بيني وبينكم 2007 الحلقة الحادية عشرة الملابس ج 1
الملابس ج 1
عندما أراد المناطقة، والفلاسفة، والمفكرون، أن يعرفوا الإنسان، من هو؟
قالوا: هو حيوان ناطق! أي: حيوان فيه حياة.
وقال بعضهم: حيوان اجتماعي.
وقال آخرون: حيوان بثياب!!
وتشبث الذين قالوا إنه حيوان بلباس بأنه يتميز عن بقية الكائنات في اختيار نوع اللباس الذي يرتديه، فيتميز عن بقية الكائنات العارية عرياً فطرياً غريزياً طبيعياً.
أي أن الإنسان إذا تعرى، وأطلق لنفسه هذه الحرية المطلقة، فإنه ينحط إلى رتبة الحيوان، كما قال بعض علماء اﻻجتماع.
ولذلك يمكن القول: إن العلاقة بين العري والتخلف، والبدائية هي علاقة طردية، فمتى وُجد العري، وجدت البدائية في التفكير، والتعامل، والعادات، والأوضاع، وغير ذلك.
وعلاقة اللباس بالإنسان منذ أن عصى آدم ربه، فكشفت سوءته، علاقة وثيقة، ﻻ تنفك أبداً، فاللباس ليس مسألة سهلة، كلاّ …!!!
بل اللباس:
له علاقة بالهوية…
وله علاقة بالوظيفة….
وله علاقة بالمستوى الثقافي….
وله علاقة بالمناسبات، والأفراح، والأتراح…
فقد تشاهد شخصاً فتميزه ديناً، أو مذهباً، من جهة لباسه، فتقول: هذا قسيس، أو هذا يهودي، أو هذا مسلم، أو هذا بوذي، أو هندوسي، أو غير ذلك.
وقد تشاهد شخصاً فتميز عمله، ووظيفته، من خلال زيّه، ولباسه، فهذا محامي، لارتدائه روب المحامي، وذلك طبيب، وثالث شرطي، ورابع مهندس، وهكذا…
بل حتى رجال الأمن يختلف زيّهم، ولباسهم بحسب تخصصاتهم، فلباس الشرطي، يختلف عن لباس الحرس الوطني، ولرجال الإطفاء لباسهم المميز، وكذلك الضفادع البحرية، وقوات المغاوير، والكوماندوز.
فكل شيء له لباسه الخاص، فاللباس أصبح له دﻻلة.
وكذلك الحال في المناسبات، فاللباس الذي نلبسه في الأحزان، يختلف عن اللباس الذي نلبسه في الأفراح.
فلو أن امرأة توفي زوجها، أو مات ولدها، أو حصلت عندها كارثة أو مأساة، فجاءت فلانة من النساء اللاتي تتدين بالعلمنة، والليبرالية، وتعتبر قضية القيم مسألة نسبية، تختلف من شخص لآخر، والأصل إطلاق الحريات الشخصية، إلى غير ذلك من الكلام الذي لا ينتهي، اقول: لو جاءت هذه الشخصية لتقديم واجب العزاء ولكنها نظراً لما تحمله من أفكار تحررية، قالت: سأذهب للعزاء بملابس البحر!! أو بثياب حفلات الأعراس!! فهل يقبل ذلك منها، ويحمد لها فعلها في إتيانها لتقديم واجب العزاء؟!!
لا شك أن السيئة التي اقترفتها بارتدائها تلك الملابس الفاضحة، أو غير اللائقة على الأقل في هذا الوقت، والمكان، إن ذلك يلغي لها تلك الحسنة بحضورها للعزاء، وقيامها بها الواجب، بل إن ذلك سيُعد من قبيل الاستهزاء بأهل الميت، وعدم احترام مشاعرهم، ومصابهم.
وهذا الأمر يتفق عليه سائر العقلاء، من جميع الأديان، والمذاهب، والأفكار.
بل لن أكون مبالغاً أبداً لو قلت: إن ذلك لو وقع في دولة الحريات العامة، وأم العلمانيات، وهي فرنسا، لما قبل ذلك منها، ولعُدّ ذلك ضرباً من الاستجهال، والسخرية بأصحاب المصيبة!!
ولذلك فما من مجتمع إﻻ وله حد أدنى من القيم، والأعراف، وما اتُفق عليه فيما بينهم، ثم بعد ذلك يختلف الأمر من مجتمع إلى مجتمع، ومن ثقافة إلى ثقافة، ولكن تبقى هناك قواسم مشتركة بين الجميع.
