وياكم 2016 الحلقة العاشرة عمالقة حضارة الاندلس
عمالقة حضارة الأندلس
كيف نقيم حضارة أمّة ما؟
كيف نحكم على حضارة ما؟
هل يكون ذلك من خلال منجزاتها المادية، وتطوراتها التقنية، وما خلدته؟
إن الحكم على أي حضارة لا بد أن ينطلق من أبعاد ثلاثة هي:
أولاً: ما خلدته من آثار وتراث للإنسانية، معماري أو علمي.
ثانيًا: ما خدمت به أبناء حضارتها الذاتية.
ثالثًا: ما قدمته من قيم، ومفاهيم قابلة للخلود، ولخدمة الإنسان.
فهل قيمة الحضارة تكمن في البعد التقني، والإداري، والإنجاز المادي، سواء على صعيد الاقتصاد، والطب، والملاحة البحرية، والفلك، وما إلى ذلك من تطورات تصب جميعها في خدمة الإنسان المادية، أم أنها تقاس بالجانب المعنوي القيمي، المفاهيمي عن الإنسان، والكون، والحياة، والعدالة، ونظرة الإنسان لأخيه الإنسان، وشبكة العلاقات الإنسانية، وما يحكمها من أخلاقيات؟
لا شك أنه ما من حضارة إلا ولها هذا وهذا، ويتداخل هذا بذاك، فأيهما يقدم على الآخر؟ وأيهما يوجه الآخر؟
إن طبيعة الصلة التبادلية بين البعد المادي التقني التكنولوجي، والتطور الحسي، وبين تلك القيم الأخلاقية الجمالية الإيمانية هو موضوع كبير، فأنا أؤمن بأن حضارتنا تقوم بعمارة الأرض بكل ما تحمل معنى كلمة عمارة وفق المنهج الرباني، لأنه توجد مناهج كثيرة في عمارة الأرض، فهناك المنهج العسكري، وهناك المنهج الشيوعي، وهناك المنهج الرأسمالي، وغير ذلك، فهي مناهج كثيرة، بحسب النظرة الاقتصادية، ونظرتها لإنسانية الإنسان.
فأنا عندما أقف في سوق في قرطبة يسمّى: سوق الحرفيين، فأنا لا أقارن ما عندنا بما عندهم؛ لأننا لو وقفنا عند هذا الحد، فإنهم سوف ينتصروا علينا؛ فهم تطوروا أكثر منا بكثير في كل ما أنجزته الحضارة البشرية من معمار، ومن أشياء مادية، كالطب، والفلك، وعالم الفضاء، وعالم الذرة، وغير ذلك، وبالتالي فإن المقارنة ستكون خاطئة إذا قارنّا بيننا وبين الحضارات الأخرى من هذا الجانب، ولكن الواجب علينا أن نقارن بينا وبينهم في الجانب القيمي الأخلاقي المعرفي، وفي النظرة الأساسية العقائدية للإنسان، والكون، والحياة، وصلتها بالإنجاز المادي، وبدون هذا سيكون طرحنا خاطئًا، وغير موفق.
ولكن يبقى السؤال: هل هذه الحضارات المادية العظيمة حققت إنسانية الإنسان؟!
والجواب يعرفه الصغير قبل الكبير أن هذه الحضارات قامت على استعباد الإنسان وتشييئه، فما هو إلا شيء يضيع في سن صغير في عجلة الاقتصاد الضخمة، التي وظفت هذا الإنسان للمادة، وليس المادة للإنسان، واستعمرته استعماراً جديداً، ناعماً أحيانًا، وخشناً حربياً أحيانًا أخرى.
هذه الفكرة التي لا بد أن نتأملها، ومن ثم لا يكون الحكم على الإنسان ماديًّا فقط، لأن لنا أحكامنا، ونظرتنا، أما تخلفنا فإنه لا يلغي فكرتنا، وعقيدتنا، فالعقيدة، والفكرة، والمنهج، هي الحكم على الواقع المنحرف.
