بينى وبينكم 2004 الحلقة الخامسة والعشرون موسي الكاظم
(موسى الكاظم)
يقول تبارك وتعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}[الأحزاب/33].
ماذا تعرف عن موسى الكاظم؟
سؤال أبدأ به كلامي، وأنا على يقين تام أن كثيراً منا، بل معظمنا لا يعرف شيئاً عن هذه الشخصية العظيمة من شخصيات آل البيت الكرام، وأحد الرموز الدينية والعلمية.
إنه التقصير في معرفة تراثنا، والتخلي عنه، والانصهار في ثقافات الآخرين، والذوبان فيها!!
السيرة، والشخصيات التاريخية، من أفضل الوسائل لإيصال المعاني، وترسيخ القيم بطريقة غير مباشرة، أو بطريقة مملة، وهي طريقة الأوامر والنواهي، ومن ثم كان لا بد أن نعيش مع الأخيار، وأن نحيي سيرة هؤلاء الأبرار، أو كما قال الإمام الحسن البصري: إذا ذكر الصالحون نزلت الرحمة، قيل: فكيف إذا ذكر الله رب العالمين؟! قال: إذا ذكر الله رب العالمين نزلت الطمأنينة، أو ما قرأتم قوله تعالى: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله أﻻ بذكر الله تطمئن القلوب}[الرعد/28].
فالصالحون يذكروننا بالله، بعبادتهم، ودعائهم، وسلوكياتهم الحسنة، وعطاءاتهم.
سوف نقف قليلاً مع هذه الشخصية العظيمة: الإمام موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الإمام الحسين الشهيد بن الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم أجمعين.
سلسلة ذهبية، يأخذ بعضها بحُجُز بعض في النور، والعلم، والإيمان، والجهاد.
وأول ما نقف معه في هذه الشخصية هو اللقب، فلماذا الكاظم؟ وما معنى الكاظم؟
قيل: لأن هذا الرجل تميز بالتمثل العظيم لقول الله تبارك وتعالى: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس}[آل عمران/134]، وبقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)، تحكم بالذات بطريقة لا نظير لها!
وقد قيل: كان ﻻ يدعو على أحد، حتى الذين عذبوه، ولكن يذكرهم بالله، بل ويحسن إليهم!!
هذا لأنهم كانوا يتمثلون كتاب الله تعالى، وسنة جدّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حذو القذة بالقذة.
كان موسى بن جعفر يدعى العبد الصالح؛ من شدة تألهه، وعبادته، واجتهاده، دخل مرة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد سجدة في أول الليل، ونحن نعلم أن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وهو محل الدعاء، والخشوع، والخضوع، وتحقيق العبودية الكاملة للحق سبحانه وتعالى، وسمع وهو يقول في سجوده: عظم الذنب عندي، فليحسن العفو من عندك، يا أهل التقوى، ويا أهل المغفرة، فجعل يرددها حتى أصبح.
يقول هذا الكلام، ويدعو بهذا الدعاء، مع أنه عابد، زاهد، تقي، فلماذا هذا الخوف؟
لأن هذا هو الصدق الحقيقي، وهذا هو الورع اليقيني.
ونحن مع شدة تقصيرنا، وتفريطنا في جنب الله تعالى، وارتكابنا للذنوب والمعاصي، نرى أنفسنا مستحقين لأعلى الجنان!!
غرور ما بعده غرور، فلا خشوع، ولا ذكر، ولا استغفار، بل كما قيل: استغفارنا يحتاج إلى استغفار!!
هكذا كانت عبادتهم، وخوفهم، وخشيتهم.
فإن تساءلنا عن كرمه وجوده، فهو البحر، فاليد مبذولة بالعطاء، ينفق على طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان ينفق إنفاق من ﻻ يخشى الفقر!
عن محمد بن عبد الله البكري قال: قدمتُ المدينة أطلب بها ديناً، فأعياني، فقلت لو ذهبتُ إلى أبي الحسن موسى بن جعفر فشكوتُ ذلك إليه، فأتيته، وذكرت له قصتي، فدخل، فلم يقم إلا يسيراً حتى خرج إلي، فدفع إلي صرة فيها ثلاث مائة دينار، ثم قام فولى!