ولذلك نقول: إن تعريف الثقافة، والتثقيف هو: إحداث وعي ينعكس بصالح إيجابي على المجموع العام.
هذا أقصر، وأخصر تعريف للثقافة، وأراه أنسبها.
فحديثنا عن الملابس في عصر ارتباط الإنسان بها اقتصادياً، وفكرياً، وفنياً، وذوقياً، وتحقيقاً للذات، وتسليعاً للجسد، وتسويقاً مادياً.
نحن نريد تثقيفاً عقلياً شرعياً بأن الذي يحدث في مجتمعاتنا نوع من أنواع السخرية بالإنسان، والهزء بالنساء، والضحك على أجيال عريضة، عبر الدعاية والإعلان، في سبيل بيع هذا اللباس أو تلك القطعة.!!
ما الذي حصل في هذا العصر؟
نحن نعيش في عصر ذابت فيه أصول كثيرة، وذابت فيه قواعد ﻻ أقول دينية، بل أيضاً قواعد إنسانية، وتجرأ الناس على الشرع، والعادات، والقيم، ووُجد من يدفعهم إلى هذه الجرأة، ويشد على أيديهم، حتى أصبح اﻻبتذال في اللباس، والتعري الفاضح ثقافة تحتَرم، ودليل رقي، وتحضر للمجتمع!! فنحن خرجنا من دائرة اللبس المحتشم، ل أقول: الشرعي، إلى اﻻبتذال !!
هنا يجب أن نتكلم بصراحة عن هذا الموضوع، ونطرقه من زوايا كثيرة، لنضع النقاط على الحروف، ولنعرف موضع الداء، لنستطيع وصف الدواء.
كلنا قرأ الخبرين العجيبين، اللذين نشرا في الصحافة العالمية، وأصبحا حديث الناس في كل مكان….
الخبر الأول: رئيس البنك الدولي يفاجئ المشاهدين، والمتابعين، بارتدائه جوارب ممزقة!! وقد التقطتها الكاميرات عندما خلع حذائه فجأة، ودخل في مكان عام!!
أنت رئيس بنك دولي!!! كيف يحدث ذلك منك؟! هل هو زهد، وتقشف؟!!
لماذا كل تلك الضجة؟!
لأن اللباس له علاقة بشخصية الإنسان، وهويته، ومكانته، فصار حديث الناس، والصحافة الكبرى.
الخبر الثاني: من منا ﻻ يعرف منا هيلاري كلينتون، زوجة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون؟!!
في شهر 7-2007 نشرت الصحافة الأمريكية خبراً أحدث ضجة في الشارع الأمريكي، لماذا؟
بسبب قميص هيلاري كلينتون!! ألهذه الدرجة يهتم الناس بقميصها؟!
ليس ذلك هو المقصود! وإنما لنعلم مدى علاقة اللباس بالقيمة الأخلاقية، ومستوى الشخص، وموقعه السياسي، أو الاجتماعي، وهويته الثقافية، بل حتى بذوقه!
هيلاري كلينتون مرشحة الديموقراطيين، دخلت البرلمان وهي ترتدي قميصاً زهرياً، وتحته أسود حالك!! كيف سيكون الوضع؟!!
نعم؛ حدثت ضجة كبيرة، وقالوا: من المعيب أن ترتدي ذلك اللباس، بتلك الهيئة، وهي بهذا السن، وهذا الموقع! هذا أمر مزعج.
وهذا يؤكد ما قاله العقاد الذي يسمى عند البعض عدو المرأة، وهو الكلام الذي أكرره كثيراً: أن في المرأة غريزة الاستعراض الزائد!!
بمعنى أن المرأة حيوان استعراضي، وأنا أعتذر عن هذا التوصيف، ولكنه كذلك من وجهة نظر رأي العقاد!! لكننا لا نتفق معه في ذلك، ونقول: إن القيمة تحكم، وإذا كان هذا كلاماً مبالغاً فيه، فإن تحقيق الذات من خلال الثوب الجميل النظيف، شيء مطلوب، ولكن ثمة فرق بين الأناقة، والطهارة، والنظافة، وبين الابتذال، والتفسخ.
من الحكم إذن في مثل هذه الإشكالات؟
ﻻ بد مرجعية تتعالى على الواقع، حتى تكون قيمة…
وهذه المرجعية قد تكون ديناً …
وقد تكون أعرافاً!!
وقد تكون الموضة!!
