وياكم 2016 الحلقة السابعة جسر الثقافات
جسر الثقافات
في حديثنا عن التراث الإسلامي، والتاريخ الإسلامي، لا نتكلم عن قصة ممتدة للتسلية، أو عن أحداث مجردة، لملأ فراغ ممتع لنا، نُشبع به أنفسنا من النقص الذي نحن فيه اليوم كأمة، وإنما نذكر التاريخ:
أولاً: لأخذ العبرة.
ثانياً: لاكتشاف سنن الله سبحانه وتعالى في المجتمع، وفي الناس؛ لأن المجتمع، والتاريخ تحكمه قوانين، كما أن الطبيعة المادية تحكمها قوانين، ولتلك القوانين طبيعتها، وحركتها الاجتماعية، ولهذه القوانين الطبيعية طبيعتها، فلا بد أن نفهم السنن الاجتماعية، وهي التي يسترشد بها المؤرخون، والسياسيون، وتستنطق الأمم، لأخذ المعاني منها، وكما يُقال: التاريخ يعيد نفسه، وهي كلمة مختصرة موجزة رمزية دالّة، لا على إعادة تطابقية؛ وإنما على إعادة قانونية لسنن كونية.
ثالثاً: لرد بعض الشبهات، وكشف بعض الحقائق، سواء حقائق بالنسبة لنا، أو بالنسبة لغيرنا، وهذه الحقائق قد تكون مشرفة لتاريخنا توضع على الرأس، وقد تكون حقائق مذلة مخجلة، فليس في ذلك ضير؛ لأن الهدف من ذكرها الانتفاع والعبرة، ولذلك كثيرًا ما نكرر ونؤكد: أن التاريخ ليس مصدراً من مصادر التشريع، وأن التاريخ لا يُؤخذ منه الحلال والحرام، وإنما التاريخ يُحكم عليه بالحلال والحرام، فالحلال، والحرام، والقوانين الشرعية هي المعيار، وهي الميزان، والتاريخ هو المحكوم عليه، حتى لا يحدث انتكاس في الأحكام، أو يقع قياس خاطئ.
قد يقول قائل: لماذا هُزمنا ونحن مسلمون؟
فأقول: هُزمنا لأننا خالفنا السنن الكونية، والقواعد الحياتية، التي لا تجامل أحدًا كائنًا من كان.
كان من ضمن المناطق التي زرتها في إسبانيا، أو الأندلس سابقًا، مدينة طليطلة، تلك المدينة التاريخية الإسلامية العريقة، ذات المكانة المهمة.
ولكن: من أين تأتي مكانة طليطلة؟
والجواب: أن مكانتها تأتي من كونها أول مدينة تُفتح إسلامياً في سنة ٩٣ هجرية، بقيادة القائد المسلم طارق بن زياد، والتي كان يسكنها مجموعة من اليهود والنصارى، وكان هذه الفتح سلمًا لا حربًا، بل إن التاريخ يحدثنا أن أهل طليطلة من النصارى وغيرهم هم الذين استغاثوا بطارق بن زياد وجيشه المسلم لدخول هذه المدينة، وتخليصهم من الظلم الذي كان واقعًا على طائفة منهم!!
فمن المعلوم أن النصارى الذين كانوا يسكنون طليطلة كانوا من القوط، وهم على قسمين:
الكاثوليك والأريسيين.
والأريسيون: أقرب إلى الموحدين، أما الكاثوليك: فكانوا أصحاب السطوة والقوة، فأذلّوا الأريسيين، وأوقعوا عليهم الظلم، كما هو الحال في كل مذهب، وفي كل انتماء، يكون هناك ظالم، ومظلوم، وهذه نقطة مهمة وجوهرية في قضية الخلاف الداخلي لكل مجموعة، ولكل أمة، ولكل دولة، بأنها من أعظم أسباب التفكك، والضعف، وذهاب الريح، وتسلط الآخر.
فإذا أُضيف إلى ذلك كون القوة الخارجية متماسكة، واضحة الرؤية، ولديها الاستعداد الكامل، وأخذت بالأسباب الحياتية التي جعلها الله حياداً للكافر، والمؤمن، فعندها تكون الغلبة لهم، والظفر حليفهم، لأن القاعدة تقول: (من سار على الدرب وصل، ومن أخذ بالأسباب نجح)، وهي قاعدة كلية لا تجامل الانتماءات.
