وياكم 2016 الحلقة الحادية والعشرون الاتزان الذاتي الفرد والاسرة ج1
الاتزان الذاتي الفرد والأسرة 1
في حياتنا اليومية نشاهد الكثير منا يشكو من التوتر الدائم، والمتزايد في معدلاته، شريحة ونوعاً، ومن القلق على المستقبل، والقلق من الواقع، هذا التوترات انعكست سلبياً على البيت، والعمل، والشارع، والجامعة، وعلى العلاقات الودية، وغير ذلك.
فما الذي يحدث في أيامنا هذه؟ أيام التطور، والعلم، والتكنولوجيا، ووسائل الاتصال الحديثة؟
لماذا هذا التوتر؟
لماذا هذا الخلل في بنية الإنسان، وعلاقاته تزداد، في الوقت الذي تصور الإنسان أنها يجب أن ترتقي في ظل تقدم علمي؟
هل هناك إشكال أن الناس تتقدم علمياً، وتتراجع في علاقاتها الإنسانية؟
هل المشكلة في المجتمع أم الإنسان كإنسان؟
وللإجابة على هذه الأسئلة وغيرها كثير، أجريت حواراً ماتعاً رائعاً في تفاصيله، وإسهاباته، مع أحد أبرز الأطباء في دولة الكويت، وهو الدكتور موسى الجويسر، استشاري طب العائلة، وبكالوريوس طب جراحة من جامعة الكويت، ومعالج في علم النفس الإدراكي، وخبير دولي في علم أنماط الشخصية، وحاصل على المستوى الثالث لاستخدام كشاف الشخصية العلمي MBTI، ومؤلف كتاب “إعادة الاتزان الذاتي” وهو البحث الذي قدمه تفصيلاً، وخريطةً، وجدولةً… الخ.
في بداية الحوار توجهت للدكتور موسى بقولي:
نريدك أن تعطينا فكرة عن موضوع: الاتزان الذاتي، نشأته، تاريخه، حاجتنا إليه، وضرورته في المجتمع.
فقال:
سوف أتحدث عن الاتزان الذاتي بحسب منهجية علم أنماط الشخصية.
وعلم أنماط الشخصية هو مدرسة من مدارس علم النفس الطبيعي، والعادة أن الناس عندما يتحدثون عن شخص ما يقولون: فلان قلِق، فلان متوتر! فهم دائماً يذكرون الظواهر السلبية؛ وقلما يذكرون الشيء الطبيعي!
والأسئلة التي يسألها الناس في هذا المقام هي أسئلة بديهية، بمعنى أن لدينا تطبيقات عملية، وأبحاثاً، ممارسات، كلها أكدت على وجود المشكلة؟
وأنا سأتكلم من زاويتي كخبير دولي في أنماط الشخصية، فأقول: إن الجواب يكمن في كلمة واحدة هي: (نحن نسينا الله!!)، لماذا؟
لأن المسألة بديهية للغاية، فلو أخذناها دون تحيز لمدرسة معينة، نجد أن الله سبحانه وتعالى وضع قاعدة في القرآن، وهي قوله تعالى: {فطرت الله التي فطر الناس عليها}، فالله تعالى خلقنا بطبيعة معينة، ثم قال بعد ذلك: {ﻻ تبديل لخلق الله}، بمعنى أن الله خلقنا بطبيعة، وهذه الطبيعة نافذة بأمر الله، فإن رضينا بأمره تعالى، فنحن في سعادة، وإن خالفناه، فنحن في تعاسة.
فعندما يقول شخص لي: إنه في تعاسة، فالمسألة بديهية للغاية، أنه يسير على غير ما أمره الله به، فهذا الإنسان صاحب التوترات بمجرد أن يرجع إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها، سوف يجد السعادة، وينتفي التناقض تماماً، ثم قال الله تعالى بعد ذلك كلمة عجيبة: {ذلك الدين القيم}، فأنتم تبحثون عن غيري، لماذا؟ هل تبحثون عن السعادة بغير أمر الله؟
قلتُ:
ها هنا نقطة: فعندما تقول: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} استدلالاً بالنص، فأنت تؤكد على شيء غير موجود الآن في الحضارة المادية، الحداثية، ألا وهو: أن هناك ثابت في الكيان الإنساني، بينما هم يقولون بنسبية الثقافة، والتحول الإنساني!