هنا يقع الخلاف…
الدكتور عبد الوهاب المسيري -في رأيي- خير من قرأ العلمانية، فقد قرأتُ مائة كتاب في العلمانية أو تزيد، إلا أنني لم أرَ تحليلاً، واستيعاباً، للفلسفة، والاقتصاد، والأخلاق، بدائرة متسعة للعلمانية، مثل عبد الوهاب المسيري، فقد تكلم في كتابه: (العلمانية الجزئية، والعلمانية الشاملة)، عن دور اللباس في العلمنة، والتسلسل في الانحدار بها، إلى أن وصلت إلى ما يسمى: اليوني سيكي، أي: الملابس التي يشترك فيها الرجال والنساء، والتي يلبسها الشرقيون تقليداً أعمى لما يصنعه الغرب!! ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لعن الله الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل).
ومن الأمور اللافتة للنظر: ما ذكره أن خمسة من مصممي الأزياء ماتوا في سنة واحدة بمرض الإيدز!! واستطاعت الشركات التكتّم على هذا الخبر؛ كي ﻻ تضرب اقتصادها.
والمقصود من ذلك أن من يدعي أنه لا تأثير للباس على نفسه، ومشاعره، وأحاسيسه، فهذا كذب صريح، مخالف للفطر السوية.
ودعونا نستمع إلى ما يقوله المستشرق الغربي مراد هوفمن، سفير ألمانيا في المغرب العربي لسنين طويلة، حيث ألّف كتاباً بعنوان: (خواء الذات والأدمغة المستعمرة)، وحضر مؤتمراً في القاهرة، وناقش المثقفين العرب، ثم قال لهم بمنطق اليقين، والحق المبين: (دعونا ﻻ نرفض الحضارة الغربية من الألف إلى الياء! ولكن أستحلفكم بالله، دعونا نأخذ منها خير ما فيها)!
نعم، نحن نفتح النوافذ، ولكن للعطور، وللنسيم العليل، وليس للغبار والأتربة! نستفيد من كل الحضارات، ولكن نأخذ منها أفضل ما فيها، ولكن ما الحيلة إذا كانت الأدمغة مستعمرة؟!
في مقال نشر في الصحافة تحت عنوان: (مايوهات الشارقة، وقمصان أبها)!!! مفاده أن حاكم الشارقة، وأمير أبها، اتخذوا قرارين عام1998، كل قرار يتصل باللباس، وكل قرار يعود إيجابياً على المجتمع. لماذا؟
لأن الناس أصبحت فوضى، ما الذي جاء في هذين القرارين؟
أما قرار الدكتور الشيخ سلطان القاسمي، أمير إمارة الشارقة فينص على منع الذهاب إلى الشواطئ العامة بملابس عارية، ولا بد من الاحتشام، واحترام قوانين الدولة، وكل من يخالف ذلك، يعرّض نفسه للمساءلة القانونية، والعقوبة المقررة، التي نص عليها القانون.
لا شك أنه قرار شجاع، وجريء، لأن الرجل يريد أن يخدم بلده، ويخدم مجتمعه.
ولكن ما الذي دعاه لاتخاذ هذا القرار؟!
السبب أن البعض عندما رأى البلد سياحياً، ويشجع على ذلك، ظن الأمر مفتوحاً على مصراعيه ليفعل ما يحلو له، سواء كانت تلك الأفعال تناسب المجتمع الذي يعيش فيه، أو لا تناسبه، فأصبحت الشواطئ مرتعاً وخيماً للأجساد العارية، واللحم الرخيص!! ألهذه الدرجة أصبحنا لا نستطيع أن نستأثر في بلداننا، بل نكون ذيولاً في المفاهيم، ومقهورين ومضيق علينا، حتى في بلداننا، باسم العولمة، وباسم الحرية؟! ولأن الشاطئ ملك البلد، ومتعة للناس، ومتنزه، ومتنفس للعائلات، كان لا بد من وضع حدّ لهذه الأفعال المشينة، التي تخدش الحياء، ولا تعكس صورة البلد الحقيقية.
فشكر له الناس هذا الصنيع ….
وأما القرار الآخر، الذي أصدره الأمير خالد الفيصل، أمير أبها في ذلك الوقت، فينص على منع مراجعة الدوائر الحكومية، والمؤسسات الرسمية، وأماكن العمل إلا بالزي الرسمي الوطني!!
ولكن أليس ذلك تحكماً في خصوصيات الناس؟!