ولكن: ما الذي نستفيده من هذا السرد التاريخي؟
نستفيد من ذلك الإجابة على ذلك السؤال المطروح كثيرًا، والذين يدندن حوله الكثيرون لأغراض في أنفسهم، ألا وهو: هل استعمر المسلمون إسبانيا؟
لأنه ينبي على هذا السؤال سؤال آخر: لماذا تغضبون أيها المسلمون عندما يستعمركم الغرب، ويذلّكم، طالما أنكم فعلتم ذلك أنتم أولاً كما هو الحال في بلاد الأندلس؟!!
فنقول: إن هذا لم يحدث إطلاقاً.
لماذا؟
أولاً: لأن الإسبان هم الذين طلبوا تدخل المسلمين، بل ورحبّوا بهم، لما وقع عليهم الظلم، والعدوان من أبناء جلدتهم وملتهم.
ثانيًا: لوجود الطبقية في المجتمع، فالمجتمع متى ما خضع للطبقية: قوي وضعيف، غني وفقير، وكان صاحب رأس المال والسلطة يستذل الذي لا يملك، ويعتبره مادة استعمالية يُذلها، ويستهلكها، عند ذلك لا بد لها المستعبَد من أن يبحث عن البديل أياً كان هذا البديل، حتى لو كان من خارج أرضه، أو من دين آخر غير دينه، أو من قومية أخرى لا ينتمي إليها.
ولذلك لما جاء طارق بن زياد رُحب به، وفتحوا له البلاد، وتعايش النصارى واليهود مع المسلمين كأجمل ما يكون، حتى أصبحت طليطلة مدينة التعايش، بفضل عدالة أحكام هذا الدين، حيث ترك طارق بن زياد الكنائس للنصارى على ما هي عليه، يتعبدون الله فيها، وترك لليهود الكنس، وجعل أُباناس مطران طليطلة المطران الرسمي على المدينة، وأقرّ الناس على ما هم عليه.
من ضمن المعالم التي زرتها في طليطلة: مدرسة المترجمين، وقبل الحديث عن مدرسة المترجمين، لا بد من الإشارة إلى أن طليطلة عرفت بمدينة العلم، فقد عرفت بالكتاتيب العلمية، والكتاتيب كلمة تشير إلى مفاتيح العلم، حيث يتعلم الإنسان فيها مبادئ الخط، والكتابة، ويحفظ المبدأ الأول، والمتن الأول وهو القرآن الكريم الذي يفتح عليه أبواب العلم، والمعرفة.
كما أنها عرفت بالمكتبات العامة، والمكتبات الخاصة، وكان لاقتناء الكتب نظام خاص، من أهم شروطه: أمانة المستعير.
وعُرفت كذلك بصناعة الورق، وكلنا يعلم أن الورق ذو صلة حميمية لازمة لقضية العلم.
ومن العلماء الذين عُرفوا في مدينة طليطلة: عالم الفلك المشهور: ابن الزرقالي، الذي يصنف من بين أعظم راصدي الفلك في عصره، وواحد زمانه في علم العدد، هذا الرجل كان أول من قاس قياسات دقيقة لطول البحر الأبيض المتوسط، وأول من أثبت أن رحلة ميل أوج الشمس هي (12,04) ثانية بالنسبة للنجوم الثوابت، وهو أول من قال بدوران الكواكب في مدارات بيضاوية.
أما عن اختراعه فقد ابتكر آلات فلكية جديدة، وصفها في كتاب له يعرف باسم: الصحفية الزرقالية، فشرح فيها كيفية استعمال الأسطرلاب على منهاج جديد، وقد أهدى هذا الكتاب إلى المعتمد بن عباد، كما قام بحساب مواقع النجوم ووضعها في أزياج عرفت باسم الأزياج الطليطلية.
كما ألف رسالة في غاية الأهمية، والتي تحتوي على المعلومات الضرورية لصنع واستعمال صحيفة الزرقالة، التي قدمت خدمة جليلة لعلماء العرب والمسلمين في ميدان الرصد، ولقد ترجمت هذه الصحيفة إلى عدة لغات، كما اعتمد عليها علماء أوروبا في عصر نهضتهم في جميع أرصادهم الفلكية طوال قرنين من الزمان.
ومن العلماء الطليطليين المشهورين على صعيد الأندلس كلها، وهو أعلم علماء الفلاحة والزراعة: ابن البسطال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم، الذي ألّف كتاباً في علم الفلاحة، واستفاد منه العالم في وقته كله.