ولتوضيح هذا الكلام، وتطبيقه على أرض الواقع، فقد قمتُ بجولة في قرطبة طفتُ خلالها على تلك التماثيل التي صنعها الإسبان كتمثال:
ابن رشد، وابن حزم، وابن عربي، والغافقي، وابن زيدون، وغيرهم، لا لبيان أن هؤلاء علماء مسلمون، وإنما لنصحح بعض المفاهيم، مثل:
هل ابن رشد كان مصيبًا في تقديسه لأرسطو؟ وما هي إبداعاته؟
هل كان علمانياً كما يقول العلمانيون؛ لأنه آمن بالفلسفة، وحارب أبا حامد الغزالي؟
وكذلك الوقفة مع ابن حزم، وابن عربي، وبقية هؤلاء الأعلام الكبار، ولو اختلفنا معهم.
إلا أن اللافت للنظر أن من ضمن التماثيل الموجودة في قرطبة تمثال لموسى بن ميمون، وهو يهودي ولد في قرطبة، ولم يطل المكث فيها كثيراً، لأنه خاف من الموحدين، فذهب إلى بلاد المغرب، وأصبح طبيباً خاصاً اشتهر عند ابن صلاح الدين، هذا الرجل يعتبره اليهود موسى الثاني في الثقافة اليهودية! بعد موسى الأول، وهو موسى النبي عليه السلام، وذلك لما طوّره وأصّله وقعّده في الفكر اليهودي، وقد كان له أساتذة مباشرون من العلماء المسلمين، وأساتذة غير مباشرين منهم عن طريق عكوفه سنين عديدة على كتبهم، لا سيما الفقيه الفيلسوف والعقل الجبار أبو الوليد ابن رشد الأندلسي.
فما هي الفكرة التي أريد توصيلها من وجود تمثال لموسى بن ميمون اليهودي في حارة سكنها اليهود في قرطبة الإسلامية؟
الفكرة هي: تحقيق العدالة الإسلامية مع من نختلف معهم من الفرق الأخرى، أو المذاهب الأخرى، أو الأديان الأخرى.
فعند القراءة في تاريخ الأندلس نجد أن اليهود مثلاً الذين كانوا يعانون في التاريخ الأوروبي القديم قمة الاضطهاد، والاستباحة، عاشوا قمة العدالة، والإنصاف في الدولة الإسلامية.
وقد برزت مظاهر العدالة معهم في صور كثيرة، منها:
أولًا: كان اليهود يهربون من مناطق النصارى، ومن مناطق الكاثوليك، ويلجؤون إلى أي منطقة إسلامية جديدة تقوم، أو قرية إسلامية تبنى؛ لأنهم يجدون فيها العدالة، والحرية، فعلى سبيل المثال: أن الفقيه الثائر ابن طالوت الذي طورد بعد ثورة الربض من الحاكم الربضي، كان قد اختبأ في بيت يهودي لمدة سنة، وبعدما كُشفت الأمور، سامحه الخليفة، وأكرم هذا اليهودي الذي أخفى من يتناقض معه عقائدياً!!
ثانيًا: أن الدولة الإسلامية في الأندلس سمحت لليهود بأن يكون المسؤول الخاص لمن يقوم بالأمور الإدارية، والقضائية بين اليهود أحد الحاخامات ممن يختاره اليهود أنفسهم، وليس الخليفة.
ثالثًا: كان لليهود سجونهم الخاصة لكي يتناغموا مع أنفسهم، وكان لهم صندوق الصدقات، والأعمال الخيرية لطائفتهم، ولبني قومهم، وفوق ذلك أنهم يبنون كنائسهم في المناطق التي فتحت سلماً، ويرمّمون القديم منها، ويعمرونها في المناطق التي فتحت حرباً من غير صلح.
رابعًا: أن الدولة الإسلامية كانت تستثمر بعض هؤلاء الذين كانوا يهودًا في الأصل في أعمالها السياسية، والدولية، فهذا ابن حزم، الأديب، والفقيه اللامع، تتخذ منه الدولة الإسلامية بعد إسلامه رسولاً للفرنجة، وللمناوئين من الكاثوليك، وغيرهم، حتى يؤدي الرسالة بلسان أبين، ودبلوماسية أذكى.
خامسًا: أن اليهود أخذوا مواقعهم في البعد السياسي في الدولة الإسلامية في شكل مناصب، وهذا ذكره المستشرقون الإسبان، والمستشرقون اليهود، وما كتاب: “الذخيرة في أخبار الجزيرة“، عنّا ببعيد!