نقول: كلاّ، بل هذا هو الصواب! لأن بعض الناس بلغ به الاستهتار، وعدم المبالاة أن يذهب إلى عمله، أو يراجع دائرة حكومية، أو وزارة بلباس النوم!! نعم بلباس النوم، أو الملابس الرياضية، أو الشورت!! رجل في الأربعين أو أكثر، ولا يخجل من تلك الملابس التي تبدي ركبتيه، بل فخذيه، أمام العامة، رجالاً، ونساءً! ولستُ مبالغاً في ذلك، فقد رأينا أمثال هؤلاء كثيراً، وهذا ينمّ عن خلل في المفاهيم، والتصورات، ولذلك نؤكد دائماً على أن اللباس له علاقة بالذوق، والأخلاق، والأدب، والشخصية، والهوية، بل وبالعقيدة.
فكان ذلك القرار، لأن الذي يصنعه القانون، ﻻ تصنعه الخطب، ولا المواعظ.
ولذلك عندما يذهب أمثال هؤلاء المستهترين بقيم مجتمعاتهم إلى الغرب، فإنك تجدهم ممتثلين للقوانين، مطبقين لها، لا يخرجون عنها قيد أنملة! لماذا؟! لأن توجد غرامة، وعقوبة، وإدانة!!
ومن النقاط التي لا بد من لفت الانتباه لها مدى العلاقة بين اللباس والجريمة!!
ففي خبر غريب نشر في جريدة الوطن الكويتية قبل سنوات، لوحظ أن محلات الذهب في منطقة حولي تسرق بطريقة ذكية! وهذه الطريقة باختصار: أن ثلاثة من النساء يلبسن لباساً، ضيقاً، شفافاً، قصيراً، ويدخلن إلى محل الذهب، ويبدأن بالتظاهر بالشراء، واختيار القطعة المناسبة، وعندما يرى العامل في ذلك المحل تلك الأجساد، بالملابس الضيقة، والشفافة، والقصيرة، وهو بائع مسكين، لعله بعيداً عن بلده، وعن أهله منذ سنوات، ويعيش حالة تصحر غريزي، وقحط عاطفي، فماذا يفعل؟!
لا شك أن الجواب يعرفه كل واحد منّا.
ولكن كيف تتم عملية السرقة؟!
أثناء تفحص تلك النساء للذهب، وغياب البائع عن الوعي، يدخل شخص يتظاهر بقلة العقل، والسفه، فيبدأ يشاغل البائع، ويأخذ قطعة ويضعها في جيبه، وثانية، وثالثة! والبائع غارق مع الفتيات، ويأخذ أرقام هواتفهن، للتواصل معهن، وكل ذلك كذب، ودجل، ثم يخرجون جميعاً من المحل بدون شراء، وسرقة مجموعة من قطع الذهب!!
ويتكرر هذا المشهد في محل آخر، وثالث، ورابع!
أرأيتم إذن علاقة اللباس بالغريزة، وكيف يتم الاستدراج به، للحصول على مآرب شخصية؟!
الله جل وعلا خلق هذه الكائنة لكي تكون جذابة بهذا اللباس، ولكن ليس في هذا المكان!
إن الملابس لها علاقة بالشخصية كما قلنا، ولها علاقة بالعقيدة، وبالوظيفة، وبالمستوى الثقافي، وبالمقام الاجتماعي، وبالسلوك العام، وبالذوق العام، بل حتى بالعبادات.
وهذه الأمثلة من أعظم الردود على من يهوّن الأمور، ويجعلها قضية تافهة، ومسألة فرعية!
كلاّ؛ فهي ليست فرعية، إنما قضايا لصيقة في الإنسان، واسألوا السوق، واسألوا الشركات العابرة للقارات، لكي تعلموا أن صناعة الأزياء، والملابس، والجماليات، تأتي في مرتبة ثالثة بعد صناعة النفط، و….
إذن المسألة مرتبطة هذا الارتباط المتكامل، كي نفهمها فهماً متكاملاً، وننقذ الإنسان من أن يكون تافهاً، تتلاعب فيه الدعاية والإعلان، ويقف عند المظهرية الكاذبة.
ولذلك يقول الله تعالى في سورة الأعراف: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير}[الأعراف/26].
فانظر إلى ابتدائها: {يا بني آدم}، فالنداء فيها ليس للمؤمنين، ولا للموحدين، ولا لأصحاب الكتب السماوية، ولا لأهل الكتاب، وإنما لمطلق الآدمية!!!