إلى غير ذلك من أسماء لامعة في سماء العلم والمعرفة.
وعودًا إلى الحديث عن مدرسة المترجمين في طليطلة، فقد انتقلت من هذه المدرسة علوم العرب والمسلمين في الفلك، والطب، والفلسفة، والأدب، إلى أوروبا، وقد تأسست هذه المدرسة في القرن الثاني عشر الميلادي، وتتابع ملوك أوروبا على تطويرها، ابتداء من ألفونسو السابع، إلى أن بلغت ذروتها تطويرها مع ألفونسو العاشر، فقد تُرجم فيها كتاب: “كليلة ودمنة”، وكتاب: “التصورات” للرازي، وكتب الفيلسوف ابن رشد، ورسائل ابن حزم، وغير ذلك الكثير.
وفي هذه المدرسة التقيتُ بالدكتور كونيال، ودار بيني وبينه حوار ماتع، وكان أول سؤال طرحته عليه، أن قلتُ:
باختصار أين نحن؟ وماذا يمثل هذا المركز تاريخياً، وإنسانياً؟
فقال:
نحن في مدرسة المترجمين، وفي قصر من قصور القرن الرابع عشر، هذه المدرسة تمثل الحوار بين الشرق، والغرب في القرون الوسطى، فقد كان المترجمون ما بين القرن الثاني عشر، والثالث عشر، يترجمون المعارف القديمة: اليونانية الإغريقية، والفارسية، والعربية، إلى اللغة اللاتينية، أما الآن فقد أصبحت هذه المدرسة مركزًا للأبحاث المترجمة من العربية إلى الإسبانية، من الأدب، والفلسفة، وغيرها.
قلتُ:
وهل درست العربية هنا في إسبانيا؟
فقال:
نعم، أنا تعلمت العربية في جامعة غرناطة، ثم عشت مدة في دول عربية.
قلتُ:
وكيف كانت تتم الترجمة في هذه المدرسة؟
فقال:
القصة طويلة جداً، وحتى لا أطيل عليك لا بد من المعرفة أن الكتب الموجودة، والمخطوطات، التي جاءت إلى هذه المدينة في بداية القرن الثاني عشر، كانت تأتي عن طريق قرطبة، من بغداد، وبعد سقوط قرطبة، وغيرها من الممالك، كانت هناك العديد من المكتبات، كالمكتبات العامة والخاصة في طوليدو، والمكتبة في الكاتدرال، وكلها مليئة بالكتب العربية، وكان الكثير من الشبان من الفلاسفة، والأطباء، وغير ذلك، يقصدون هذه البلاد بحثاً عن هذه المعارف، إلا أنهم كانوا يصدمون بلغتها، فلا يستطيعون قراءتها، وفهمها، ولذلك بدأت ترجمة هذه الكتب من العربية إلى اللغة اللاتينية، وكانت الطريقة المستعملة في هذه الترجمة مثيرة جداً، حيث شارك فيها نخبة من المترجمين المتخصصين الذين يتقنون اللغة العربية من جانب، واللغة اللاتينية من جانب آخر، وكذلك اللغة القشتالية القديمة، وهي اللغة الإسبانية القديمة.
قلتُ:
أي أنه كانت هناك لجنة مكونة من متخصصين متنوعين؟
فقال:
تمامًا، وليس شرطًا في هذا المترجم أن يكون من الدين الفلاني، أو الدين الآخر، بل من الممكن أن يكون مسيحيًا ويعمل مع يهودي أو مع مسلم، إلا أن الضابط لذلك هو الخبرة والإتقان، ومعرفة اللغات، هذا الاجتماع المتنوع كان هو المميز والجميل في قصة المترجمين في القرون الوسطى.
قلتُ:
ذكرت لي أن هناك ترجمة كتابية، وترجمة سماعية، فما الفرق بينهما؟
فقال:
الترجمة الشفهية هي الوسيط، فالمترجم الذي يتقن اللغة العربية يأخذ الكتاب مكتوبًا باللغة العربية، ويترجمه إلى اللغة القشتالية شفهياً، ثم يأتي مترجم ثانٍ يتقن اللغة القشتالية، ولديه معرفة، ومعلومات عن اللغة اللاتينية، يتسمع للمترجم الأول الشفهي، ويترجم للمترجم الثالث، وهذا عادة ما يكون من الكنيسة، ويتقن اللغة اللاتينية المكتوبة، فيكتب بطريقة سليمة باللغة اللاتينية ما تُرجم من الأول من العربية إلى القشتالية.
