إدماناً!! لدرجة أنه أصبح يطرح الآن في علم النفس الاجتماعي، وعلم النفس السوقي، ما يعرف بإدمان التبضع!!
بل إن المثل الأمريكي يقول: إذا أردت أن تعرف وفاء زوجتك إذا مت، وأردت أن تزور زوجتك قبرك في كل أسبوع مرة، فأحرق بدنك، وانثر رماده عند أقرب مول كبير بجوار بيتها، وتأكد أنها ستزورك في كل أسبوع مرة أو أكثر!!
وها هنا جدلية بين علماء التربية، والأخلاق، والفقه الإنساني، وفلاسفة السوق، والإنتاج، فعلماء التربية يرون أن النفس البشرية مقبلة على الشره، فإذا فتح لها المجال فإنها لا تشبع، ويعتبرون أن هذه نكبة يجب أن تقف، بينما علماء الاقتصاد الذين يروجون الموضة، ويدعون إلى الاستهلاك يرون أن نقطة الثبات التي ينطلقون منها هي هذا الشره، فيعتبرونه نقطة ثبات يجب تعزيزه، وتغذيته من أجل أن يستمر، فإذن الموضة، والشره، والاستهلاك، عملية غير تربوية، عملية غير أخلاقية، وأخطر ما في هذا الموضوع:
أولاً: أن يتحول الاستهلاك إلى غاية! فإذا تحول الاستهلاك إلى غاية أصبحت هناك عبودية، وعندها يكون الإنسان مسلوب الإرادة، لأن الأمر تحول إلى إدمان في حد ذاته، وغاية، وقيمة مطلقة، وبالتالي تكون الدعاية قد نجحت في ديكتاتوريتها، وفي ضربها بسياط الشهوة والغريزة على عقول هؤلاء الناس؛ لكي يكونوا هكذا، يساقون بالجملة، فهم فاقدوا الإرادة، تتحقق فيهم عبودية السوق، والمشكلة الأكبر أن الأنثى هي الملعب الحقيقي لهؤلاء؛ لأن من طبيعة المرأة الحرص على شراء أرخص الأشياء باعتبار أنها احتالت على التاجر، ونجحت، وأخذت شيئاً فيه مكسب، وكذلك الحرص على شراء أغلى الأشياء، أو الشيء لم يشتره أحد؛ لكي تتباهى بذلك أمام صديقاتها!! إلا أن المستفيد الأول والأخير من ذلك كله في جميع الأحوال هي الشركة، التي تلعب على الحيلة النفسية، إلى درجة أن تصبح المسألة مرضاً، وإدماناً.
وقد شاهدت قبل فترة فيلماً وثائقياً عن زوجة الرئيس الفلبيني الديكتاتور ماركوس، التي عندما دخلوا بيتها، وجدوا في الطابق السفلي ثلاثة آلاف زوج حذاء نسائي!! لقد كانت مدمنة على جمع الأحذية النسائية!!
ولله في خلقه شؤون.
ثانياً: إحلال الكماليات مكان الحاجة.
ثالثاً: إحلال الماركة مكان البضاعة، فالماركة تكون هي المقصودة، فهو أو هي غير محتاج للبضاعة؛ ولكن للماركة، من أجل التفاخر، والمباهاة!!
وللكاتب الأمريكي جيري ماندر كتاب بعنوان: “أربع مناقشات لإلغاء التليفزيون”، ذكر فيه أن الدعاية التي يبثها التلفاز تحقق ثلاثة أشياء ضد الإنسان، وإنسانيته:
أولاً: استحسان البشع والقبيح!! وهذا مصداق قوله تعالى: {وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل}.
ثانياً: تشوية الحقيقة.
ثالثاً: خلق الرغبات الكاذبة.
والسؤال المهم الآن: كيف نتخلص من هذا كله؟
أقول:
لا بد أن يكون لدى كل واحد منا هدف في الحياة، وغاية عليا، وقيم، يحتكم إليها، غير قيم المادة، والسوق، وأخلاقيات الاستهلاك.
لا بد أن تكون هناك إرادة قوية، فلا يستسلم المرء لرغباته؛ لأنه ليس حيواناً، فبينه وبين الاستجابة مسافة فكر، وأخلاق، وتقدير، وحلال، وحرام، ومفيد أم غير مفيد، وإسراف أم غير إسراف، فهناك منظومة من القيم، والأخلاق، والرؤية لنفسي، ولديني، ولأخلاقي.
ثم إننا عندما نقرأ قول الله تبارك وتعالى: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها}، لماذا؟ الجواب: {لنبلوهم أيهم أحسن عملاً}، فهذه الزينة طبيعة في الحياة، ولكن الإشكالية: كيف نتعامل مع هذه الزينة؟ هنا يكمن الاختبار.
القرآن الكريم يقول لنا: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد}، والدعاية، والإعلام، والإشهار، كلها تلعب على قضية الزينة، والشيطان يزين، فلو كان حراماً، أو حلالاً، محتاجاً له، أو غير محتاج، بضاعة سخيفة، أو غير سخيفة، مفيدة، أو مضرة، تناسب شكلي، وهويتي، وأخلاقي، وأسرتي، وصلاتي، وعبادتي، أو لا تناسبها، كل هذا لا ينظر له، وإنما ينظر فقط لأنه جديد، ولأنه لذيذ، ولأنه عند الآخرين!! قيم صغيرة جداً، فصاحب هذا التفكير إنسان مسلوب الإرادة، لا ينطلق من مبادئ، أو عقائد، أو أخلاق، أو دين، وإنما من هذه التفاهات!
ومن كلمات الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه الجميلة في هذا المقام قوله: (استغنِ عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره)، فالحاجة أسر، فكيف الحال عندما تكون الحاجة كماليات؟!!
بل كماليات، وديوناً؟!!
بل كماليات، وديوناً، وحراماً، وضد الهوية، وأرباحاً لأناس يتاجرون بنا؟!!
إذن الخيار منك، ونحن وظيفتنا ان نقرع جرس الإنذار، وننوه، ونفتح العيون، لأن أول مرحلة للوعي أن تدرك أنك مخطئ، وأن تدرك أنك تمشي في وهدة سحيقة، تكاد تقع فيها في لحظة مفاجئة من غير أن تعلم! هذا أول الإدراك، ثم بعد ذلك تكون المسألة مسألة وعي مؤسسات، ودولة، ويدخل فيها القطاع التربوي، والقطاع الاقتصادي، والقطاع الأمني، والقطاع التجاري، وأهم ما يميز هذا التداخل في هذه القطاعات كلها هو عدم الازدواج، بمعنى أن لا تقول التربية ما يخالف البيت، ولا تقول الجريدة ما يناقض التربية، ولا يقول الإعلام ما يناقض وزارة الداخلية، لأن الازدواجية والتناقض تجعل الجيل يزهد بهؤلاء جميعاً، ويعول على خبرته غير المكتملة، فيقع ضحية في أتون دوار، ودوامة الموضة، والاستهلاك، وديكتاتوريتها.