فقوله: {يواري سوءاتكم}، هذا هو الجانب الوظيفي، وقوله: {وريشاً}، هذا هو الجانب الكمالي، ثم ذكر لنا القيمة الأعلى من كل ذلك، فقال: {ولباس التقوى ذلك خير}.
إذن…
الدرجة الأولى: ستر واستفادة…
والدرجة الثانية: كماليات وجماليات…
ولكنه رجح عليهما لباس التقوى، أي: اللباس المرتبط بالقيمة التي توجه.
ويأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: (إن الله جميل يحب الجمال)، وعلّق شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا الحديث في كتاب: الاستقامة بقوله: “ويدخل في عمومه وبطريق الفحوى الجميل من كل شيء”.
ولكن…
ما معنى الجمال؟
ومن الذي يضع معايير الجمال؟
وأين الجمال الذي ﻻ يضر؟
وأين التوازن في قيم الجمال؟
هذه هي قضية المرجعيات التي يرجع إليها الناس، ونحن لنا مرجعيتنا الإيمانية القيمية التي نأخذ منها هذه القيمة.
إليكم هذه الحادثة …..
أم تميم، امرأة صالحة نحسبها كذلك، ولا نزكيها على الله تعالى، تقوم بإلقاء دروساً إيمانية واجتماعية للنساء، تقول في إحدى لقاءاتها: (كنت راكبة سيارتي مع أحد أبنائي، فوقفت السيارة عند أكبر مجمع تجاري في البلد، وكانت الشوارع مزدحمة بطريقة غريبة، فتأخر الوقت، وأذّن المغرب، فقال لي ولدي: يا والدتي؛ إذا لم نذهب إلى الصلاة، فلربما فاتتنا الصلاة.
قلتُ معلقاً على كلام هذا الفتى: انظر إلى الإنسان الحريص على الصلاة، كيف يفكر في عبادته، ولا ينسى تواصله مع ربه، مهما كانت الظروف، هذا هو الدافع الحقيقي للحياة إن كانت حقيقية.
ثم تكمل فتقول: فقال ولدي: دعينا يا أمي ننزل إلى هذا السوق لكي نصلي. فقلتُ له: يا ولدي؛ أنا أسمع عن هذا السوق أنه لا يناسبنا دخوله! فقال: يا أمي؛ نحن لا نريد سوى الصلاة، وهذا السوق يوجد به مصلى. تقول: فنزلتُ، ودخلتُ السوق، وتوجهتُ إلى أماكن الوضوء، وإذا بفتاة تدخل المتوضأ لا يتجاوز عمرها الـ 14، أو 15 سنة، ترتدي حجابها وعباءتها، فإذا بها تنزع الحجاب، وتخلع العباءة، وتضعهما في حقيبتها! فظننتُ أنها ستتوضأ، وتطهر نفسها بالماء الطيب، وتذهب للصلاة، ولكن ظني خاب سريعاً! لقد فتحت الحقيبة، وبدأت تخرج منها علبة المكياج، لتتزين، وتغير ملامح وجهها الذي خلقها الله تعالى عليه، ليس لشيء، إلا لتذهب تستعرض نفسها أمام الشباب، والمراهقين، لتسمع كلمة من هذا، وتعليقاً من ذاك، وتحسب أنها بذلك قد لفتت الانتباه، وأن الشباب أعجبوا بجمالها الخلاب!!
كم هي مسكينة تلك الفتاة، ومن هي على شاكلتها.
تقول أم تميم: وبعد أن انتهت من مراسيم تغيير الملامح، أرادت الخروج، بلباس استعراضي، يكشف أكثر مما يستر! فقلتُ في نفسي: أنا بين خيارين: إما أن أنصحها بالحسنى، وأتحمل ما سوف أسمعه منها، أو أتركها تذهب فريسة لهؤلاء الذئاب. فلم أستطع السكوت على هذه المصيبة التي أراها أمامي، فغلّبت النصح. فقلتُ لها: يا ابنتي؛ لماذا تريدين الخروج إلى السوق بهذا الشكل؟ أين أهلك؟ فقالت: أهلي في البيت! فقلتُ: ومن الذي جاء بك إلى هنا؟! فقالت: السائق! فقلتُ لها: يا ابنتي؛ لكنني لم أرَك توضأتِ للصلاة! الوضوء والصلاة عبادة، وهذا دينك، يجب أن تحافظي عليه، وعلى أخلاقك، وشخصيتك، وانتبهي يا ابنتي من هؤلاء الذئاب الذين يكذبون عليك، ويغرونك بالخروج هكذا، وهمّهم الوحيد هو التمتع بك، وبجمالك! وأنتِ بفعلكِ هذا قد خدعتِ والديكِ، عندما خرجتِ باحتشامكِ وستركِ، ثم غششتهما بهذا العمل، هذا تصرف لا يليق بكِ، وهذا خطأ كبير منكِ. ثم أين الحلال والحرام؟ وأين قيمة البنت؟ إن قيمتها ليس في الاستعراض، ولا في اللباس الفاضح، كلاّ؛ بل قيمتها في أخلاقها، وأدبها، ودينها، وعفافها، وسترها.