وأستميحك عذراً بهذا السؤال، فأقول: لقد بدأت جميع كتبك الأجنبية، والغربية، وحتى غير مترجمة، من منطلق ديني، وإذا بك ترجع إلى مراجع غربية لأناس ﻻ ينتمون لديننا، فكيف يكون ذلك؟
فقال:
المسألة بسيطة للغاية، فأنا لدي قاعدة أمرني الله تعالى بها، أنني إن اختلفت في شيء ما، أو لم أفهم شيئاً ما، أو أردت أن أتأكد من صحة شيء ما، فالجواب: {فردوه إلى الله والرسول}، فأنا أرجع فيه إلى قال الله، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، بل إنني لا أكون مبالغاً إن قلت: إنني خلال الدورات التي حضرتها في العشرين سنة الماضية مع كبار المتخصصين على مستوى العالم ما سمعت كلمة قالوها إلا وجدتها في القرآن، أو السنة، وأنا أتكلم من وجهة نظر علمية، وليس من وجهة نظر انفعالية، أو من وجهة النظر التي يركض الناس وراءها بأن ديني ضعيف، وأنا أبحث عن دليل! بل العكس هو الصحيح، فأنا أبحث عن الحقيقة، وقد قدمت بحثاً بعنوان: “ماذا يقول القرآن والسنة عن علم أنماط الشخصية؟”، فأنا أتحدث عن ثوابت مدرسة يونج، وليس رأياً عابراً، ولا وجهة نظر بلا دليل، فيونج عندما كتب المعلومات وضع ثوابت، والذين جاؤوا بعده أصلوا هذا العلم، فقلت: إن هذه القواعد التي عندكم مذكورة عندنا!
ومن ذلك على سبيل المثال:
قاعدة سيكولوجية التفرد التي ذكرها، وعنى بها: أنك كإنسان خُلقت لتكون هذا الإنسان، فهذه كينونتك، وهذه طبيعتك، ولا تستطيع مخالفتها، فيجب أن تكون الإنسان الذي خلقت من أجله. وقد ذكر هذه القاعدة في كتابه: “أنماط الشخصية”.
أقول: إن هذه القاعدة التي ذكرها يونج، تعتبر أصلاً من أصول العلم عندنا، وقد ذكرها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في حديث عظيم بقوله: ((كل ميسر لما خلق له))، فأنت أيها الإنسان خلقك الله تعالى لأداء مهمة معينة، وأعطاك القدرات، والإمكانات لأداء هذا الدور، فأنا كمسلم لست محتاجاً للعلم الغربي كي أدلل على صحة ديني؛ وإنما أذكر ذلك للناس كدليل مادي؛ لأن كثيراً من الناس ابتعدوا عن فهم القرآن والسنة، واقتصروا على الطقوس التعبدية، والمظاهر الخارجية، فلم يصلوا إلى حقيقة التقوى، أو ما نسميه الآن طب القلوب.
قلتُ:
ولكن من هو المتوازن؟ وما هي صفاته؟
فقال:
هناك قاعدة بسيطة جداً لو عرفها الناس لاستراحوا جميعاً، وهي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (فأعطِ كل ذي حق حقه)، هذه القاعدة هي التي خلصت لها جميع مدارس الاستشارة النفسية، والمدارس التي تكلمت عن الاتزان الذاتي في هذه الجزئية.