ما الرسالة التي نريد توصيلها لجميع العالم؟
أقول: هذا الكلام نقوله في الوقت الذي يستبيح فيه اليهود المسجد الأقصى، ويقتلون الناس فيه، ويفعلون كل ما يريدون في ظل تبعثر المسلمين، يتناسب مع تراثنا الذي أنصف اليهود في كل مكان؟!!
أنتقل بعد ذلك إلى تمثال آخر بين بابين من أبواب سور المدينة القديمة في قرطبة الأندلس، وهو تمثال صنعه فنان إسباني لأبي الوليد ابن رشد، الفيلسوف، والقاضي، والفقيه، المسلم الأندلسي المعروف.
ابن رشد هو أحد أذكياء الدنيا، قال عنه الإمام الذهبي: فيلسوف الوقت، وقال عنه المؤرخ ابن الأبّار: لم يترك الاشتغال بالعلم إلا ليلتين: ليلة وفاة والده، وليلة عرسه!!
هذا الرجل يصر العلمانيون العرب على إبرازه كشخصية عقلانية علمانية، ضد التشدد الديني، لماذا؟!!
لأن ابن رشد ردّ على الإمام أبي حامد الغزالي صاحب كتاب: “تهافت الفلاسفة“، بعد أن فتن الناس بالفلسفة، فجاء ابن رشد، وألّف كتاب: “تهافت التهافت“، لبيان تهافت كلام الغزالي في رده على الفلاسفة.
مع أنني على يقين تام أن كثيرًا من العلمانيين العرب يقول ما لا يعلم، ويُعلّم قبل أن يتعلم.
فهل تعلم يا علماني، يا من تنتمي إلى ابن رشد، أن ابن رشد في رده على الغزالي انطلق من كون الغزالي فهم الفلاسفة خطأً، وبرر لأرسطو، وتبريره هذا لأرسطو كان نقيصة، إلا أنه في الوقت ذاته استدل على إثبات وجود الله تعالى بدليل النظام الذي سمّاه دليل الإبداع، والعناية الإلهية، فهل مثل هذا ملحد؟!
ابن رشد كان قاضياً في قرطبة، يحكم بالحلال والحرام، وفي الأحوال الشخصية، وفي أموال الناس، وحقوقها، كل ذلك بـ: قال الله، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال فقهاء الملكية، فهل مثل هذا ملحد؟!
ابن رشد ألّف كتاب: “بداية المجتهد ونهاية المقتصد“، في الفقه المقارن، يدرس في الجامعات الإسلامية!
ابن رشد كان عابدًا، متواضعًا، ما رأت الأندلس مثله علماً، وأدباً، وفضلاً، فهل هذا يكون علمانيًّا؟!
لولا أن العلمانيين العرب ينبشون في التاريخ للعثور على أي بصمة فيها نزعة عقلانية ينتسبون إليهم، لما كان لنا هذا الكلام.
مع أننا في كل ما قلناه نفرق بين الاحترام العميق والتقدير، وبين التقديس، فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية يقول في كتاب: “تعارض العقل والنقل“: وابن رشد يتعصب للفلاسفة.
فنحن لا نرى إشكالاً في أن يجتمع في شخص واحد مدح وذم، فابن رشد أبدع في جوانب، وهو علم من أعلام الأمّة، وأخفق في جوانب أخرى، هكذا قياس العقل المسلم، بيد أن أحد اللاهوتيين الأوروبيين ويدعى توماس كفّر ابن رشد؛ لأن ابن رشد ترجم كتب أرسطو، وبما أن الترجمة تقع فيها إشكالات لأنها نقل معلومة من لغة إلى لغة، فقد وقع في ترجمة ابن رشد لكتب أرسطو بعض الأخطاء، التي جعلت من هذا اللاهوتي يتهم ابن رشد بأنه ملحد!! وقام مصور متعصب فرسم ابن رشد وهو يسقط على الأرض، وتوماس ينظر إليه من علو، في إشارة منه إلى انتصاره عليه!!
والحقيقة أن توماسًا هذا كان يرد على فكر أرسطو، وليس على فكر ابن رشد الذي يدافع عن الإسلام، ويثبت وجود الله تعالى، وينتصر للقرآن الكريم.
