بينى وبينكم 2005 الحلقة السابعة عشر التعايش ج 1
التعايش ج1
أخي القارئ الكريم…
أختي القارئة الكريمة…
هل لكم أن تصغوا إليّ قليلاً، وأن ترعنوا أسماعكم؟!!
هل أنت مؤمن، أم ملحد؟
هل أنت مسلم، أم مسيحي؟
وإذا كنت مسلماً: هل سني، أم شيعي؟ إباضي، أم زيدي؟
وإذا كنت مسيحياً: هل أنت كاثوليكي، أم بروتستانتي، أم أرثوذكسي؟
ما هو انتماؤك؟ وما هو توجهك؟
فأياً ما كان هذا الانتماء، وذاك التوجه، فإن حديثي سينصب على موضوع ينسحب على الجميع، فإن شئت أن تسميه التعايش، فهو كذلك، وإن شئت أن تقول التعدد، فلا بأس، وإن قلت: الوئام، فلا حرج، وإن قلت: التنوع، فخير على خير، فلا مشاحة في الاصطلاح، طالما أننا متفقون على المعنى والمضمون.
سأتحدث عن التعصب كمفهوم، والذي يمكن تعريفه باختصار أنه: مرض الكراهية، فهو أدق من ثقافة الكراهية.
فإذا أردنا أن نتكلم عن التعصب نطرح سؤالاً فنقول:
الإنسان عندما يتعصب لا بد قبل ذلك أن يكون هناك شيء يتعصب له، أي أن هناك مقدمة للتعصب، فلماذا نتعصب؟ وما هو الشيئ الذي نتعصب له؟
إنه الانتماء.
بلا شك أن هناك عشرات الانتماءات، ولو أخذت ورقة وقلماً وحاولت حصر تلك الانتماءات، فلن تنتهي، فهناك انتماءات عرقية، وهناك انتماءات جغرافية، وهناك انتماءات حزبية، ولكن أخطر أنواع هذه الانتماءات هي الانتماءات العقائدية، وقد تتعدد دوائر تلك الانتماءات أحياناً وتتداخل، فمثلاً: حزب ماركسي، من أصل سني، من بيئة قبلية!! فهذه عدة انتماءات في شخص واحد.
وأحياناً قد يتحول الإنسان من انتماء إلى انتماء، لأسباب كثيرة.
إذن عند الحديث عن التعصب، لا بد لنا أن نتكلم عن شيء سابق على التعصب، ألا وهو: الانتماء.
علم النفس التربوي يتناول دراسة أشياء كثيرة، ومن هذه الأشياء التي يتناولها: قضية الحاجات، ومن الحاجات ما يسمى: بالحاجة إلى الانتماء.
كذلك فإن السنة الربانية تؤكد لنا أن قضية الانتماء أمر فطري، وحاجة نفسية، كما أن التعددية سنة ربانية أيضاً، وهذا الانتماء يسير على ثلاث محاور: فإما أن يكون من باب التشرذم، وهو غلو في القطيعة، وهو عبارة عن أناس يتمحورون حول أنفسهم، ولا يختلطون بالآخرين، ويرون القداسة، والصفاء، والنقاء لذاتهم، أما الآخر فعلى النقيض من ذلك، هذا التشرذم يقابله شيء آخر وهو الواحدية، وهو غلو القهر، أي من القطيعة والانزواء، إلى غلو القهر الذي ينكر كل الخصوصيات، وهو الذي تعمل به العولمة الثقافية الآن، والتي لا تضرب الهويات فقط، بل تضرب فكرة الهوية أصلاً! ولا تسقط الهويات، بل تلغي قضية شيء اسمه هوية! ولا تضرب العقائد، بل تقول: ليس هناك شيء اسمه عقائد! فهي دعوة للتبعثر، وغياب المفاهيم، وطمس كل شيء، وإذابة الناس فيما يريده الغرب الاقتصادي المسيطر!