إذن: من هو الإنسان المتزن؟
الإنسان المتزن له تعريفات مختلفة، فمن زاوية علم أنماط الشخصية، خلص العلماء نتيجة دراسات وأبحاث إلى أن الإنسان المتزن هو الإنسان الذي يعيش حياته، ولا يعيش حياة الآخرين، بمعنى أنني عندما أعيش حياتي، فأنا لدي احتياجات، وأحلام، وطموحات، أريد أن أحققها، فكثير من الناس يلغي نفسه، ويعيش لغيره، ثم يأتي في النهاية ويقول: أنا لست مرتاحاً!! نقول لمثل هذا الإنسان: أنت السبب! فأنت ألغيت نفسك من البداية، وألغيت أفكارك، وطموحاتك، وألغيت الغاية من وجودك، وأصبحت فلاناً الفلاني!!
وكثيراً ما أذكره هذا المثال تدليلاً على هذه المسألة، وهو: أن غراباً رأى طاووساً، فقال: أريد أن أصبح مثله، فأخذ يمشي مشية الطاووس، ولكن إذا رآه الناس قالوا: غراب؛ لكن مشيته مشية طاووس!! فلا هو بقي غراباً كما خلقه الله تعالى، ولا هو أصبح طاووساً على الحقيقة.
وهذا ما يفعله كثير من الناس! فالبعض يريد أن يكون طيباً، وديعاً، مثل فلان! فنقول له: لا يا أخي لا تكن نسخة عن فلان، بل تعلم من فلان.
هذه هي قاعدة الاتزان: أن تستفيد من تجارب الآخرين، فأنا لست محتاجاً أن أكون مثل فلان، وإنما أتعلم من تجربته، وأستفيد منه، وهذه جزئية رئيسة في قضية أن أعيش حياتي، ولا أعيش حياة الآخرين.
قضية أخرى: وهي من القضايا الشائكة، وهي أن الناس ثلاثة أقسام فيما يخص علوم الغرب، والاستفادة منها:
فقسم يقول: إن هذه العلوم الغربية مأخوذة كلها من العلوم الإسلامية، فنحن كنا كذا، وكنا كذا!! فهذا إنسان يعيش في الماضي، وأصبح أسيراً للماضي، فلا يستطيع التعامل مع الحاضر، ولا المستقبل.
وقسم آخر يقول: نحن أبناء اليوم، استمتع بلحظتك، وعش حياتك!!
فابتلينا بجيل طويل عريض لا يعيش إلا اللحظة الحالية، فلا يستفيد من الماضي، ولا يخطط للمستقبل!
وقسم ثالث: ينظر إلى المستقبل مباشرة، فلا يستفيد من الماضي، ولا يتعامل مع الحاضر!
وكل هؤلاء مخطئون، فالقاعدة العلمية في علم أنماط الشخصية تقول: إن الإنسان المتزن هو الذي يعيش حاضره، ويستفيد من تجارب الماضي، ويخطط للمستقبل.
وعندما كنت أدرس هذه القاعدة في علم أنماط الشخصية، كنت أضحك!! لأن الله تعالى ذكرها في القرآن الكريم منذ أكثر من 1400 سنة! قال الله تعالى في محكم آياته: {وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة}، فنحن أموات أبناء أموات، وقد أتى الله تعالى بنا إلى الدنيا؛ للأن الدنيا مزرعة الآخرة، ثم قال: {ولا تنسَ نصيبك من الدنيا}، وهذا هو التعامل مع الحاضر، فكل، واشرب، واطلب حاجاتك النفسية الأساسية، ثم بعد ذلك قال: {وأحسن كما أحسن الله إليك}، وهذا ماضيك، فالله تعالى أحسن إليك في الماضي، وأعطاك، وفعل لك، فأحسن أنت، والإحسان أعلى درجات العمل الصالح.
إذن العالم الغربي اكتشف هذه الحقيقة التي أعيشها أنا كمسلم منذ نزول القرآن الكريم.
قلتُ:
وكيف يكون الاتزان النفسي في دوائر علاقاتنا مع الآخرين؟
فقال:
الحقيقة أن هناك دوائر:
الدائرة الأولى: أنني مسؤول عن نفسي، فأنا يوم القيامة أسأل عن نفسي، وعن عملي، ولا أسأل عن عمل الآخرين، فالله تعالى أمرني أن أهتمّ بنفسي بالدرجة الأولى.
