بينى وبينكم 2005 الحلقة الحادية والعشرون التعايش ج 5
التعايش ج5
وها هنا كلمة لا بد منها إلى كل مثقف، فأقول:
يجب أن يكون للمثقف مهمة تساعد في تخفيف التوتر، وتصحيح المفاهيم، ودعوة الناس إلى التعايش، والتآلف، والمحبة، وأن يذكر الناس بأن ميزان العدالة يجب أن يكون مستقلاً عن الفئوية، فالعدالة فوق الانتماء، والعدالة هي المظلة التي تحوي الجميع.
نعم، نحن نريد من المثقف ألا يكرس الظلم الاجتماعي، وألا يشجع على مزيد من الفتن؛ بل يكون صمام أمان في مجتمعه، وبيئته، يمتص الاحتقان، ويناصر السلام والوئام.
وخلال زيارتنا للجنوب اللبناني، التقينا بمفتي الجنوب وهو الشيخ: عبد الحسين عبد الله، وحاورناه عن دور المثقف في الفتن، ودرئها، ودفنها.
فكان مما قاله:
من أين جاءتنا هذه العصبية، حتى يقتل المسلم أخاه المسلم؟ من أين جاءتنا العصبية حتى يذبح الأطفال بالجزائر؟ من أين جاءتنا العصبية حتى يذبح الأطفال في العراق؟ من أين جاءتنا العصبية حتى تتقاتل الناس مع بعضها البعض في لبنان؟ يجب أن نفتش عن العدو الأكبر الذي يريد الشر للمجتمعات الإنسانية، ويريد القضاء على تعاليم الأنبياء؛ لتتحكم الجاهلية التي يخطط لها أصحاب المصالح الاقتصادية في العالم، لتبتعد الناس عن ثقافتها، وعن علمائها، وعن أخلاقها، وعن تاريخها، لذلك يجب على مثقفينا، والمتعلمين من هذه الأمة، وحملة الشهادات الذين يُنظر إليهم كحالة إنقاذية للمجتمعات، وللثقافة، وللأخلاق، وللقيم، أن يصرحوا بصوت الحق، وبصوت العدالة، وأن يقفوا في وجه هذا الدمار، وأن يقفوا في وجه هذه المذابح.
فقلتُ:
ولكن هل معنى أن الرجل حامل شهادة، وصاحب قلم، ومنصب ثقافي، أن يكون أهلاً لكي يعالج هذه المشاكل؟
فقال:
ليس ذلك كذلك على الإطلاق، بل إنه أحياناً يكون سبباً في المشكلة، لماذا؟
لأننا نحن في مجتمعاتنا نتاج مناخ عام ثقافي، فنحن كما قالت الكاتبة الكبيرة بنت الشاطئ: ليس عندنا مثقفون، وإنما عندنا متعلمون!! لماذا؟
لأن المثقف يتميز بأنه واعي، أما المتعلم فقد يكون من أصحاب التفكير العميق، ونحن نريد من أصحاب التفكير المستنير تفكيراً عميقاً، فقد يكون عالماً في الكمبيوتر، وفي الرياضيات، وفي الفيزياء، وفي علم الاجتماع، لكنه غير مستنير، ومنغلق على تخصصه، وإذا دخل في شبكة العلاقات الإنسانية تجده متخلفاً؛ لأنه يرجع إلى ما تربى عليه من عصبيات، وفئويات، وأنانيات، ويصبح صغيراً جداً.
فمن المسؤول عن هذه الأمور؟
هناك العدو الأكبر، وهذا يجب أن نبحث عنه، وهناك أعداء صغار، لكن هؤلاء موظفون عند العدو الأكبر، مثل الموظفين الفكريين، مثقفي المارينز، كما سمّاهم بذلك فهمي هويدي، فهو مثقف عربي، ومن أسرة عربية، لكنه رجل يكتب إما إملاءات، وإما إشارات، وإما تعاوناً، وإما ولاء قلبياً!!
نحن نريد أن نبحث عن الخطر الأكبر، وعن أصحاب المصالح؛ لأن منطق هؤلاء أن المصالح فوق المباديء، لماذا؟
لأن المصالح يمكن حسابها، ويمكن برمجتها، ويمكن توظيفها، أما المباديء فمن الصعب فعل ذلك معها، فأصحاب المصالح ينظرون للأرض على أنها عقارات، وللدول على أنها فنادق، وللإنسان على أنه كائن حي يمكن توظيفه، وعلى الكون كله على أنه مادة استعمالية يمكن توظيفها! فيجب عليك أيها المثقف أن تنتبه، وكن مثقفاً بحق، وبواقع، ﻻ باسم ودعاية.
هل يمكن أن نفصل بين ما يحدث في عالمنا العربي والإسلامي من تعصب، وانتشار مرض الكراهية، وثقافة التحيز، والعنف، عن عامل الغرب؟ بمعنى أن الغرب ليس له يد في ذلك؟!
هل الغرب نظيف وحريص علينا؟!
هل الغرب عبارة عن لجنة خيرية تقدم يد العون والمساعدة للمحتاج؟!