وكان يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه، فيبعث إليه بصرة فيها ألف دينار!! وكان يصر الصرر ثلاث مائة دينار، وأربع مائة دينار، ومائتي دينار، ثم يقسمها بالمدينة.
ويروى أن رجلاً كان بالمدينة يؤذيه ويشتم علياً! فقال له بعض حاشيته: دعنا نقتله، فنهاهم عن ذلك أشد النهي، وزجرهم أشد الزجر، وسأل عن الرجل، فذكر له أنه في ناحية من نواحي المدينة، فركب إليه في مزرعته، فوجده فيها، فدخل المزرعة بحماره، فصاح به الرجل: لا تطأ زرعنا، فتوطأه بالحمار حتى وصل إليه، فنزل فجلس عنده وضاحكه، وقال له: كم غرمت في زرعك هذا؟ قال له: مائة دينار، قال: فكم ترجو أن تصيب؟ قال: أنا لا أعلم الغيب، قال: إنما قلت لك: كم ترجو أن يجيئك فيه؟ قال: أرجو أن يجيئني مائتا دينار، قال: فأعطاه ثلاث مائة دينار! وقال: هذا زرعك على حاله، قال: فقام الرجل فقبل رأسه وانصرف، قال: فراح إلى المسجد فوجد الجل جالساً، فلما نظر إليه، قال: الله أعلم حيث يجعل رسالاته. قال: فوثب أصحابه – أي أصحاب الرجل -، فقالوا له: ما قصتك؟ قد كنت تقول خلاف هذا، فخاصمهم وشاتمهم، وجعل يدعو لأبي الحسن موسى كلما دخل وخرج، فقال أبو الحسن موسى لحامته الذين أرادوا قتل الرجل: أيّما كان خير، ما أردتم، أو ما أردتُ أن أصلح أمره بهذا المقدار؟!!
ما أعظم هذه الأخلاق! فلم يكن قصد الإمام أن يدفع شر هذ الرجل فحسب، وإنما أراد أن يخفف من مصيبته على نفسه كذلك، فأي مستوى هذا من العطاء، والرحمة، والشفقة على الناس؟!
وفي كتاب مدارج السالكين لابن قيم الجوزية أن الإمام جعفر الصادق، والد موسى الكاظم، سئل عن الفُتُوّة؟ فقال للسائل: ما تقول أنت؟ فقال: إن أعطيتُ شكرتُ، وإن منعتُ صبرتُ. فقال جعفر: الكلاب عندنا كذلك!! فقال السائل: يا ابن رسول الله؛ فما الفُتُوّة عندكم؟ فقال: إن أعطينا آثرنا، – أي تصدقنا -، وإن منعنا شكرنا!!
وعن عيسى بن محمد بن مغيث القرظي، وكان قد بلغ تسعين سنة، قال: زرعتُ بطيخاً وقثاء وقرعاً، في موضع بالجوانية، على بئر يقال لها أم عظام، فلما قرب الخير، واستوى الزرع، بيّتني الجراد، فأتى على الزرع كله، وكنتُ غرمتُ على الزرع، وفي ثمن جملين، مائة وعشرين ديناراً، فبينما أنا جالس، طلع موسى بن جعفر بن محمد، فسلم، ثم قال: أيش حالك؟ فقلت: أصبحت كالصريم، بيّتني الجراد فأكل زرعي، قال: وكم غرمتَ فيه؟ قلت: مائة وعشرين ديناراً، مع ثمن الجملين، فقال: يا عرفة، زِنْ لأبي المغيث مائة وخمسين ديناراً، نُرْبِحُك ثلاثين ديناراً والجملين، فقلت: يا مبارك، ادخل وادعُ لي فيها، فدخل ودعا.
هكذا كانت سيرتهم.
ومن المواقف التي يذكرها المؤرخون: أن عبد الرحمن بن صالح الأزدي، قال: حج هارون الرشيد، فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم زائراً له، وحوله قريش وأفياء القبائل، ومعه موسى بن جعفر، فلما انتهى إلى القبر، قال هارون: السلام عليك يا رسول الله، يا ابن عم، افتخاراً على من حوله، فدنا موسى بن جعفر، فقال: السلام عليك يا أبه، فتغير وجه هارون، وقال: هذا الفخر يا أبا الحسن حقاً.