الدائرة الثانية: من ارتبطت حياتي بهم، وهم زوجتي، وأولادي، ثم بعد ذلك إخواني، وأخواتي، وأبي، وأمي، وهذه دائرة العائلة.
الدائرة الثالثة: الأقارب.
الدائرة الرابعة: الجيران.
الدائرة الخامسة: المجتمع.
هذه هي الدوائر التي يتكلمون عليها في مدارس الاستشارة النفسية، وكلاًّ أبحر فيها من زوايا مختلفة، كذلك الاتزان، فأول شخص يجب أن أهتم به هو أنا، بمعنى أن يكون شخصي هو الأولوية الأولى عندي، والناس قد يفهون (أنا) غير مفهومها الصحيح، فالبعض يفهم منها أنني ألغي الآخرين! أو لا أكترث بالآخرين! وهذا ليس بصحيح مطلقاً، وهذه ليست علامة صحة نفسية، بل علامة مرض، فالصحة النفسية هي أنني كما أريد الخير لنفسي، فأنا أريده للآخرين؛ فهذا تعبير طبيعي عن الصحة النفسية؛ إلا أن الذي يحدث أن كثيراً من الناس يضعون الآخرين أولوية! وأشهر مثال أذكره تدليلاً على هذه القضية: ما نسمعه كثيراً من أمهاتنا الغاليات، حيث تقول الواحدة منهن: أنا عمري كله أعطيه لأبنائي، وأنا أعيش لهم وبهم!!
أقول: لماذا يا أمي العزيزة تقولين ذلك؟!
ليس خطأ أن تعيشين عمرك كله لأبنائك، بمعنى تعيشين معهم، وتبذلين ما تستطيعينه لإسعادهم، لكن الخطأ أن تعيشين لأجلهم، ولأجلهم فقط!!
لأنك بذلك ستلغين نفسك، فلا نخلط بين قضية الإيثار والتضحية، وبين العيش لذاتي، فالمفهومان مختلفان تماماً؛ ولكن الأسباب التي بنيت على قناعة غير صحيحة، جعلت الأم تلغي حاجتها، واحتياجاتها، وتلغي حياتها من أجل الآخرين!
وأنا سأسأل هذه الأم سؤالاً بسيطاً:
هل هي تترك الصلاة من أجل أبنائها؟!
هل تترك الصيام؟ هل تترك الحج؟ هل وهل وهل…؟
لا شك أن الجواب المنطقي على كل هذه الأسئلة: لا، وبالفم المليان.
فأقول: وما الفرق؟
فمعنى ذلك أنه توجد احتياجات لها، وهي تلبّيها، وهذا هو المنطقي، وأنا لا أقول أن الأم تقصر بحق أودها؛ لكن الذي يحدث عند كثير من الأمهات أنهن ينسين أنفسهن، وهذا ما يحدث للأب كذلك.
بل لو ضربنا مثلاً بالزوج والزوجة، اللذين اقترنا برابطة وثيقة، وزيجة صالحة، وعاشوا حياة سعيدة، مليئة بالحب والمشاعر والأحاسيس، وكلنا نعلم أن ثمرة الزواج الولد، فبعد سنة أنجبت تلك الزوجة، فأصبح اهتمام الزوجة بهذا الضيف الجديد، وابتعدت عني! فأصبح كلامنا ليس أنا وأنت، وإنما الولد يريد، والولد يحتاج، وغير ذلك، فانصب اهتمام الزوجة على الولد، ونسيت زوجها، وأصبح رقم اثنين في حياتها، فإذا أنجبت ولداً آخر، يصبح الزوج رقم ثلاثة في حياتها، وهكذا، وبعد عشرين سنة يتزوج الولد والبنت، ويستقلون بحياتهم الخاصة، ويرجع الزوج والزوجة وحيدين: فالزوج عندما ينظر إلى زوجته يقول: أنا أعرف هذا الوجه من عشرين سنة، إلا أن حياتي توقفت من ذلك التاريخ!! ففلانة يعرفها من عشرين سنة، وكان بينهما أولاد؛ لكن الحب ذهب، ليس لأنه غير موجود، وإنما لأننا ما راعيناه، فيحس الزوج أنه لا يعرف هذه الإنسانة! وليس مستعداً أن يبتدئ بداية جديدة!!