هذا لا يقوله حتى أعداء الشرق، فالحياة قائمة على صراع، وتفاعل، وتواصل، وأصحاب مصالح يريدون تحقيق مصالحهم، ويزيحون كل الحواجز للوصول لغايتهم، لكن هذا الصراع الذي انتقل من العالم الحر كمصطلح قديم، إلى المجتمع الدولي كمصطلح جديد سياسي، ينتشر، ثم بعد ذلك جاءت مصطلحات العولمة، هذا الذي يجب أن نلقي عليه الضوء؛ لأنه تطور إلى قضية إنسانية الإنسان.
نحن الآن أمام مواجهة عولمة الإنسانية، بأن يكون هناك إنسانية في المجتمعات، لا أن يكون هناك فرض وإلغاء للآخر، فالعلاقات مع بعضنا البعض علاقات تمنع منعاً باتاً حتى أيام الاحتلال الإسرائيلي من أن يتعرض مسلم لمسيحي، أو مسيحي لمسلم! بل حتى بعد التحرير كان هناك تحريم لأن يتعرض مسلم لمسيحي، أو العكس، فنحن نتعامل كمواطنين، ولكل إنسان حالته الثقافية، وهذه الحالة الثقافية لا تمنع أن نتعايش بسلام وإخوة، دون إلغاء للآخرين، فلكل إنسان أن يأخذ الحق، ويعطي الحق للآخر.
أقول:
نعم نحن نقر ونؤكد أن التنوع موجود، وأن التعددية سنة ربانية، ولكن عند طرح قضية عولمة الإنسانية، هذه العولمة التي يسيطر عليها مبدأ المصالح على حساب الهويات، والخصوصيات، وحقوق الناس تحت نظرية الحقوق الجديدة، فهنا يجب أن نقول: لا تخدعنكم الألفاظ، والكلمات، فالذي يدعو لعولمة الإنسانية، هو الذي يشعل فتيلاً هنا، وفتيلاً هناك، ويلغم الأراضي من أجل شركات بيع السلاح، واستثمار الأرض. هذا أولاً.
ثانياً: الرجل يرى أن التحديث يعني: التغريب، فمن أراد أن يحدث فليغرب ولا يفصل بينها.
ثم يقسم المجتمعات إلى ثلاثة مجتمعات:
مجتمعات تريد التحديث، ولكنها تقبل التغريب، ولا تمانعه، كاليابان.
مجتمعات تريد التحديث، ولا تريد التغريب، مثل: تركيا، وروسيا، والمجتمعات التي سمّاها الكونفوشيوسية الإسلامية. فهؤلاء قال: يجب أن نستهدفهم؛ لأنهم سوف ينافسوننا اقتصادياً، وهم خطر علينا سياسياً، وهذه نظرة عدائية متحيزة غربية من هؤلاء المتعصبين.
إذن نحن عندما نتكلم عن التطرف نقول: نعم هناك تطرف عربي، وتطرف في العالم الإسلامي، وكذلك يجب أن لا نغفل، وإن كنا أعطيناه مساحة قليلة، وهو التطرف الغربي، الذي له علاقة بهذا الشيء.
ولكن…كيف نتعامل مع مفهوم الإنسانية والعالمية؟
نقول: في الأصل أن كل بلد يريد أن يحقق قضية المواطن الصالح، وهذا هدف أي بلد، ثم بعد ذلك تختلف الأنظار: من هو المواطن الصالح؟
هل هو حامل السلاح، المتأهب للدفاع عن البلد؟
أم ذاك الذي يطبق قوانين الدولة، ويذوب فيها، ولا يعترض عليها؟
إلا إن الإسلام لا يكتفي بالمواطن الصالح؛ لأنك قد تكون مواطناً صالحاً في بلدك، فإذا خرجت خارج بلدك فإنك تهلك الحرث، والنسل، وتستعمر الناس، وتذلهم، وتبيدهم إبادة كاملة! بل الإسلام يدعو إلى الإنسان الصالح، {إن هو إﻻ ذكر للعالمين}، ومن ثم تكون صالحاً في بلدك، وصالحاً خارج بلدك، صالحاً مع الذي على عقيدتك، وصالحاً مع الذي يخالفك في العقيدة، والمذهب، لماذا؟
لأن كل إنسان صالح سوف يكون مواطناً صالحاً، ولكن ليس كل مواطن صالح سوف يكون إنساناً صالحاً، ولقد رأينا الإنجليز مثلاً في بلادهم منظمين، ومهذبين، ورقيقين، يقومون بواجباتهم، فإذا انتقلوا إلى الاستعمار الخارجي تغيروا، وتبدلوا، وتعاملوا بوحشية يشهد لها التاريخ.
من المصطلحات التي أعجبتني: (مصطلح: المغفل المفيد).
نحن نعرف: أن الفتن تنبع من أناس متشنجين ومتعصبين أحياناً، وتنبع من مصالح أناس معينين، وتنبع من اختراقات خارجية تريد بنا الشر؛ لتحقيق مآرب من خلال متنفذين، أو غير متنفذين في المناطق المستهدفة، لكن المشكلة عندما يقع الطيبون في الفتنة!