قلتُ:
هذه الترجمة لا تزال موجودة في هذه المدرسة العريقة في طليطلة؛ ولكن الآلية اختلفت، فهل هناك طلاب يأتونكم لتعلم الترجمة للإسبانية؟
فقال:
نحن في هذه المدرسة ندرِّس العربية، وندرِّس الترجمة على مستوى الماجيستير من العربية إلى الإسبانية، لأكثر من ألفين طالب، من جنسيات مختلفة، عربية وغربية، ونقوم بتنظيم مؤتمرات دولية حول الترجمة، ودورها، وصل عدده في الوقت الحاضر إلى أكثر من ثلاثين مؤتمرًا دوليًّا.
أنهيتُ الحوار مع الدكتور دانيال، ثم انتقلتُ إلى محطة أخرى، حيث كانت أمام مسجد باب المردوم، فله قصة، وعبرة، وفائدة حيوية متعلقة بدور المساجد.
فما حكاية هذا المسجد؟
هذا المسجد يبعد عن سور مدينة طليطلة مئة متر تقريباً، والطريف في الأمر أن الذي بناه لم يكن السلطان، أو الأمير، أو الدولة، وإنما رجل من أهل الخير من عامة الناس لا يعرفه أحد يدعى: أحمد بن حديدي؛ لكن التاريخ خلّد اسمه، فالخير يبقى: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون}.
وفكرة بناء هذا المسجد بجانب السور العظيم لمدينة طليطلة: أن القوة العسكرية، والتقنية المادية، المتمثلة في الأجناد الذين يحرسون المدينة، لا بد أن توازيها وتعاونها قوة أخرى لا تقل أهمية عنها، وهي القوة الروحية، والأخلاقية، والمعنوية، المتمثلة في قوة: الله أكبر، فقام هذا الرجل المحسن ببناء هذا المسجد للجنود، كي يجمعوا بين القوتين، وهذه نقطة مهمة جدًّا، لماذا؟
لأن الجندي والعسكري، وكما يقول تويمبي المؤرخ العالمي: إن الناس كانوا إذا أرادوا أن يضربوا مثلاً لسوء الأخلاق، فإنهم يضربونه بأخلاق العسكر أيام الرومان، واليونان، والفرس، وغيرهم؛ والسبب أنهم كانوا إذا دخلوا قرية أفسدوها، ولذا كان لا بد أن يكون لهؤلاء العسكر قيم، وأخلاق، يتحلون بها، ولا شك أن المسجد هو أبو القيم، والأخلاق، والآداب، العلمية والعملية على حد سواء.
ومن ذلك أن هذا العسكري تأتيه أحيانًا أوامر عسكرية ضد عقيدته، وضد دينه، وضد قناعاته، وضد إراقة الدماء بغير وجه حق، ولو كان من غير دينه، فهل يستسلم وينفذ؛ لأنها أوامر عليا، أم أنه لا بد أن تكون لديه مسلَّمات، ومبادئ، وأخلاقيات، لا يمكن التنازل عنها مهما كلف الأمر، تمثلاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)؟
هذه قيمة يجب أن تكون حاضرة في ذهن كل جندي، وعسكري، بل وأن تستقر في أذهان الناس جميعًا.
ولذلك نحن نؤكد دائمًا على قضية الحقوق للناس جميعًا، ففي عقيدتنا وديننا وأخلاقنا لا يجوز لجيش مسلم ذهب لفتح بلاد غير إسلامية أن يعتدي على المسالمين، وعلى دور العبادة، في تلك البلاد، لأن كل إنسان مسؤول عن عقيدته التي يعتقدها، والله سيحاسبه على ذلك، وليس أنا ولا أنت.
ولذلك فإن الفكرة السلبية التي صُدرت إلينا من أن الاسلام دخل تلك البلاد، واستولى على أماكن ودور عبادة الناس، وفرض الإسلام عليهم قهراً، هي فكرة مغلوطة من أساسها، قام بتسويقها المستشرقون، الذين يخلطون بين مفهومين متغايرين: بين الفتح الإسلامي المسلح، وهذا قد حصل ووقع، وبين نشر العقيدة بالسيف.