هذا الذي يحدث في كثير من الزيجات، فالناس الصالحون، والمتزنون، يأتون ودمعتهم على خدهم، ويسأل: أين الخطأ؟
فأقول: أنتم لم تخطئوا؛ وإنما نسيتم الأولويات، فالزوجة تعيش مع أولاده؛ ولكن زوجها ليس تكملة للعدد!!
قلتُ:
وهذا يجعل الزوج يفكر تفكيراً آخر، ويبحث عن بدائل؟
فقال:
صحيح؛ لأن الزوج لم يجد حبيبته، لم يجد زوجته، وشريكة حياته، وكذلك الحال مع المرأة.
قلتُ:
أحياناً يقول البعض: أنا أريد أن أتزوج، وأرضي أمي بهذا الزواج، فهي التي تختار لي زوجتي!
وفي المقابل هناك من يقول: بل أنا الذي أختار، وأرضي نفسي؛ لأن الزوجة لي، وأنا لست متزوجاً من أجل أمي!
هذه إشكالية في الفهم، كيف نحلها؟
فقال:
المسألة سهلة، فمن البداية نحن ما فهمنا الموضوع بطريقة صحيحة، بمعنى أنني عندما أتزوج، فمن حقي اختار الزوجة التي تناسبني؛ ولكن الزواج في الوقت نفسه ليس فلان تزوج فلانة، وإنما هو أسرة تزوجت أسرة، ففيه تراحم، وترابط، فلا بد أن نعطي كل ذي حق حقه، فأنت تريد حقك كزوج، والأم تريد حقها أيضاً كأم، ولكن ليس هذا ولا ذاك صحيحاً!
بل الصواب أن نجمع بينهما، بمعنى أن الشاب يحقق ما يريده من اقترانه بفتاة تناسبه، وكذلك الأم تحقق ما تريده من كون هذه الفتاة من عائلة محترمة، وهذا ما يسمى في الإسلام بالكفاءة، أي من المستوى الاجتماعي نفسه.
قلتُ:
نريد أن نتكلم عن الاتزان الذاتي في التعامل مع المال، ومع الملك، ومع الثروة، فبدأنا نسمع من يقول: إن ذمة الإنسان ضعفت، وإن الناس تُشترى بسرعة، وإن المال يكسر أكبر رأس، ويكسح المباديء؟
فقال:
هذه تبريرات غير صحيحة من البداية، ودعني أعطيك هذه القاعدة العلمية من ضمن علم أنماط الشخصية، فالسؤال كالتالي: المال غاية أم وسيلة؟!
قلتُ:
وسيلة.
فقال:
أنت تقول ذلك، لكن كثيراً من الناس يقولون هو غاية! بمعنى أنني أعيش وأموت من أجل هذا المال!! وهذا بحد ذاته ينطبق عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم))، فهو لن يحقق أي شيء!
وقد يعترض البعض على هذا الكلام، فأقول: سأحاكمك للدليل المادي الواقعي، فهذا الإنسان الملياردير يستطيع أن يشتري أحسن فندق، وينام في أجمل غرفة، وعلى أحسن فرش؛ لكنه لا يمكن أن يشتري نوماً هنيئاً!!
يذهب إلى أفضل دكتور ومستشفى، وإلى أحسن خدمة صحية، ويشتري أفضل دواء؛ لكنه لا يمكن أن يشتري شفاء!!!
يذهب إلى أفضل مطعم، ويأكل أحسن طعام؛ لكنه لا يمكن أن يشتري لذة الأكل!!!
هذا هو الدليل المادي الواقعي لمن جعل المال غاية، فأصبح عبداً للمال، فإنه يعيش في الدنيا فقيراً، ويحاسب في الآخرة كغني!!!