تقول أم تميم: كنتُ أتوقع منها ردًّا عنيفاً، ورفضاً لكلامي، لكن الأمر خلاف ما توقعتُ تماماً! لقد عادت لفطرتها الطيبة، فبدأت دموعها بالسقوط، وقالت لي: يا خالتي؛ لأول مرة تنصحني امرأة، وتقول لي: أمك، وأبوك، وحلال، وحرام، وشخصيتك، وانتبهي أن يكذبوا عليك! فضممتها إليّ، ومسحتُ دموعها، وقلتُ لها: لولا أن معدنك طيب، وأنك من عائلة صالحة، لفعلتِ غير ذلك. ثم أخذتها إلى المصلى، فصلت معنا، بعد أن لبست لبسها المحتشم، ورجعت إلى فطرتها، وقبل أن تغادر، نصحتها أن تنتبه من الصحبة السيئة، فهي أساس كل خراب، ودمار.
خرجت الفتاة من المصلى، وإذا بمجموعة من صديقاتها واقفات ينتظرنها، بأشكال غريبة، فهذه رافعة شعرها بطريقة مخيفة، وأخرى ملونة جسدها، وثالثة واشمة على ذراعها، إلى غير ذلك… ضحايا نشفق عليهم، ونحزن لأحوالهم، ذكوراً وإناثاً.
نظرت تلك الفتاة لهنّ نظرة عتب، ثم أدارت لهنّ ظهرها، وعادت إلى بيتها سالمة من تلك الهاوية، فائزة برضوان ربها.
هذه إحدى القصص الكثيرة التي نسمع يومياً عنها، وعن نهاياتها المأساوية، إلا أن الله تعالى لطف بهذه الفتاة، وألهمها رشدها قبل فوات الأوان.
نحن نريد من الناس أن تحكّم عقلها، وتحكّم معاييرها، وألا تخضع للعقل الجمعي، ولا للصحبة السيئة.
والذي أأكد عليه كثيراً أن الباس له علاقة وثيقة بالشخصية، والهوية، والعبادة، والذوق، والأسرة، والمستقبل، والوظيفة، وأشياء كثيرة أخرى.
ومن المواقف العجيبة التي حدثت معي، والتي تدل على مدى علاقة اللباس بالهوية، والشخصية، وأنها جزء من ثقافة الشخص، ودليل على عقله، ووعيه، وتفكيره، أنني ألقيتُ محاضرة في كلية الآداب في جامعة الكويت، فلفت انتباهي لباس معين لأحد الحضور، حيث كان يرتدي الثوب والعمامة! فظننتُ أنه زائر للكويت، ويدرس في جامعتنا، فلما سألته، زاد استغرابي أكثر عندما علمتُ أنه طالب كويتي، يدرس في كلية الآداب، قسم لغة عربية، واسمه محمد السداني، فقلتُ له: لقد لفت نظري لبسك، في ظل اتساع دائرة الملابس الاستهلاكية، والتقليد الغربي، والجري وراء آخر التقليعات ممن هم في سنك، وفي مستواك الدراسي في الجامعة. فلماذا لبست هذا اللبس المميز؟
فقال: أنا أريد شيئاً مغايراً، محافظاً، شيئاً يمثل هويتي وشخصيتي، والقيم التي تربيتُ عليها، والأفكار، والهوية العربية لي، فالكثير من الناس تخلوا عنها، والكثير منهم يحاولون التمرد على تلك الشخصية، عن طريق التقليد الأعمى للغرب، فأحببتُ أن ألتزم بهويتي، وأكون مثالاً لأصدقائي، وزملائي في الكلية.