لا شك أن السلاطين، والأمراء، ورؤساء الدول يخافون الشخصية التي يؤمن الناس بكفاءتها، وأولويتها لإدارة البلاد، فالناس تسير خلف أصحاب الفضل، والمكانة، ولهم مقومات الحكم من الأمانة، والصدق، والإخلاص، وغيره.
فآل البيت كانت جماهير الناس معهم، أما السلطان فمعه العسكر! وشتان بين الفريقين.
ولذلك كانت الجماهير تحث الإمام موسى الكاظم وتشجعه على أن يحكم، لكنه كان زاهداً في ذلك، لكن الوشاة وأصحاب التزلف للخلفاء، والأمراء، نقلوا عنه أنه يريد الملك والخلافة، فكان جزاؤه السجن! فسجن رحمه الله كثيراً، في أكثر من عهد، ابتداءً من عهد الخليفة محمد المهدي، ومن بعده، فكيف كانت أحواله في السجن؟
عن عمار بن أبان، قال: حُبس أبو الحسن موسى بن جعفر عند السندي بن شاهك، فسألته أخته أن تولى حبسه، – أي تقوم عليه في حبسه -، ففعل، فكانت تلي خدمته، فقالت: كان إذا صلى العتمة حمد الله ومجده ودعاه، فلم يزل كذلك حتى يزول الليل، فإذا زال الليل قام يصلي حتى يصلي الصبح، ثم يذكر قليلاً حتى تطلع الشمس، ثم يقعد إلى ارتفاع الضحى، ثم يتهيأ ويستاك ويأكل، ثم يرقد إلى قبل الزوال، ثم يتوضأ ويصلي حتى يصلي العصر، ثم يذكر في القبلة حتى يصلي المغرب، ثم يصلي ما بين المغرب والعتمة، فكان هذا دأبه، فكانت أخت السندي إذا نظرت إليه، قالت: خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل!!
ومع صبره واحتسابه على هذا البلاء، إلا أنه كان يدافع عن حقه، ويطالب به، فإن لم يتحقق ذلك في الدنيا، فالموعد يوم القيامة.
فقد بعث برسالة إلى هارون الرشيد من الحبس، قال فيها: إنه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلا انقضى عنك معه يوم من الرخاء، حتى نفضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء، يخسر فيه المبطلون.
وهي رسالة لكل ظالم، وطاغية، ومتجبر، إلى يوم القيامة.
وقد جاء في صحيح مسلم، وغيره أن هشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنه مرّ على أناس من الأنباط بالشام، قد أقيموا في الشمس، وصُبّ على رءوسهم الزيت!! فقال: ما شأنهم؟ قالوا: حبسوا في الجزية. وفي رواية: بقي عليهم شيء من الخراج. فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا».
يقول الدكتور غازي القصيبي في تعليقه على هذا الحديث، في كتابه: (ثورة في السنة النبوية):
هذا الحديث يجب أن يدرس لكل كليات الأمن، والتدريب عندنا، ولكل رؤساء الأمن حتى ﻻ تتكرر قضايا الجلد، والسحل، والتغطيس للبشر في العالم العربي!
أختم الحديث عن هذا الإمام العظيم بهذا الحدث العجيب:
عن الربيع قال: لما حَبس المهدي موسى بن جعفر، رأى المهدي في النوم علي بن أبي طالب، وهو يقول: يا محمد {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم}!
قال: الربيع: فأرسل المهدي إليّ ليلاً، فراعني ذلك، فجئته، فإذا هو يقرأ هذه الآية، وكان أحسن الناس صوتاً، وقال: عَلَيّ بموسى بن جعفر، فجئته به، فعانقه وأجلسه إلى جانبه، وقال: يا أبا الحسن، إني رأيتُ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في النوم يقرأ عليّ كذا، فتؤمني – أي أعطني الأمان – أن تخرج عليّ، أو على أحد من ولدي؟ فقال: والله لا فعلتُ ذلك، ولا هو من شأني، فقال: صدقت. يا ربيع، أعطه ثلاثة آلاف دينار، ورده إلى أهله إلى المدينة.
هذه نبذة يسيرة، وجزئية صغيرة من سيرة آل البيت الكرام، نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بكرمهم، وأخلاقهم، وتاريخهم.