وفوق تلك اللوحة لوحة أخرى قام هذا الرسام برسمها لأفلاطون، وأرسطو، وهما يخرج من رأسيهما شعاع إلى رأس ابن رشد! في إشارة منه إلى أن ابن رشد جاء بالبضاعة اليونانية، وأعادها إلى أوروبا، بمعنى: أن بضاعتنا ردت إلينا!!
ولا شك أن قضية التطابق بالأفكار الرشدية اللاتينية هي فكرة خاطئة عند الأوروبيين، فالرشدية الإسلامية ليس فيها وحدة وجود، وليس فيها ذلك الانفصام النكد الذي عند أوروبا، إنما غلطة ابن رشد كانت فقط في قضية تبريره لأرسطو في مسألة مادة العالم، الهيولي، أو المادة الخام التي تشكل منها العالم، وهذه مسألة فيها تفصيل كبير، ونقد كثير.
وعلى القرب من باب إشبيلية، الذي يسمّى بباب العطارين أيضًا، عند السور القديم لمدينة قرطبة، أزيح الستار عن تمثال نحته الأموس الإسباني عام ١٩٦٣، وهو تمثال للإمام أبي محمد ابن حزم الأندلسي، فقيه المسلمين في المعقول، والمنقول، والفقه، والأصول، والمؤرخ الأديب، الذي يلقب بـ: عقل الأندلس، أُزيح الستار عن هذا التمثال في احتفالية رسمية حضرها رئيس بلدية قرطبة، وحضرها وفود من جامعات إسبانية، ومن جامعة ليون، وجامعة باريس، والعشرات من الباحثين العرب، والأجانب، وألقيت الكلمات، ونثرت الورود عند هذا التمثال، وعُزف النشيد الوطني الإسباني افتخاراً بهذا الرجل المسلم، وإن كان بعض الكتّاب الإسبان من المتعصبين قالوا باستحالة أن تكون هذه العقلية عربية مسلمة!!
فابن حزم موسوعة علمية متكاملة، فهو مدرسة فقهية مستقلة تختلف في اختياراتها وترجيحاتها عن المدارس الفقهية الأربعة، وهو في الوقت ذاته مؤرخ كبير، وشاعر مطبوع، إضافة إلى أنه كتب في أدق وأرق المشاعر الإنسانية، والحب والعواطف بين الجنسين، في كتابه: “طوق الحمامة“، الذي يعتبر درة الكتب في ذكر هذه المشاعر، ومع ذلك فقد كانت له مواقف سياسية كبيرة، فقد عُرف عنه أن لسانه كان صارماً، ولذلك كان يقال: لسان ابن حزم، وسيف الحجاج، بل حتى الأئمة الكبار كمالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وغيرهم، لم يسلموا من لسانه!
كما أنه ألّف رسالة دقيقة جميلة نحتاجها في عصرنا هذا عصر التوتر، والصراع، والخلافات، سواء في البيت أو في الإدارة أو في الصداقات، اسمها: مداواة النفوس، بيّن فيها كيف يتعامل المرء مع الذين يطعنونه من الخلف، ويجرحونه، ويؤذونه.
ومن ضمن رسائله: كتابه في الرد على ابن النغريلا الذي صار وزيراً في دولة الإسلام في عواصم، وحواضر كبرى، ثم أخذ يطعن في الدين، ويخون المسلمين، ويُمكّن لجماعته، كما هو الحال عندنا في كثير من بلاد الإسلام!
فابن حزم لم يقف عند حد العلم، والمعرفة، والثقافة، والحب، والتاريخ، والتأصيل، وخدمة المسلمين، بل كان له بصمة واضحة مع حكام عصره في بداية تفكك الدولة الإسلامية، وسقوط الخلافة في قرطبة، فلم يقف مكتوف اليدين، ولم يكن سلبيًّا، وإنما وجّه رسائل عنيفة للسلاطين، والأمراء، فوشى به بعض العلماء، والأدباء، والفقهاء، فاُحرقت كتبه، ونُفي إلى مدينة ولبة، وهي منطقة أجداده، وأصبح غريباً هناك؛ لأنه رفض أن يكون مداهناً، أو عميلاً، أو عمامة زور.