نحن نعيش هذه الأيام أوضاعاً غاية في الصعوبة والقسوة، فالأحداث التي تقع يميناً وشمالاً تنعكس سلباً على الناس بشكل عام، كما أن نبرة الانتماءات تتصاعد إعلامياً وسياسياً، ونحن يجب أن نعلم أن المستشرقين الذين سبقوا الاستعمار قد درسوا العالم الإسلامي دراسة متأنية وافية، قبيلة قبيلة، وقرية قرية، ولساناً لساناً، ومنطقة منطقة، وعرقاً عرقاً، وبيئة بيئة، وكثير من هؤلاء المستشرقين كانوا مرتبطين بدوائر الاستخبارات، ودوائر الاستعمار، من أجل تقديم تلك التقارير عنا! ومن ثم يأتون إلى هذه الألغام المغروسة في الأرض، من أجل تفجيرها في الوقت المناسب، كي يقع مجانين المنتمين فريسة سهلة، ولقمة سائغة لها، ففي الشيعة مجانين، وفي السنة مجانين، وفي المسيحيين مجانين، وفي الدروز مجانين، وفي الملاحدة مجانين، وفي العلمانيين مجانين، وفي الليبراليين مجانين، وفي المقابل يوجد في كل هذه التجمعات العقلاء، بل أصحاب الفضل، الذين يمكن التفاهم معهم، والتواصل فيما بينهم، فإلى متى نترك المجانين يفجرون الواقع، ويوقعون الجميع في ورطاتهم؟
نقول لكل أصحاب الانتماءات: حاصروا القلة القليلة التي توتر الأجواء في تصعيد الخصوصية على حساب المجتمع، وعلى حساب المصلحة العامة، وعلى حساب المشتركات الكلية التي تجمعنا جميعاً.
نعم فالقرآن الكريم يقرر سنة التعددية، ويعلمنا أن هذا من الواقعية والطبيعية في الوجود، فيذكر أنواع التعددية والتي منها:
أولاً: تعددية في القوميات والأجناس: فالقرآن يتحدث عنها باعتبارها آية من آيات الاجتماع الإنساني، فيقول الله تبارك وتعالى: {ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين}.
ثانياً: تعددية في الشعوب والقبائل: فالقرآن يدعو لتوظيفها في قضية التعارف، فيقول الله تبارك وتعالى ناصحاً الفرقاء المتمايزين: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}، ليس لتقاتلوا، ولا لتشاحنوا، ولكن لتعارفوا، ثم وضع لك المعيار الخالد: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}.
ثالثاً: تعددية في الشرائع والمناهج: قال الله تبارك وتعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة}، فالمشيئة الإلهية لم تجعلنا أمة واحدة لماذا؟ قال: {ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبؤكم بما كنتم فيه تختلفون}، فالاختلاف من أجل التسابق في الخيرات.
إذن التعددية موجودة، فما الخطر فيها؟
إنه تقديم الخصوصية على حقوق الآخرين، وجعل الانتماء الشخصي باحتكار الحقيقة من جهة، وظلم الآخر، واستباحته من جهة أخرى، أو ممارسة أي أنواع الإقصاء!
دعونا نتكلم عن هذا الداء الذي يسمى: داء الكراهية، وهو التعصب، وقبل الحديث عن التعصب، لا بد أن نعرّف التعصب، وقد اخترت تعريف الدكتور حامد زهران في كتابه علم النفس الاجتماعي؛ لأن حامد زهران يعتبر خبير علم النفس الاجتماعي في العالم العربي، فيقول في تعريف التعصب: (هو اتجاه نفسي جامد مشحون انفعالياً)!
لماذا قال: اتجاه نفسي، ولم يقل: اتجاه عقلي؟
لأن المتعصب ليس عاقلاً، فالمتعصب مشحون انفعالياً كما قال التعريف.
ثم ماذا قال الدكتور أيضاً؟
قال: أو عقيدة، أو حكم مسبق، مع، وفي الأغلب الأعم ضد!
فالمتعصب دائماً يتجه مع أو ضد جماعة ما، أو موضوع ما، أو رأي ما، ولا يقوم على سند منطقي، أو معرفة كافية، أو حقيقة علمية، بل ربما اعتمد على الأساطير، كما نقرأ في أساطير اليهود والصهيونية في قضية بناء المستقبل، والنظر إلى الآخر.