نعم هو طيب، لكنه مغفل، طيب لكنه فاقد للوعي، فمن خلاله تمرر الخطط، وعلى ظهره يتقدم العدو، وهذا من أعظم مصائبنا.
وهذا كلام أحد أعيان السنة في الجنوب اللبناني، هو رجل بسيط، لكنه واعي، وحريص على مجتمعه، وأمته ألا تقع في براثن الفتن، وتمزقات الطائفية، والمذهبية، وبقية الخلافات المتناحرة، حيث يقول:
السُّنّة هنا في أهل بلدي، وفي لبنان ككل، يوجد دروز، ويوجد مسيحية، ويوجد من جميع الأديان، وما من يوم من الأيام أن آذينا أو أوذينا، بل نأكل من أكلهم، ويأكلوا من أكلنا، وننام عندهم، ونشم الهواء نحن وإياهم، بناتنا وبناتهم، وشبابنا وشبابهم، نحن أمة متعايشة، لا أحد ضد الآخر، فأنا سني ومتعايش مع الكل، ولا فرق عندنا بين شيعي، وسني، ودرزي، إﻻ هذا العدو الغاشم اللئيم الذي رابض على حدودنا وأراضينا.
قلتُ:
قد تجد إنساناً مثقفاً جداً في عالمنا العربي، إلا أنه لا يفقه هذا الفقه!! بل إنه يعيش في دائرته الشخصية الأنانية؛ لأنه إنسان مصلحي، أو لأنه إنسان يريد أن يحقق انتقامات شخصية على حساب المجتمع، وعلى حساب أهداف كثيرة.
وفي الختام أقول:
نحن في ظل هذا التعايش الذي ندعو له، ودفن كل ألوان التوتر الطائفي، يجب أن نضع بعض المعايير:
أولاً: معيار ننطلق منه وهو المبدأ الذي أدين به من أن الإسلام يعلمنا بأن هناك فرقاً بين الولاء والبراء، وبين المعاملة بالحسنى، لأن كثيراً من الناس يخلطون في ذلك، فأنا لا أوالي فكرك، بل أختلف مع عقيدتك، وربما أنظر إلى دينك على أنه خرافي، وأساطير، لكنني أحترم إنسانيتك، وأقدرك، وأعطيك حقوقك…
وهذا ما جاء به كتاب ربنا جل وعلا حيث يقول: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}، ليس الإقساط، والعدل مع المخالف فحسب، وإنما البرّ معه، وكلمة البرّ ما جاء إلا للوالدين، كيف تكون معاملة الوالدين، وكيف يكون كسر الجناح، والخفض لهما، ثم تأتي ها هنا مع هذا مع الإنسان المختلف معك في دينك؛ ليدلك ذلك على مدى عظمة هذا الدين، واحترامه لإنسانية الإنسان.
مشكلتنا مع الحربي، مع العدو، مع الإنسان الذي جاء لينتهك العرض، ويأخذ الأرض، ويسلب المال، فهذا أيًّا كان، حتى لو كان مسلماً، من أهل دينك، إذا كان مجرماً، فلا بد من الأخذ على يده، وتوقيفه عند حده.
ثانياً: انظر إلى القرآن كيف وضع حدوداً في الانتماء، ومفهوم العدالة، فالعدالة فوق الانتماء، يقول الأديب مصطفى صادق الرافعي في حوار بين جنرال إنجليزي مع باشا مصري في قضية التعصب، يقول الباشا المصري: (إن الإسلام في نفسه عدو شديد على التعصب الذي تفهمونه، فهو يقول لأهله في كتابه العزيز: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين}.
يعلق الرافعي فيقول: فإذا كان العدل في هذا الدين عدلاً صارماً، وحقاً محضاً، لا يميز بشيء ألبته، لا ذات النفس التي فيها اشتهاء الدم، ولا أصلها من الأبوين اللذين جاءت منهما وراثة الدم، ولا أطرافها من الأقربين الذين يلتفون حول نسب الدم، إذا كان هذا، فأين في هذا العدل محل الظلم؟ انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
نحن ندعو الجميع من العقلاء، والحكماء، وأصحاب الرموز الدينية والثقافية أن يضيقوا دائرة التعصب، وأن ينزعوا فتيل مرض وثقافة الكراهية، وأن يقدموا المشترك على الفرعي، فالانتماءات لا تنمحي، والتحيزات لا تختفي، فنحن بشر؛ لكنها دعوة إلى مزيد من تحقيق إنسانيتنا، في تحقيق عدالتنا مع الآخر، وفي تحقيق الإنصاف مع الآخر، وفي تفويت الفرصة كهدف مشترك ضد العدو المتربص، الذي يراهن على اختلافاتنا، لكي يفجرها، ثم يقع البعض في البعض، ثم تنتهي الأمانة، وينتهي الأمن، وينتهي كل شيء، والخاسر بعد ذلك نحن جميعاً…