فقلتُ له: ألا تحس أن هذا اللباس له فوائد معينة؟
فقال: بالطبع، فوائده كثيرة، فلبس الثوب مريح بالنسبة لي، وأما العمامة فهي رمز للرجولة، قديماً وحديثاً، فأنت لا تجد امرأة تلبس عمامة، كما أنك تستطيع أن تذهب بهذا اللباس إلى أي مكان، إلى المسجد، أو العرس، أو العزاء، أ, غير ذلك، بخلاف أي لبس آخر، فقد لا يكون مناسباً لبعض الأماكن، والمواقف.
فقلتُ له: ولكن كيف كان موقف الطلبة تجاهك، فأنت ﻻ شك إنسان نادر، خاصة أنهم يعلمون أنك كويتي؟! فلو كنتَ عُمانياً، أو يمنياً، لما كان هناك استغراب؛ لأن هذا لباسهم المعتاد، أما الكويتي فهذا شيء مستغرب.
فقال: مواقف الطلبة مختلفة ما بين مؤيد وساخر!
فالمؤيد يجعل ذلك من باب الحرية الشخصية، بل ربما البعض أعجبه هذا الباس، وأحب تقليده.
وأما الساخر فإنه ينظر إلى هذا اللباس من باب أنه عيب، وأنه مدعاة للاستهزاء، وأنك لا تواكب التطور، والحضارة، والموضة، وما إلى ذلك!!
فقلتُ له: وكيف تعاملتَ مع هذه السخرية، كيف كانت ردة فعلك؟
فقال: أنا أنظر إلى أمثال هؤلاء بشفقة! فالواحد منهم لا يهمّه إلا هذه الموضة البغيضة، وتقليد الغرب، ولو كان فعله خطأ واضحاً، فالكثير من هؤلاء الشباب لا يدري ماذا يلبس، ولا لماذا يلبس هكذا، ولا ما هو مكتوب على ملابسه!! فهذا اللباس لا يخالف الدين فحسب، بل يخالف الأخلاق نفسها، والعادات، والتقاليد!
فقلتُ: لا شك أن هؤلاء ضحايا إعلام فاسد، يروّج لكل ما هو غريب عن ديننا، وأخلاقنا، وقيمنا، وعاداتنا، وتقاليدنا.
وأنا في المقابل أشكرك على هذه القناعة، والجرأة؛ لأنك تنطلق من داخلك، ولا يؤثر عليك هؤلاء الذين أصبحوا تبعاً وبوقاً لدعاة الانفتاح، والتحرر، والحرية، وهم لا يعرفون منها إلا المظاهر المشوهة، والعادات المستهجنة، ولذلك فالقوي، والواثق بنفسه، هو الذي ينطلق من قناعته، ولا ينطلق من تأثير الناس عليه، لأن ذاك شخص ضعيف، ينجر بسرعة خلف أي شيء، وهو لا يستطيع أن يقول: لا للواقع، أو: لا للصحبة السيئة.
ولكن؛ ألا تشعر أنك غريب بهذا اللباس؟!
فقال: على العكس، فأنا أشعر بالتميز، أما الغرابة الحقيقية أن تكون غريباً عن الشيء الصحيح، أو عن الحق، فالشخص يكون غريباً، عندما يكون شاذًّا عن جماعته.
قلتُ: نعم؛ كلامك صحيح، فهناك فرق بين النادر، والشاذ، فأنت نادر في هذا الزمان.
ولذلك أريدك أن توجه كلمة لهذا الشباب الطيب المسكين، أو لهؤلاء البنات في الجامعة، الذين يبالغون في هذه المظاهر، والاهتمام بالموضة، وبكل شيء غريب.
فقال: لا شك أن الأمر خطير، ويعكس ثقافة الشخص، ومكنونات نفسه، وفهمه، وطريقة تفكيره، سواءً كان ذلك للشباب، أو للفتيات، ولكنه في جانب الفتاة أخطر، وأشد، لأن نظرة الشاب لتلك الفتاة التي ترتدي هذه الملابس المتحررة كثيراً، والفاضحة في أحيان كثيرة، لن تكون نظرة إعجاب، واحترام!! كلاّ والله، أو نظرة أنها فتاة جميلة، تلفت الأنظار، وتخلب العقول!! بل هي نظرة دونية، شهوانية ليس إلاّ!!
كان هذا أحد النماذج الطيبة الصالحة في مجتمعنا، وما أكثرهم بحمد الله، إلا أننا بحاجة دائماً إلى التذكير، والنصح، والصراحة في كثير من المواضيع.