ثم يضع لنا الدكتور حامد زهران عبارة جميلة، فيقول في التعصب: يجعل الإنسان يرى ما يحب أن يراه فقط، ولا يرى ما لا يحب أن يراه؛ لأن الإنسان المتعصب ليست لديه قابلية استماع الرأي الآخر، أو فهم الآخر؛ لأنه قد شكّل تصوراً عن هذه المجموعة، أو القبيلة، أو المذهب، أو القومية، أو الدولة، أو العرق، من خلال صورة مظلمة، باهتة، مشوهة ولا يريد تعديلها!
إلا أنني أختلف مع أستاذنا الكبير الدكتور حامد زهران حين يحصر تعريف التعصب على أنه اتجاه مشحون انفعالياً ضد الآخر، ويبرر ذلك بأنه لو كان مع، فإننا سنصبح كلنا متعصبين؛ لأننا جميعاً نميل مع انتماءاتنا، ولذلك فإن التعصب ضد وليس مع، هذه وجهة نظره، ونحن نحترمها، لكننا نخالفه فيها؛ لأن التعصب قد يكون مع! ألا نسمع المثل القائل: القرد في عين أمه غزال؟! فالإنسان إذا أحب شيئاً حباً كبيراً، فإنه قد يبالغ في هذه المحبة، وتجعله يعمى عن سيئات ذلك المحبوب مهما كانت ظاهرة، ولذا قيل: الحب يعمي ويصم!!
ولذلك فمن العبارات التي مرت معي أثناء قراءتي في كتاب درأ تعارض النقل والعقل لشيخ الإسلام قوله: وابن رشد يتعصب للفلاسفة!! لاحظ يتعصب لهم، وليس ضدهم؛ لأن ابن رشد مال إلى أرسطو والفلاسفة المشائين.
وهناك أناس يتعصبون مع أحزابهم، ومع قبائلهم، ومع مذاهبهم، ومع أديانهم.
نأتي الآن إلى الخطورة في قضية التعصب ضد:
عندما نتناول التعصب ضد، فإننا نتكلم على أنه اتجاه نفسي جامد مشحون انفعالياً ضد جماعة، أو موضوع، أو تيار، الخ…
ولعل الأمثلة والوقائع تشخص المعنى، فمثلاً:
يحدثني صاحب مكتبة ابن كثير في الكويت، وهو أخ مصري، ومن الجيل الذي يجمع بين أكثر من ثقافة، يقول: في أحد الأيام دخل شاب صغير السن إلى المكتبة ليشتري بعض الكتب، وأثناء ذلك دخل رجل كبير في السن يبحث عن كتاب يبدو أنه لابنته التي في الجامعة، فسألني هذا الرجل: هل عندك كتاب إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي؟ فما كاد الرجل ينتهي من سؤاله حتى قفز الشاب وقال: وماذا تريد من هذا الكتاب؟ هذا كتاب كله ضلال!! ومؤلفه الغزالي ضال مضل!! لا تدخل هذا الكتاب إلى بيتك! فهذا الكتاب فيه، وفيه، وبدأ الطلقات النارية في حق الكتاب وصاحبه! يقول الأخ المصري: فصعقتُ من هذا الجواب، ومن تلك الجرأة، وقلت له: ماذا تقول؟! فقال: نعم، أبو حامد الغزالي ضال مضل، وكتابه مليء بالضلال! فقلت له: ومن الذي قال لك هذا الكلام الفارغ؟ فقال: مشايخنا!! فقلت له: ومن هم مشايخك؟! فقال: مشايخنا! فقال له الأخ المصري وبلهجة المصرية الجميلة: اسمع يا ابني: من أهمية كتاب أبي حامد الغزالي أن الناس كانت بتقول زمان: بيع اللحية واشترِ الإحيا! وكانت بتقول: من لم يقرأ الإحياء، فليس من الأحياء! ولأهمية هذا الكتاب قام الإمام ابن قدامة المقدسي الحنبلي باختصاره في كتاب: منهاج القاصدين، ولأهمية هذا الكتاب قام الإمام الزبيدي بشرحه في عشر مجلدات، وسماه: إتحاف السادة المتقين في شرح إحياء علوم الدين، ولأهمية هذا الكتاب قام الإمام العراقي بتخريج أحاديثه، والحكم عليها صحة وضعفاً وغيره، ولأهمية هذا الكتاب قام الإمام السلفي جمال الدين القاسمي الدمشقي باختصاره وسماه: تهذيب إحياء علوم الدين، ولأهمية هذا الكتاب قام الدكتور القرضاوي وألّف كتاباً سماه: الإحياء ما له وما عليه، أو الغزالي ما له وما عليه. وإذا بذلك الشاب المسكين ما إن سمع باسم الشيخ القرضاوي حتى قال: القرضاوي قرضه الله، ضال مضل!! عندها بلغ السيل الزبى كما يقال عند ذلك الأخ المصري، فقال له: يا فلان، هل تعرف سنن الفطرة؟!! فقال: نعم أعرفها. فقال له: إذا أراد الشخص أن يقص أظافره فبأي يد يبدأ؟ وبأي أصابعه يبدأ؟ ولماذا؟ فقال الشاب: والله أنا لم أقرأ هذه التفاصيل!! فقال له الأخ المصري: فإذا أراد الشخص أن يستنجي، فبأي يد يبدأ؟ ولماذا؟ فقال الشاب: والله لا أعرف! فقال له وبلهجته المصرية: اسمع يا ابني، لما تعرف تقص أظافرك، وتغسل نفسك تعالي اتكلم على العلماء! إنما لا تعرف تقص أظافرك، ولا تغسل نفسك، فلا تتكلم عن العلماء! سمعت يا ابني، يبقى روح اتعلم واقرأ الإحياء عشان تعرف ازاي تقص أظافرك، وتغسل وساختك، وبعدين تعال اتكلم عن العلماء.
وأنا أقول تعقيباً على هذه القصة:
أولاً: لا شك أن هذا الشاب طيب وحبيب، ونحن نفرح عندما يذهب أمثاله للمكتبة، ويشتري الكتب.
ثانياً: نلاحظ كيف كانت عقلية هذا الشاب حيث أنه مشحون انفعالياً، فهي عقلية الإلغاء، وعقلية النظر للسيئات فقط، تلك العقلية التي قال عنها الشيخ سلمان العودة في مقال له بعنوان: بحاثة الأخطاء: عندما يبحث الإنسان عن الأخطاء، ويكون ذلك ديدنه وعادته، فإن يكون كالمغناطيس الذي إذا ألقي في التراب فإنه لا يلتقط إلا الحديد، والمعادن التافهة، ولا يلتقط الذهب، أو المعدن النفيس!
ثالثاً: نلاحظ بماذا احتج هذا الشاب في حكمه على كتاب الإحياء ومؤلفه الإمام الغزالي، حيث قال: مشايخنا!! ومعنى ذلك أن هذا الشاب شحن انفعالياً ضد الإمام الغزالي، دون أي فهم، أو دراية لما يقول، ولو أنه قرأ الكتاب، وقال: لي عليه ملاحظات، وذكر ملاحظاته، وتوجيهاته، واستدراكاته، لهان الخطب، ولقبل قوله؛ لأن العمل البشري كله قابل للتقييم، ولذلك وجدنا شيخ الإسلام ابن تيمية يقول في كتابه: مجموع الفتاوى، الجزء السادس، صفحة 55، عن كتاب إحياء علوم الدين: وغالبه جيد، ويقول في الجزء العاشر، صفحة 551: وفيه فوائد كثيرة، ويقول في الروايات الصوفية: ما يقبل منها أكثر مما يرد. ومع ذلك ذكر أن فيه ما يرد، وفيه المتنازع فيه، وفيه أخطاء انتقدت عليه. فالمسألة تحتاج إلى عقل ناقد، وورع، ودين.