فالمال يجب أن يكون وسيلة لتحقيق أهداف كثيرة، فالإسلام أعطانا مساحة كبيرة في عمل الخير، ونحن عندما نشاهد الأغنياء من غير المسلمين نتساءل: ما هو وجه سعادتهم؟
هل وجه سعادتهم في كنز المال، أم في العطاء؟
قلتُ:
كثير منهم في العطاء.
فقال:
هذا بالنسبة للإسلام يعتبر ممارسة عادية، ولذلك أقول: خذوا هذه الأمثلة يا من تقلدون العالم الغربي: فالكثير منهم عندهم مليارات، وقد تركوها كلها، ليعطوا الخير للناس!!!
إن الصدقة باب من أبواب الجنة، هذا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآن أصبحنا نكتشف فائدة الصدقة، فهل أنا أحتاج إلى دليل مادي حتى أصدق النبي صلى الله عليه وسلم؟!
أنا كمسلم لا أحتاج إلى هذا كله، وإنما أرى أثراً واقعاً؛ ولكننا لأننا ابتعدنا عن الله تعالى أصبحنا نرى بنور العالم الغربي، ونسينا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يوجهنا هذا التوجيه، وهذا كما قلتُ من البداية: لأننا نسينا الله تعالى!
وهنا ندخل إلى سؤالك عن قضية الذمم، وفسادها، وشراء الإنسان، فأقول: الذي دفع المال لم يشترِ فلاناً، بل فلان هو الذي أرخص قيمته، فالذمة لا تشترى، وإنما هو الذي باعها رخيصة! ومن لم يصدق كلامي، فليجب على سؤالي بصراحة:
لو أخذت ألف دينار وقلتُ: من يأخذ هذه الألف ويبيعني أخته؟!! من سيقبل؟
قلتُ:
أعوذ بالله.
فقال:
هذا يعني أن أختك لو كانت قيمتها نازلة عندك، فستبيعها برخص التراب!
السؤال السابق نفسه، ولكن ضع مكان أختك الوطن، أو الشرف، أو قيمتك، سيبقى الجواب هو هو، فالناس ممن هم على هذه الشاكلة هم الذين أرخصوا قيمة أنفسهم، فباعها بأي ثمن، فالذمة ليست رخيصة؛ وإنما أنت الذي أرخصتها.
قلتُ:
وما رأيك بمن يقول: وهي مقولة لها دلالتها، وتكتنز رؤية للمجتمع، عندما تنتشر الرشوة المباشرة، وغير المباشرة، وتتأرجح كفة الحقوق تقدماً، وتأخراً حسب المصلحة، والمال، يقول لك: كل إنسان له سعره، وهذا الذي تمنع عن أخذ الرشوة، لم يمتنع لنزاهته، وذمته، ولكنه لأنه لم يعطوه المبلغ الذي يقنعه!!
وكأنه لا يوجد أحد عنده قيم، وثوابت، بل الكل يشترى بالمال!!
فقال:
دعني أقول لهذا الإنسان صاحب هذا الكلام: إنه يتكلم من قناعة مختلة هي التي تقوده وتسيّره، والإسلام سمى ذلك هوى النفس، فأصبح هوى نفسه هو الذي يسيره، فمثلاً: لو كان أمامي طعام فاسد، فإن المنطق البديهي يقول لي: لا تأكله؛ لأنه فاسد، ويضرني؛ ولكن عندما تأكل الأكل الفاسد، وتعتبره طبيعياً، وتعتب على الإنسان الذي لم يأكل الفاسد؛ فأنت حينها تنطبق عليك الآية القرآنية: {أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون}!!
فالذي يبيع ذمته، أصبحت لديه قناعات مختلة، ثم أصبحت هذه القناعات هي الصحيحة من وجهة نظره القاصرة، وأصبح هوى النفس يبرر له الخطأ، فهذا الإنسان لديه مشكلة حقيقية، ونستطيع بالمعرفة الحديثة الموجودة أن نحلها.