وأنا على يقين تام أن كثيراً، بل غالب الآباء والأمهات لا يرضون عن تلك الملابس التي يخرج بها الشاب، أو الفتاة بالأخص، لأن وضع البنت يبقى أخطر، وأكثر خوفاً، فتجد أولياء الأمور ينصحون، ويرشدون، ولكنه في كثير من الأحيان تكون العقول صغيرة، ولا يفهم أو يعي الطرف المقابل الخطورة عليه من وراء هذه الملابس التي تخالف ديننا، وعاداتنا، وأخلاقنا، ولذلك فإن الفتاة نفسها سبب في تجريء الشباب عليها، ذلك الشباب الذي تربى على الفضائيات، والقنوات المنفتحة على كل شيء، وصِيغَت من خلالها شخصيته، وأفكاره بطريقة غريبة، لا تمتّ إلى حضارتنا بصِلة البتة.
ولذلك يقول عالم النفس الدكتور مصطفى حجازي، صاحب كتاب: الإنسان المهدور، دراسة تحليلية نفسية اجتماعية، عن الدعاية والإعلان: (وهكذا يبين جورج لاكو أن الإعلان المكتوب والمرئي يتبنى اتجاهات كلية اختزالية، تكثيفية، تبسيطية، تتحول إلى مسلّمات إعلانية، يصعب تفكيكها وفضحها)!!
ما السبب في ذلك؟!
الجواب: بساطة ذاتها، وإحكام صنعتها، وإغراق الإدراك بها!
فهي صور إدراكية على مدار الساعة، وبسيطة، ووجبة سريعة كما يقال، تسكن في الذات، ومن ثمّ تتحول إلى قناعات، وأسلوب حياة!!
في شهر 6-2007، في ولاية لويزيانا الأمريكية نُشر خبر غريب، مفاده أن رئيسة الولاية كارول بوسارد أصدرت قراراً بمنع ارتداء البنطال الذي يطلق عليه بالإنجليزية: low west، والذي نسميه: الخصر النازل!! لماذا؟! لأن مثل هذه النوعية من اللباس بمجرد الحركة القليلة، والنشاط، فإنه يسقط عن الشخص، وتنكشف عورته!! فأصدرت قراراً بمنع لبسه، وكل من يخالف ذلك، يعرّض نفسه لغرامة مقدارها 500 دولار! وإذا أصر على ارتدائه، فله ذلك، ولكن ليس في الشوارع والمراقص، وإنما في السجن، لمدة ست شهور!! لأنه خرج عن الآداب العامة!
أليس هذا عجيباً!!
إذا كان الغرب، صاحب الموضة، والمظاهر الغريبة، يحارب مثل هذه الملابس، التي تخالف عرف البلد، والآداب العامة عندهم، فماذا نقول نحن المسلمين إذن؟!!
فما الذي حدث لأبنائنا، وبناتنا؟! حتى أصبحوا معرضاً لكل ما هو جديد، وغريب، ويظن نفسه أنه في قمة التقدم، والتحضر! وما درى هذا المسكين، وتلك المسكينة أنهم في ذيل القافلة، وأنهم يُستَخدمون كسلع تجارية!
فهذا قمة التشويه، وهو احتقار لذاتك أيها الشاب، وإحراج لأسرتك، وهو أمر لا يتفق مع هويتك، ولا مع دينك.
كم رأيتُ من شاب، أو فتاة، يرتدي ملابس، عليها أسماء أو صور لمغنّين، ومغنيات، وممثلين، وممثلات، بأشكال غريبة، وصور فاضحة، وأصحاب تلك الصور إما أنه، أو أنها مصابة بالإيدز، أو مصابة بمرض نفسي، أو الخائنة لزوجها، أو المشهورة بتمثيل المشاهد الإباحية!! أو غير ذلك…
هل هؤلاء أصبحوا هم قدوتنا؟ حتى نضع أسماءهم، وصورهم على صدورنا؟!!
أين عائشة ؟!!
أين فاطمة ؟!!
أين زينب ؟!!
أين خديجة ؟!!
أين أمهات المؤمنين ؟!!
أين بنات المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؟!!
هل غُيِّبت عقولنا، وانتكست فطرتنا؟!!
لا بد لنا من إعادة النظر إلى هذا الموضوع بصراحة، وشجاعة، وجرأة، ولا بد للمسلم أن يعتز بدينه، ويرتقي بذوقه، وإيمانه، ويرشد عقله، حتى لا يكون سُبّة لنفسه، وسخرية للناس، وإساءة لأسرته.
رزقني الله وإياكم سلامة العقل، وحسن الذوق، واللباس النظيف، الأنيق الشرعي المحتشم.